منقولة فانتازيا وخيال حكاية العاشق والمعشوق - ألف ليلة وليلة (1 مشاهد)

ج

جدو سامى 🕊️ 𓁈

عنتيل زائر
غير متصل
حكاية العاشق والمعشوق
علم أيها الملك السعيد أنه كان في سالف الزمان مدينة وراء جبال أصبهان يقال لها المدينة الخضراء وكان بها ملك يقال له الملك سليمان وكان صاحب جود وإحسان وعدل وأمان وفضل وامتنان وسارت إليه الركبان من كل مكان وشاع ذكره في سائر الأقطار والبلدان وأقام في المملكة مدة مديدة من الزمان وهو في عز وأمان إلا أنه كان خالياً من الأولاد والزوجات وكان له وزير يقاربه في الصفات من الجود والهبات فاتفق أنه أرسل إلى وزيره يوماً من الأيام وأحضره بين يديه وقال له يا وزير إنه ضاق صدري وعيل صبري وضعف مني الجلد لكوني بلا زوجة ولا ولد وما هذا سبيل الملوك الحكام على كل أمير وصعلوك فإنهم يفرحون بخلفة الأولاد وتتضاعف لهم بهم العدد والأعداد وقد قال النبي صلى **** عليه وسلم تناكحوا وتناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة فما عندك من الرأي يا وزير فأشر علي بما فيه النصح من التدبير.

فلما سمع الوزير ذلك الكلام فاضت الدموع من عينيه بالانسجام وقال هيهات يا ملك الزمان أن أتكلم فيما هو خصائص الرحمن أتريد أن أدخل النار بسخط الملك الجبار؟ فقال له الملك: اعلم أيها الوزير أن الملك إذا اشترى جارية لا يعلم حسبها ولا يعرف نسبها فهو لا يدري خساسة أصلها، حتى يجتنبها ولا شرف عنصرها حتى يتسرى بها أفضى إليها ربما حملت منه فيجيء الولد منافقاً ظالماً سفاكاً للدماء ويكون مثلها مثل الأرض السخية إذا زرع فإنه يخبث نباته ولا يحسن نباته وقد يكون ذلك الولد متعرضاً لسخط مولاه ولا يفعل ما أمره به ولا يجتنب ما عنه نهاه فأنا لا أسبب في هذا بشراء جارية أبداً وإنما مرادي أن تخطب لي بنتاً من بنات الملوك يكون نسبها معروفاً وجمالها موصوفاً فإن دلتني على ذات النسب والدين من بنات ملوك المسلمين فإني أخطبها وأتزوج بها على رؤوس الأشهاد ليحصل لي بذلك رضا رب العباد، فقال له الوزير: إن **** قضى حاجتك وبلغك أمنيتك، فقال له: وكيف ذلك؟ فقال له: اعلم أيها الملك أنه بلغني أن الملك زهر شاه صاحب الأرض البيضاء له بنت بارعة في الجمال يعجز عن وصفها القيل والقال ولم يوجد لها في هذا الزمان مثيل لأنها في غاية الكمال قويمة الاعتدال ذات طرف كحيل وشعر طويل وخصر نحيل وردف ثقيل إن أقبلت فتنت وإن أدبرت قتلت تأخذ القلب والناظر إليها كما قال الشاعر:

هيفاء يخجل غصن البان قامـتـهـا
لم يحك طلعتها شمـس ولا قـمـر
كأنما ريقها شهـد وقـد مـزجـت
به المدامة ولكـن ثـغـرهـا درر
ممشوقة القد من حور الجنان لـهـا
وجه جميل وفي ألحاظـهـا حـور
وكم لها من قتيل مات كيد من كمـد
وفي طريق هواها الخوف والخطر
إن عشت فهي المنى ما شئت أذكرها
أو مت من دونها لم يجدن بالعمر

فلما فرغ الوزير من وصف تلك الجارية قال للملك سليمان شاه: الرأي عندي أيها الملك أن ترسل إلى أبيها رسولاً فطناً خبيراً بالأمور مجرباً لتصاريف الدهور ليتلطف في خطبتها لك من أبيها فإنها لا نظير لها في قاصي الأرض ودانيها وتحظى منها بالوجه الجميل ويرضى عليك الرب الجليل، فقد ورد عن النبي صلى **** عليه وسلم أنه قال: لا رهبانية في الإسلام فعند ذلك توجه إلى الملك كما ل الفرح واتسع صدره وانشرح وزال عنه الهم والغم، ثم أقبل على الوزير وقال: اعلم أيها الوزير أنه لا يتوجه لهذا الأمر إلا أنت لكمال عقلك وأدبك، فقم إلى منزلك واقض أشغالك وتجهز في غد واخطب لي هذه البنت التي أشغلت بها خاطري ولا تعد لي إلا بها فقال: سمعاً وطاعة، ثم إن الوزير توجه إلى منزله واستدعى بالهدايا التي تصلح للملوك من ثمين الجواهر ونفيس الذخائر وغير ذلك مما هو خفيف في الحمل وثقيل في الثمن ومن الخيل العربية والدروع الداودية وصناديق المال التي يعجز عن وصفها المقال، ثم حملوها على البغال والجمال وتوجه الوزير ومعه مائة مملوك ومائة جارية وانتشرت على رأسه الرايات والأعلام وأوصاه الملك أن يأتي إليه في مدة قليلة من الأيام.

وبعد توجهه صار الملك سليمان شاه على مقالي النار مشغولاً بحبها في الليل والنهار وسار الوزير ليلاً نهاراً يطوي برار وأقفار حتى بقي بينه وبين المدينة التي هو متوجه إليها يوم واحد، ثم نزل شاطئ نهر واحضر بعض خواصه وأمره أن يتوجه إلى الملك زهر شاه بسرعة ويخبره بقدومه عليه فقال سمعاً وطاعة، ثم توجه بسرعة إلى تلك المدينة فلما قدم عليها وافق قدومه أن الملك زهر شاه كان جالساً في بعض المنتزهات قدام باب المدينة فرآه وهو داخل وعرف أنه غريب فأمر بإحضاره بين يديه، فلما حضر الرسول وأخبره بقدوم وزير الملك الأعظم سليمان شاه صاحب الأرض الخضراء وجبال أصفهان ففرح الملك زهر شاه ورحب بالرسول وأخذه وتوجه إلى قصره وقال: أين فارقت الوزير؟ فقال: فارقته على شاطئ النهر الفلاني وفي غد يكون واصلاً إليك وقادماً عليك أدام **** نعمته عليك ورحم والديك فأمر زهر شاه بعض وزرائه أن يأخذ معظم خواصه وحجابه ونوابه وأرباب دولته ويخرج بهم إلى مقابلته تعظيماً للملك سليمان شاه لأن حكمه نافذ في الأرض. هذا ما كان من أمر الملك زهر شاه، وأما ما كان من أمر الوزير فإنه استقر في مكان إلى نصف الليل ثم رحل متوجهاً إلى المدينة فلما لاح الصباح وأشرقت الشمس على الروابي والبطاح لم يشعر إلا ووزير الملك زهر شاه وحجابه وأرباب دولته وخواص مملكته قدموا عليه واجتمعوا به على فراسخ من المدينة فأيقن الوزير بقضاء حاجته وسلم على الذين قابلوه ولم يزالوا سائرين قدامه حتى وصلوا إلى قصر الملك ودخلوا بين يديه في باب القصر إلى سابع دهليز وهو المكان الذي لا يدخله الراكب لأنه قريب من الملك فترجل الوزير وسعى على قدميه حتى وصل إلى إيوان عال وفي صدر ذلك الإيوان سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر وله أربعة قوائم من أنياب الفيل وعلى ذلك السرير مرتبة من الأطلس الأخضر مطرزة بالذهب لأحمر ومن فوقها سرادق بالدر والجوهر والملك زهر شاه جالس على ذلك السرير وأرباب دولته واقفون في خدمته، فلما دخل الوزير عليه وصار بين يديه ثبت جنانه وأطلق لسانه وأبدى فصاحة الوزراء وتكلم بكلام البلغاء.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن وزير الملك سليمان شاه لما دخل على الملك زهر شاه قربه الملك زهر شاه وأكرمه غاية الإكرام وأجلسه بجابنه وتبسم في وجهه وشرفه بلطيف الكلام ولم يزالا على ذلك إلى وقت الصباح، ثم قدموا السماط في ذلك الإيوان فأكلوا جميعاً حتى اكتفوا، ثم رفع السماط وخرج كل من في المجلس ولم يبق إلا الخواص، فلما رأى الوزير خلو المكان نهض قائماً على قدميه وأثنى على الملك وقبل الأرض بين يده ثم قال: أيها الملك الكبير والسيد الخطير إني سعيت إليك وقدمت عليك في أمر لك فيه الصلاح والخير والفلاح وهو أني قد أتيتك رسولاً خاطباً وفي بنتك الحسيبة النسيبة راغباً من عند الملك سليمان شاه صاحب العدل والأمان والفضل والإحسان ملك الأرض الخضراء وجبال أصفهان وقد أرسل إليك الهدايا الكثيرة والتحف الغزيرة وهو في مصاهرتك راغب، فهل أنت له كذلك طالب، ثم سكت ينتظر الجواب.

فلما سمع الملك زهر شاه ذلك الكلام نهض قائماً على الأقدام ولثم الأرض باحتشام فتعجب الحاضرون من خضوع الملك للرسول واندهشت منهم العقول ثم إن الملك أثنى على ذي الجلال والإكرام وقال وهو في حالة القيام: أيها الوزير المعظم والسيد المكرام اسمع ما أقول: إننا للملك سليمان شاه من جملة رعاياه ونتشرف بنسبه وننافس فيه وابنتي جارية من جملة جواريه وهذا أجل مرادي ليكون ذخري واعتمادي. ثم إنه أحضر القضاة والشهود شهدوا أن الملك سليمان شاه وكل وزيره في الزواج وتولى الملك زهر شاه عقد ابنته بابتهاج، ثم إن القضاة أحكموا عقد النكاح ودعوا لهما بالفوز والنجاح، فعند ذلك قام الوزير وأحضر ما جاء به من الهدايا ونفائس التحف والعطايا وقدم الجميع للملك زهر شاه، ثم إن الملك أخذ في تجهيز ابنته وإكرام الوزير وعم بولائمه العظيم والحقير واستمر في إقامة الفرح مدة شهرين ولم يترك فيه شيئاً مما يسر القلب والعين، ولما تم ما تحتاج إليه العروس أمر بإخراج الخيام فضربت بظاهر المدينة وعبوا القماش في الصناديق وهيأوا الجواري الروميات والوصائف التركيات.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد ثم إنهم أحضروا الوصائف التركيات وأصحب العروسة بنفيس الذخائر وثمين الجواهر ثم صنع محفة من الذهب الأحمر مرصعة بالدر والجوهر وأفرد لها عشرة بغال للمسير وصارت تلك المحفة كأنها مقصورة من المقاصير وصاحبتها كأنها حورية من الحور الحسان وخدرها كقصر من قصور الجنان ثم حزموا الذخائر والأموال وحملوها على البغال والجمال وتوجه الملك زهر شاه معهم قدر ثلاثة فراسخ، ثم ودع ابنته وودع الوزير ومن معه ورجع إلى الأوطان في فرح وأمان وتوجه الوزير بابنة الملك وسار ولم يزل يطوي المراحل والقفار.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير توجه بابنة الملك وسار ولم يزل يطوي المراحل والقفار ويجد المسير في الليلة والنهار حتى بقي بينه وبين بلاده ثلاثة أيام ثم أرسل إلى الملك سليمان شاه من يخبره بقدوم العروسة فأسرع الرسول بالسير حتى وصل إلى الملك وأخبره بقدوم العروسة ففرح الملك سليمان شاه وخلع على الرسول وأمر عساكره أن يخرجوا في موكب عظيم إلى ملاقاة العروسة ومن معها بالتكريم وأن يكونوا في أحسن البهجات وأن ينشروا على رؤوسهم الرايات فامتثلوا أوامره ونادى المنادي أنه لا تبقى بنت مخدرة ولا حرة موقرة ولا عجوز مكسرة إلا وتخرج إلى لقاء العروسة فخرجوا جميعاً إلى لقائها وسعت كبراؤهم في خدمتها واتفقوا على أن يتوجهوا بها في الليل إلى قصر الملك واتفق أرباب الدولة على أن يزينوا الطريق وأن يقفوا حتى تمر بهم العروسة والخدم قدامها والجواري بين يديها وعليها الخلعة التي أعطاها لها أبوها.

فلما أقبلت أحاط بها العسكر ذات اليمين وذات الشمال ولم تزل المحفة سائرة بها إلى أن قربت من القصر ولم يبق أحد إلا وقد خرج ليتفرج عليها وصارت الطبول ضاربة والرماح لاعبة والبوقات صائحة وروائح الطيب فائحة والرايات خافقة والخيل متسابقة حتى وصلوا إلى باب القصر وتقدمت الغلمان بالمحفة إلى باب السر فأضاء المكان ببهجتها وأشرقت جهاته بحلي زينتها فلما أقبل الليل فتح الخدم أبواب السرادق ووقفوا وهم محيطون بالباب، ثم جاءت العروسة وهي بين الجواري كالقمر بين النجوم أو الدرة الفريدة بين اللؤلؤ المنظوم، ثم دخلت المقصورة وقد نصبوا لها سرير من المرمر المرصع بالدر والجوهر فجلست عليه ودخل عليها الملك وأوقع **** محبتها في قلبه فأزال بكارتها وزال ما كان عنده من القلب والسهر وأقام عندها نحو شهر فعلقت منه في أول ليلة. وبعد تمام الشهر خرج وجلس على سرير مملكته وعدل في رعيته إلى أن وفت أشهرها.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك عندما جلس على سرير مملكته إلى أن وفت أشهرها وفي آخر ليلة الشهر التاسع جاءها المخاض عند السحر فجلست على كرسي الطلق وهون **** عليها الولادة فوضعت غلاماً ذكراً تلوح عليه علامات السعادة، فلما سمع الملك بالولد فرح فرحاً جليلاً وأعطى المبشر مالاً جزيلاً، ومن فرحته توجه إلى الغلام وقبله بين عينيه وتعجب من جماله الباهر وتحقق فيه قول الشاعر:

**** خول منـه آجـام الـفـلا
أسداً وآفاق الرياسة كوكـبـا
هشت لمطلعه الأسنة والأسـرة
والمحافل والجحافل والظبـى
لا تركبوه على النهـود فـإنـه
ليرى ظهور الخيل أوطأ مركبا
ولتفطموه عن الرضاع فـإنـه
ليرى دم الأعداء أحلى مشربـا

ثم إن الدايات أخذن ذلك المولود وقطعن سرته وكحلن مقلته ثم سموه تاج الملوك خاران وارتضع ثدي الدلال وتربى في حجر الإقبال، ولا زالت الأيام تجري والأعوام تمضي حتى صار له من العمر سبع سنين، فعند ذلك أحضر الملك سليمان شاه العلماء والحكماء وأمرهم أن يعلموا ولده الخط والحكمة والأدب فمكثوا على ذلك مدة سنين حتى تعلم ما يحتاج إليه الأمر، فلما عرف جميع ما طلبه منه الملك أحضره من عند الفقهاء والمعلمين واحضر له أستاذاً يعلمه الفروسية فلم يزل يعلمه حتى صار له من العمر أربعة عشر سنة، وكان إذا خرج لبعض أشغاله يفتتن به كل من رآه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

في الليلة الخامسة والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن تاج الملوك خاران بن الملك سليمان شاه مهر في الفروسية وفاق أهل زمانه وصار من فرط جماله إذا خرج إلى بعض أشغاله يفتتن به كل من رآه حتى نظموا فيه الأشعار وتهتكت في محبته الأحرار لما حوى من الجمال الباهر كما قال فيه الشاعر:

عانقته فسكرت من طيب الشـذا
غصناً طيباً بالنسيم قد اغـتـدى
سكران ما شرب المدام وإنـمـا
أمسى بخمر رضابة متـنـبـذا
أضحى الجمال بأسره في أسـره
فلأجل ذلك على القلوب استحوذا
و**** ما خطر السلو بخـاطـري
ما دمت في قيد الحـياة ولا إذا
إن عشت عشت على هواه وإن مت
وجداً بـه وصـبـابة يا حـبـذا
فلما بلغ من العمر ثمانية عشر عاماً وبلغ مبلغ لرجال زاد به الجمال ثم صار لتاج الملوك خاران أصحاب وأحباب وكل من تقرب إليه يرجو أنه يصير سلطاناً بعد موت أبيه وأن يكون عنده أميراً. ثم إنه تعلق بالصيد والقنص وصار لم يفتر عنه ساعة واحدة وكان والده سليمان شاه ينهاه عن ذلك مخافة عليه من آفات البر والوحوش فلم يقبل منه ذلك، فاتفق أنه قال لخدامه: خذوا معكم عليق عشرة أيام فامتثلوا ما أمرهم به، فلما خرج بأتباعه للصيد والقنص.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

في الليلة السادسة والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن تاج الملوك لما أمر خدامه بالخروج وساروا في البر ولم يزالوا سائرين أربعة أيام حتى أشرفوا على أرض خضراء فيها وحوشاً راتعة وأشجار يانعة وعيوناً نابعة فقال تاج الملوك لأتباعه: انصبوا الحبائل هنا وأوسعوا دائرة حلقتها ويكون اجتماعنا عند رأس الحلقة في المكان الفلاني، فامتثلوا أمره ونصبوا الحبائل وأوسعوا دائرة حلقتها فاجتمع فيها شيء كثير من أصناف الوحوش والغزلان إلى أن ضجت منهم الوحوش وتنافرت في وجوه الخيل فأغرى عليها الكلاب والفهود والصقور ثم ضربوا الوحوش بالنشاب فأصابوا مقاتل الوحوش وما وصلوا إلى آخر الحلقة لا وقد أخذوا من الوحوش شيئاً كثيراً وهرب الباقي، وبعد ذلك نزل تاج الملوك على الماء وأحضر الصيد وقسمه وأفرد لأبيه سليمان شاه خاص الوحوش وأرسله إليه وفرق البعض على أرباب دولته.
فلما أصبح الصباح أقبلت عليه قافلة كبيرة مشتملة على عبيد وغلمان وتجار فنزلت تلك القافلة على الماء والخضرة فلما رآهم تاج الملوك قال لبعض أصحابه: ائتني بخبر هؤلاء واسألهم لأي شيء نزلوا في هذا المكان، فلما توجه إليهم الرسول قال لهم: أخبرونا من أنتم وأسرعوا في رد الجواب فقالوا له: نحن تجار ونزلنا لأجل الراحة لأن المنزل بعيد علينا وقد نزلنا في هذا المكان لأننا مطمئنون بالملك سليمان شاه وولده ونعلم أن كل من نزل في هذا المكان صار في أمان واطمئنان ومعنا قماش نفيس جئنا به من أجل ولده تاج الملوك فرجع الرسول إلى ابن الملك وأعلمه بحقيقة الحال وأخبره بما سمعه من التجار فقال ابن الملك: إذا كان معهم شيء جاؤوا به من أجلي فما أدخل المدينة ولا أرحل من هذا المكان حتى أستعرضه ثم ركب جواده وسار وسارت مماليكه خلفه إلى أن أشرف على القافلة فقام له التجار ودعوا له بالنصر والإقبال ودوام العز والأفضال وقد ضربت له خيمة من الأطلس الأحمر مزركشة من الدر والجوهر وفرش له مقعداً سلطانياً فوق بساط من الحرير وصدره مزركش بالزمرد فجلس تاج الملوك ووقفت المماليك في خدمته وأرسل إلى التجار وأمرهم أن يحضروا بجميع ما معهم فأقبلت عليه التجار ببضائعهم فاستعرض جميع بضائعه وأخذ منها ما يصلح له ووفى لهم بالثمن ثم ركب وأراد أن يسير فلاحت منه التفاتة إلى القافلة فرأى شاب جميل الشباب نظيف الثياب، ظريف المعاني بجبين أزهر ووجه أقمر إلا أن ذلك الشاب قد تغيرت محاسنه وعلاه الاصفرار من فرقة الأحباب.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن تاج الملوك لاحت منه التفاتة إلى القافلة فرأى شاباً جميل الشباب نظيف الثياب ظريف المعاني، إلا أن ذلك الشاب قد تغيرت محاسنه وعلاه الاصفرار من فرقة الأحباب وزاد به الانتحاب وسالت من جبينه العبر وهو ينشد هذه الأبيات:

طال الفراق ودام الهم والـوجـل
والدمع في مقلتي يا صاح منهمل
والقلب ودعته يوم الفـراق وقـد
بقيت فرداً فلا قـلـب ولا أمـل
يا صاحبي قف معي حتى أودع من
من نطقها تشفى الأمراضوالعلل
ثم إن الشاب بعدما فرغ من الشعر بكى ساعة وغشي عليه فلما رآه تاج الملوك على هذه الحالة في أمره وتمشى إليه فلما أفاق من غشيته نظر ابن الملك واقفاً على رأسه فنهض قائماً على قدميه وفي الأرض بين يديه فقال له تاج الملوك: لأي شيء لم تعرض بضاعتك علينا؟ فقال: يا مولاي إن بضاعتك ليس فيها شيء يصلح لسعادتك فقال: لا بد أن تعرض علي ما معك وتخبرني بحالك فإني أراك باكي العين حزين القلب فإن كنت مظلوماً أزلنا ظلامتك وإن كنت مديوناً قضينا دينك فإن قلبي قد احترق من أجلك حين رأيتك ثم إن تاج الملوك أمر بنصب كرسي فنصبوا له كرسياً من العاج والأبنوس مشبكاً بالذهب والحرير وبسطوا له بساطاً من الحرير فجلس تاج الملوك على الكرسي وأمر الشاب أن يجلس على البساط وقال له: اعرض علي بضاعتك فقال له الشاب: يا مولاي لا تذكر لي ذلك فإن بضاعتي ليست مناسبة لك، فقال له تاج الملوك: لا بد من ذلك ثم أمر بعض غلمانه بإحضارها فأحضروها قهراً عنه فلما رآها الشاب جرت دموعه وبكى وأن واشتكى وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:

بما بجفنيك من غنج ومن كـحـل
وما بقدك من لـين ومـن مـيل
وما بثغرك من خمر ومن شـهـد
وما بعطفك من لطف ومن ملـل
عندي زيارة طيف منك يا أمـلـي
أحلى من الأمن عند الخائف الوجل
ثم إن الشاب فتح بضاعته وعرضها على تاج الملوك قطعة قطعة وتفصيله وأخرج من جملتها ثوباً من الأطلس منسوجاً بالذهب يساوي ألف دينار، فلما فتح الثوب وقع من وسطه خرقة فأخذها الشاب بسرعة ووضعها تحت وركه فقال له تاج الملوك: ما هذه الخرقة؟ فقال: يا مولاي ليس لك بهذه الخرقة حاجة فقال له ابن الملك: أرني أياها قال له: امتنعت من عرض بضاعتي عليك إلا لأجلها فإني لا أقدر على أنك تنظر إليها.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: أنا ما امتنعت من عرض بضاعتي عليك إلا لأجلها فإني لا أقدر على أنك تنظر إليها فقال له تاج الملوك: لا بد من كوني أنظر إليها وألح عليه واغتاظ، فأخرجها من تحت ركبتيه وبكى فقال له تاج الملوك: أرى أحوالك غير مستقيمة فأخبرني ما سبب بكائك عند نظرك إلى هذه الخرقة؟ فلما سمع الشاب ذكر الخرقة، تنهد وقال: يا مولاي إن حديثي عجيب وأمري غريب، مع هذه الخرقة وصاحبتها وصاحبة هذه الصور والتماثيل.

ثم نشر الخرقة وإذا فيها غزال مرقومة بالحرير مزركشة بالذهب الأحمر وقبالها صورة غزال آخر وهي مرقومة بالفضة وفي رقبته طوق من الذهب الأمر وثلاث قصبات من الزبرجد فلما نظر تاج الملوك إليه وإلى حسن صنعته قال: سبحان **** الذي علم الإنسان ما لم يعلم وتعلق قلب تاج الملوك بحديث هذا الشاب فقال له: احك لي قصتك مع صاحبة هذا الغزال.

فقال الشاب: اعلم يا مولاي أن أبي كان من التجار الكبار ولم يرزق ولداً غيري وكان لي بنت عم تربيت أنا وإياها في بيت أبي لأن أباها مات، وكان قبل موته تعاهد هو وأبي على أن يزوجاني بها فلما بلغت مبلغ الرجال وبلغت هي مبلغ النساء لم يحجبوها عني ولم يحجبوني عنها، ثم تحدث والدي مع أمي وقال لها: في هذه السنة نكتب كتاب عزيز على عزيزة واتفق مع أمي على هذا الأمر ثم شرع أبي في تجهيز مؤن الولائم هذا كله وأنا وبنت عمي ننام مع بعضنا في فراش واحد ولم ندر كيف الحال وكانت هي أشعر مني، وأعرف وأدرى، فلما جهز أبي أدوات الفرح ولم يبق غير كتب الكتاب، والدخول على بنت عمي أراد أبي أن يكتب الكتاب بعد صلاة الجمعة، ثم توجه إلى أصحابه من التجار وغيرهم وأعلمهم بذلك ومضت أمي عزمت صاحباتها من النساء ودعت أقاربها. فلما جاء يوم الجمعة غسلوا القاعة المعدة للجلوس وغسلوا رخامها وفرشوا في دارنا البسط ووضعوا فيها ما يحتاج إليه الأمر بعد أن زوقوا حيطانها بالقماش المقصب واتفق الناس أن يجيئوا بيتنا بعد صلاة الجمعة ثم مضى أبي وعمل الحلويات وأطباق السكر وما بقي غير كتب الكتاب، وقد أرسلتني أمي إلى الحمام وأرسلت خلفي بدلة جديدة من أفخر الثياب، فلما خرجت من الحمام لبست تلك البدلة الفاخرة وكانت مطيبة فلما لبستها فاحت منها رائحة زكية عبقت في الطريق، ثم أردت أن أذهب إلى الجامع فتذكرت صاحباً لي فرجعت أفتش عليه ليحضر كتب الكتاب وقلت في نفسي: أشتغل بهذا الأمر إلى أن يقرب وقت الصلاة ثم إني دخلت زقاقاً ما دخلته قط وكنت عرقان من أثر الحمام والقماش الجديد الذي على جسدي فساح عرقي وفحت روائحي فقعدت في رأس الزقاق لأرتاح على مصطبة، وفرشت تحتي منديلاً مطرزاً كان معي فاشتد الحر فعرق جبيني وصار العرق ينحدر على وجهي ولم يمكن مسح العرق عن وجهي بالمنديل لأنه مفروش تحتي، فأردت أن آخذ ذيل فرجيتي وأمسح وجنتي فما أدري إلا ومنديل أبيض وقع علي من فوق وكان ذلك المنديل أرق من النسيم ورؤيته ألطف من شفاء السقيم فمسكته بيدي ورفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل، فوقعت عيناي في عين صاحبة هذا الغزال.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والثلاثين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فرفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل فوقعت عيني في عين صاحبة هذا الغزال وإذا بها مطلة من طاقة من شباك نحاس لم تر عيني أجمل منها، وبالجملة يعجز عن وصفها لساني فلما رأتني نظرت إليها وضعت إصبعها في فمها ثم أخذت إصبعها الوسطاني وألصقته بإصبعها الشاهد ووضعتهما على صدرها بين نهديها ثم أدخلت رأساً من الطاقة وسدت باب الطاقة وانصرفت فانطلقت في قلبي النار وزاد بي الاستعار وأعقبتني النظرة ألف حسرة وتحيرت لأني لم أسمع ما قالت ولم أفهم ما به أشارت فنظرت إلى الطاقة ثانياً، فوجدتها مطبوقة فصبرت إلى مغيب الشمس فلم أسمع حساً ولم أر شخصاً فلما يئست من رؤيتها قمت من مكاني وأخذت المنديل معي، ثم فتحته ففاحت منه رائحة المسك حصل لي من تلك الرائحة طرب عظيم حتى صرت كأنني في الجنة، ثم نشرته بين يدي فسقطت منه ورقة لطيفة ففتحت الورقة فرأيتها مضمخة بالروائح الزكيات ومكتوب عليها هذه الأبيات:

بعثت له أشكو من ألم الجوى
بخط رقيق والخطوط فنون
فقال خليلي ما لخطك هكذا
رقيقاً دقيقاً لا يكـاد يبـين
فقلت لأني في نحـول ودقة
كذا خطوط العاشقين تكون

ثم بعد أن قرأت الأبيات أطلقت في بهجة المنديل، نظر العين فرأيت في إحدى حاشيته تسطير هذين البيتين:


كتب العذار ويا له من كاتب
سطرين في خديه بالريحان
وأخيرة القمرين منه إذا بـدا
وإذا انثنى وأخجله الأغصان

وسطر الحاشية الأخرى هذين البيتين:

كتب العذار بعنبـر فـي لـؤلـؤ
سطرين من سبج علـى تـفـاح
القتل في الحدق المراضي إذا رنت
والسكر في الوجنات لا في الراح
فلما رأيت ما على المنديل من أشعار انطلق في فؤادي لهيب النار، وزادت بي الأشواق والأفكار وأخذت المنديل والورقة وأتيت بهما إلى البيت وأنا لا أدري لي حيلة في الوصال ولا أستطيع في العشق وتفصيل الأجمال، فما وصلت إلى البيت إلا بعد مدة من الليل فرأيت بنت عمي جالسة تبكي فلما رأتي مسحت دموعها وأقبلت علي وقلعتني ثيابي وسألتني عن سبب غيابي وأخبرتني أن جميع الناس من أمراء وكبراء وتجار وغيرهم قد اجتمعوا في بيتنا وحضر القاضي والشهود، وأكلوا الطعام واستمروا مدة جالسين ينتظرون حضورك من أجل كتب الكتاب فلما يئسوا من حضورك تفرقوا وذهبوا إلى حال سبيلهم وقالت لي: أباك اغتاظ بسبب ذلك غيظاً شديداً وحلف أنه لا يكتب كتابنا إلا في السنة القابلة لأنه غرم في هذا الفرح مالاً كثيراً ثم قالت لي: ما الذي جرى لك في هذا اليوم حتى تأخرت إلى هذا الوقت وحصل ما حصل بسبب غيابك؟ فقلت لها: جرى لي كذا وكذا وذكرت لها المنديل وأخبرتها بالخبر من أوله إلى آخره فأخذت الورقة والمنديل، وقرأت ما فيهما وجرت دموعها على خدودها وأنشدت هذه الأبيات:

من قال أول الهـوى اخـتـيار
فقل كذبت كلـه اضـطـرار
وليس بعد الاضـطـرار عـار
دلت على صحتـه الأخـبـار
ما زيفت على صحيح الـنـقـد
فإن تشأ فقـل عـذاب يعـذب
أو ضربان في الحشى أو ضرب
نعـمة أو نـقـــمة أو أرب
تتأنس النفس له أو تـعـطـب
قد حرت بين عكسه والطـرد
ومـع ذا أيامـه مـواســـم
وثغرها على الـدوام بـاسـم
ونفحـات طـيبـهـا نـواسـم
وهو لكل مـا يشـين حـاسـم
ما حل قط قلـب نـذل وغـد

ثم إنها قالت لي: فما قالت لك وما أشارت به إليك؟ فقلت لها: ما نطقت بشيء غير أنها وضعت إصبعها في فمها ثم قرنتها بالإصبع الوسطى وجعلت الإصبعين على صدرها وأشارت إلى الأرض ثم أدخلت رأسها وأغلقت الطاقة ولم أرها بعد ذلك فأخذت قلبي معها فقعدت إلى غياب الشمس أنها تطل من الطاقة، ثانياً فلا تفعل فلما يئست منها قمت من ذلك المكان وهذه قصتي وأشتهي منك أن تعينيني على ما بليت فرفعت رأسها إلي وقالت: يا ابن عمي لو طلبت عيني لأخرجتها لك من جفوني، ولا بد أن أساعدك على حاجتك وأساعدها على حاجتها فإنها مغرمة بك كما أنك مغرم بها فقلت لها: وما تفسير ما أشارت به؟ قالت: أما موضع إصبعها في فمها فإنه إشارة إلى أنك عندها بمنزلة روحها من جسدها وإنما تعض على وصالك بالنواجذ وأما المنديل فإنه إشارة إلى سلام المحبين على المحبوبين وأما الورقة فإنها إشارة إلى أن روحها متعلقة بك وأما موضع إصبعيها على صدريها بين نهديها، فتفسيره أنها تقول لك بعد يومين تعال هنا ليزول عني بطلعتك العنا. اعلم يا ابن عمي أنها لك عاشقة وبك واثقة وهذا ما عندي من التفسير لإشارتها ولو كنت أدخل وأخرج لجمعت بينك وبينها في أسرع وقت وأستركما بذيلي. قال الغلام: فلما سمعت ذلك منها شكرتها على قولها وقلت في نفسي: أنا اصبر يومين ثم قعدت في البيت يومين لا أدخل ولا أخرج ولا آكل ولا أشرب ووضعت رأسي في حجر ابنة عمي وهي تسلني وتقول: قوي عزمك وهمتك طيب قلبك وخاطرك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الأربعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فلما انقضى اليومان قالت لي ابنة عمي: طب نفساً وقر عيناً والبس ثيابك وتوجه إليها على الميعاد ثم إنها قامت وغيرت أثوابي وبخرتني. ثم شددت حيلي وقويت قلبي وخرجت وتمشيت إلى أن دخلت الزقاق وجلست على المصطبة قناعه وإذا بالطاقة قد انفتحت فنظرت بعيني إليها، فلما رأيتها وقعت مغشياً علي ثم أفقت فشددت عزمي وقويت قلبي ونظرت إليها ثانياً فغبت عن الوجود، ثم استفقت فرأيت معها مرآة ومنديلاً أحمر، رأتني شمرت عن ساعديها وفتحت أصابعها الخمس، ودقت بها على صدرها بالكف والخمس أصابع ثم رفعت يديها وأبرزت الماء من الطاقة، وأخذت المنديل الأحمر ودخلت به وعادت وأدلته من الطاقة إلى صوب الزقاق ثلاث مرات وهي تدليه وترفعه ثم عصرته ولفته بيدها وطأطأت رأسها ثم جذبتها من الطاقة وأغلقت الطاقة وانصرفت، ولم تكلمني كلمة واحدة بل تركتني حيران لا أعلم ما أشارت به، واستمريت جالساً إلى وقت العشاء، ثم جئت إلى البيت قرب نصف الليل، فوجدت ابنة عمي واضعة يدها على خدها وأجفانها تسكب العبرات وهي تنشد هذه الأبيات:


مالي وللاحـي عـلـيك يعـنـف
كيف السلو وأنت غصـن أهـيف
يا طلعة سلبت فـؤادي وانـثـنـت
ما للهوى العذري عنها مصـرف
تركية الألحاظ تفعل بـالـحـشـا
ما ليس يفعله الصقيل المـرهـف
حملتني ثقل الـغـرام ولـيس لـي
جلد على حمل القميص وأضعـف
ولقد بكيت دماً لقـول عـوازلـي
من جفن من تهوى بروعك مرهف
يا ليت قلبي مثل قـلـبـك إنـمـا
جسمي كخصرك بالنحافة ملتـف
لك يا أميري في الملاحة نـاظـر
صعب علي وحاجب لا ينـصـف
كذب الذي قال المـلاحة كـلـهـا
في يوسف كم في جمالك يوسـف
أتكلف الإعراض عنـك مـخـافة
من أعين الرقباء كـم أتـكـلـف

فلما سمعت شعرها زاد ما بي من الهموم وتكاثرت علي الغموم ووقعت في زوايا البيت فنهضت إلي وحملتني وقلعتني أثوابي ومسحت وجهي بكمها، ثم سألتني عما جرى لي فحكيت لها جميع ما حصل منها فقالت يا ابن عمي أما إشارتها بالكف والخمسة أصابع فإن تفسيره تعال بعد خمسة أيام وأما إشارتها بالمرآة وإبراز رأسها من الطاقة فإن تفسيره اقعد على دكان الصباغ حتى يأتيك رسولي.

فلما سمعت كلامها اشتعلت النار في قلبي وقلت: ب**** يا بنت عمي إنك تصدقيني في هذا التفسير لأني رأيت في الزقاق صباغاً يهودياً، ثم بكيت فقال ابنة عمي قوي عزمك وثبت قلبك فإن غيرك يشتغل بالعشق مدة سنين ويتجلد على حر الغرام وأنت لك جمعة فكيف يحصل لك هذا الجزع. ثم أخذت بالكلام وأتت لي بالطعام فأخذت لقمة وأردت أن آكلها فما قدرت فامتنعت من الشراب والطعام وهجرت لذيذ المنام واصفر لوني وتغيرت محاسني لأني ما عشقت قبل ذلك ولا ذقت حرارة العشق إلا في هذه المرة فضعفت بنت عمي من أجلي وصارت تذكر لي أحوال العشاق والمحبين على سبيل التسلي في كل ليلة إلى أن أنام، وكنت أستيقظ فأجدها سهرانة من أجلي ودمعها يجري على خدها ولم أزل كذلك إلى أن مضت الخمسة أيام فقامت ابنة عمي وسخنت لي ماء وحممتني وألبستني ثيابي وقالت لي توجه إليها قضى **** حاجتك وبلغك مقصودك من محبوبتك فمضيت ولم أزل ماشياً إلى أن أتيت إلى رأس الزقاق وكان ذلك في يوم السبت فرأيت دكان الصباغ مقفلة فجلست عليها حتى أذن العصر واصفرت الشمس وأذن المغرب ودخل الليل وأنا لا أدري لها أثراً ولم أسمع حساً ولا خبراً فخشيت على نفسي وأنا جالس وحدي. فقمت وتمشيت وأنا كالسكران إلى أن دخلت البيت، فلما دخلت رأيت ابنة

عمي عزيزة وإحدى يديها قابضة على وتد مدقوق في الحائط ويدها الأخرى على صدرها وهي تصعد الزفرات وتنشد هذه الأبيات:


وما وجد أعرابية بان أهلـهـا
فحنت إلى بان الحجارة ورنده
إذا آنست ركباً تكفل شوقـهـا
بنار قرأه والدمـوع بـورده
بأعظم من وجدي بحبي وإنمـا
يرى أنني أذنبت ذنبـاً بـوده

فلما فرغت من شعرها التفتت إلي فرأتني أبكي فمسحت دموعها ودموعي بكمها وتبسمت في وجهي وقالت لي يا ابن عمي هناك **** بما أعطاك فلأي شيء لم تبت الليلة عند محبوبتك ولم تقض منها إربك، فلما سمعت كلامها رفستها بر

جلي في صدرها فانقلبت على الإيوان فجاءت جبهتها على طرف الإيوان وكان هناك وتد فجاء في جبهتها فتأملتها قد انفتح وسال دمها.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والأربعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فلما رفست ابنة عمي في صدرها انقلبت على طرف الإيوان فجاء الوتد في جبينها وسال دمها فسكتت ولم تنطق بحرف واحد، ثم إنها قامت في الحال وأحرقت حرقاً وحشت به ذلك الجرح وتعصبت بعصابة ومسحت الدم الذي سال على البساط وكأن ذلك شيء ما كان، ثم إنها أتتني وتبسمت في وجهي وقالت لي بلين الكلام و**** يا ابن عم ما قلت هذا الكلام استهزاء بك ولا بها وقد كنت مشغولة بوجع رأسي ومسح الدم في هذه الساعة قد خفت رأسي وخفت جبهتي فأخبرني بما كان من أمرك فحكيت لها جميع ما وقع لي منها في ذلك اليوم وبعد كلامي بكيت فقالت يا ابن عمي أبشر بنجاح قصدك وبلوغ أملك إن هذه علامة القبول وذلك أنها غابت لأنها تريد أن تخبرك وتعرف هل أنت صابر أو لا وهل أنت صادق في محبتها أو لا، وفي غد توجه إليها في مكانك الأول وانظر ماذا تشير به إليك فقد قربت أفراحك وزالت أتراحك وصارت تسليني على ما بي وأنا لم أزل متزايد الهموم والغموم، ثم قدمت لي الطعام فرفسته فانكبت كل زبدية في ناحية وقلت كل من كان عاشقاً فهو مجنون لا يميل إلى الطعام ولا يلتذ بمنام فقالت لي ابنة عمي عزيزة و**** يا ابن عمي إن هذه علامة المحبة وسالت دموعها ولمت شقافة الزبادي ومسحت الطعام وجلست تسايرني وأنا أدعو **** أن يصبح الصباح.

فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح توجهت إليها ودخلت ذلك الزقاق بسرعة وجلست على تلك المصطبة وإذا بالطاقة انفتحت وأبرزت رأسها منها وهي تضحك، ثم رجعت وهي معها مرآة وكيس وقصرية ممتلئة زرعاً أخضر وفي يدها قنديل، فأول ما فعلت أخذت المرآة في يدها وأدخلتها في الكيس ثم ربطته ورمته في البيت ثم أرخت شعرها على وجهها ثم وضعت القنديل على رأس الزرع لحظة ثم أخذت جميع ذلك وانصرفت به وأغلقت الطاقة فانفطر قلبي من هذا الحال ومن إشاراتها الخفية ورموزها المخفية وهي لم تكلمني بكلمة قط فاشتد ذلك غرامي وزاد وجدي وهيامي، ثم إني رجعت على عقبي وأنا باكي العين حزين القلب حتى دخلت البيت فرأيت بنت عمي قاعدة ووجهها إلى الحائط وقد احترق قلبها من الهم والغم والغيرة ولكن نكبتها منعتها أن تخبرني بشيء مما عندها من الغرام لما رأت ما أنا فيه من كثرة الوجد والهيام، ثم نظرت إليها فرأيت على رأسها عصابتين إحداهما من الوقعة على جبهتها والأخرى على عينيها بسبب وجع أصابها من شدة بكائها وفي في أسوأ الحالات تبكي وتنشد هذه الأبيات:


أينما كنت لـم تـزل بـأمـان
أيها الراحل المقيم بقـلـبـي
ولك **** حيث أمـسـيت حـار
منقذ من صروف دهر وخطب
ليت شعري بأي أرض ومغنى
أنت مستوطن بدار وشـعـب
إن يكن شربك الـقـراح زلالا
فدموعي من المحاجر شربـي
كل شيء سوى فراقك عـذب
كالتجافي بين الرقاد وجنـبـي

فلما فرغت من شعرها نظرت إلي فرأتني وهي تبكي فمسحت دموعها ونهضت إلي ولم تقدر أن تتكلم مما هي فيه من الوجد ولم تزل ساكتة برهة من الزمان، ثم بعد ذلك قالت: يا ابن عمي أخبرني بما حصل لك منها في هذه المرة فأخبرتها بجميع ما حصل لي فقالت لي: اصبر فقد آن أوان وصالك وظفرت ببلوغ آمالك. أما إشارتها لك بالمرآة وكونها أدخلتها في الكيس فإنها تقول لك: اصبر إلى أن تغطس الشمس، وأما إرخاؤها شعرها على وجهها فإنها تقول لك: إذ أقبل الليل وانسدل سواد الظلام على نور النهار فتعال، وأما إشارتها لك بالقصرية التي فيها زرع فإنها تقول لك: إذا جئت فادخل البستان الذي وراء الزقاق، وأما إشارتها لك بالقنديل فإنها تقول لك: إذا جئت البستان فامش فيه وأي موضع وجدت القنديل مضيئاً فتوجه إليه واجلس تحته وانتظرني فإن هواك قاتلي.

فلما سمعت كلام ابنة عمي صحت من فرط الغرام وقلت: كم تعديني وأتوجه إليها ولا أحصل مقصودي ولا أجد لتفسيرك معنى صحيحاً، فعند ذلك ضحكت بنت عمي وقالت لي: بقي عليك من الصبر أن تصبر بقية هذا اليوم إلى أن يولي النهار ويقبل الليل بالاعتكار فتحظى بالوصال وبلوغ الآمال وهذا الكلام صدق بغير يمين، ثم أنشدت هذين البيتين:

درب الأيام تندرج
وبيوت الهم لا تلج
رب أمر عز مطلبه
قربته ساعة الفرج
ثم إنها أقبلت علي وصارت تسليني بلين الكلام ولم تجسر أن تأتيني بشيء من الطعام مخافة من غضبي عليها ورجاء ميلي إليها ولم يكن لها قصد إلا أنها أتت إلي وقلعتني ثم قالت: يا ابن عمي اقعد معي حتى أحدثك بما يسليك إلى آخر النهار وإن شاء **** تعالى ما يأتي الليل إلا وأنت عند محبوبتك فلم ألتفت إليها وصرت أنتظر مجيء الليل وأقول: يا رب عجل بمجيء الليل، فلما أتى الليل بكت ابنة عمي بكاء شديداً وأعطتني حبة مسك خالص وقالت لي: يا ابن عمي اجعل هذه الحبة في فمك فإذا اجتمعت بمحبوبتك وقضيت منها حاجتك وسمحت لك بسما تمنيت فأنشدها هذا البيت:

ألا أيها العناق بالـلـه خـبـروا
إذا اشتد عشق بالفتى كيف يصنع

ثم إنها قبلتني وحلفتني أني لا أنشدها ذلك البيت من الشعر إلا بعد خروجي من عندها فقلت لها سمعاً وطاعة، ثم خرجت وقت العشاء ومشيت ولم أزل ماشياً حتى وصلت إلى البستان فوجدت بابه مفتوحاً فدخلته فرأيت نوراً على بعد فقصدته فلما وصلت إليه وجدت مقعداً عظيماً معقوداً عليه قبة من العاج والأبنوس والقنديل معلق في وسط تلك القبة وذلك المقعد مفروش بالبسط الحرير المزركشة بالذهب والفضة، وهناك شمعة كبيرة موقودة في شمعدان من الذهب تحت القناديل وفي وسط المقعد فسقية فيها أنواع التصاوير وبجانب تلك الفستقية سفرة مغطاة بفوطة من الحرير وإلى جانبها باطية كبيرة من الصيني مملوءة خمراً وفيها قدح من بلور مزركش بالذهب وإلى جانب الجميع طبق كبير من فضة مغطى مكشوفته فرأيت فيه من سائر الفواكه ما بين تين ورمان وعنب ونارنج وإترنج وكباد وبينها أنواع الرياحين من ورد وياسمين وآس ونسرين ونرجس ومن سائر المشمومات فهمت بذلك المكان وفرحت غاية الفرح وزال عني الهم والترح لكني في هذا الدار أحداً من خلق **** تعالى.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

في الليلة الثانية والأربعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: ولم أر عبداً ولا جارية ولا من يعاني هذه الأمور، فجلست في ذلك المقعد أنتظر مجيء محبوبة قلبي إلى أن مضى أول ساعة من الليل وثاني ساعة وثالث ساعة فلم تأت واشتد بي الجوع لأن لي مدة من الزمان ما أكلت طعاماً لشدة وجدي، فلما رأيت ذلك المكان وظهر لي صدق بنت عمي في فهم إشارة معشوقتي استرحت ووجدت ألم الجوع وقد شوقتني روائح الطعام الذي في السفرة لما وصلت إلى ذلك المكان.

واطمأنت نفسي بالوصال فاشتهت نفسي الأكل فتقدمت إلى السفرة وكشفت الغطاء فوجدت في وسطها طبقاً من الصيني وفيه أربع دجاجات محمرة ومتبلة بالبهارات وحول ذلك الطبق أربع زبادي واحدة حلوى والأخرى حب الرمان والثالثة بقلاوة والرابعة قطايف وتلك الزبادي ما بين حلو وحامض، فأكلت من القطايف وأكلت قطعة لحم وعمدت إلى البقلاوة وأكلت منها ما تيسر ثم قصدت الحلوى وأكلت ملعقة أو اثنتين أو ثلاثة أو أربعاً وأكلت بعض دجاجة وأكلت لقمة فعند ذلك امتلأت معدتي وارتخت مفاصلي وقد كسلت عن السهر فوضعت رأسي على وسادة بعد أن غسلت يدي فغلبني النوم ولم أعلم بما جرى لي بعد ذلك فما استيقظت حتى أحرقني حر الشمس لأن لي أياماً ما ذقت مناماً، فلما استيقظت وجدت على بطني ملحاً وفحماً فانتصبت واقفاً ونفضت ثيابي وقد التفت يميناً وشمالاً فلم أجد أحداً ووجدت أني كنت نائماً على الرخام من غير فرش فتحيرت في عقلي وحزنت عزناً عميقاً وجرت دموعي على خدي وتأسفت على نفسي فقمت وقصدت البيت فلما وصلت إليه وجدت ابنة عمي تدق بيدها على صدرها وتبكي بدمع يباري السحب الماطرات وتنشد هذه الأبيات:

هب ريح من الحي ونـسـيم
فأثار الهوى ينشر هبـوبـه
يا نسيم الصبا هـلـم إلـينـا
كل صب بحظه ونصـيبـه
أو قدرنا من الغرام اعتنقـنـا
كاعتناق المحب صدر حبيبته
حرم **** بعد وجه ابن عمـي
كل عيش من الزمان وطيبه
ليت شعري هل قلبه مثل قلبي
ذائب من حر الهوى ولهيبـه

فلما رأتني قامت مسرعة ومسحت دموعها وأقبلت علي بلين كلامها وقالت: يا ابن عمي أنت في عشقك قد لطف **** بك حيث أحبك من تحب وأنا في بكائي وحزني على فراقك من يلومني، ولكن لا آخذك **** من جهتي ثم إنها تبسمت في وجهي تبسم الغيظ ولاطفتني وقلعتني ثيابي ونشرتها وشمتها وقالت: و**** ما هذه روائح من حظي بمحبوبه فأخبرني بما جرى لك يا ابن عمي فأخبرتها بجميع ما جرى لي فتبسمت تبسم الغيظ. ثانياً وقالت: إن قلبي ملآن موجع فلا عاش من يوجع قلبك، وهذه المرأة تتعزز عليك تعززاً قوياً و**** يا ابن عمي إني خائفة عليك منها، واعلم يا ابن عمي أن تفسير الملح هو أنك مستغرق في النوم فكأنك دلع الطعم بحيث تعارفك النفوس فينبغي لك أن تتملح حتى لا تمجك الطباع، لأنك تدعي أنك من العشاق الكرام والنوم على العشاق حرام فدعواك المحبة كاذبة وكذلك هي محبتها لك كاذبة لأنها لما رأتك نائماً لم تنبهك، ولو كانت محبتها لك صادقة أنبهتك، وأما الفحم فإن تفسير إشارته سود **** وجهك حيث ادعيت المحبة كذباً وإنما أنت صغير لم يكن لك همة إلا الأكل والشرب والنوم فهذا تفسير إشارتها فالله يخلصك منها.

فلما سمعت كلامها ضربت بيدي على صدري وقلت: و**** إن هذا هو الصحيح لأني نمت والعشاق لا ينامون فأنا الظالم لنفسي وما كان أضر علي من الأكل والنوم فكيف يكون الأمر، ثم إني زدت في البكاء وقلت لابنة عمي: دليني على شيء أفعله وارحميني يرحمك **** وإلا مت وكانت بنت عمي تحبني محبة شديدة.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والأربعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك فقالت لي على رأسي وعيني ولكن يا ابن عمي قد قلت لك مراراً لو كنت أدخل وأخرج لكنت أجمع بينك وبينها في أقرب زمن وأغطيكما بذيلي ولا أفعل معك هذا إلا لقصد رضاك وإن شاء **** تعالى أبذل غاية الجهد في الجمع بينكما ولكن اسمع قولي وابلغ أمري واذهب إلى نفس ذلك المكان واقعد هناك فإذا كان وقت العشاء فاجلس في الموضع الذي كنت فيه، واحذر أن تأكل شيئاً لأن الأكل يجلب النوم وإياك أن تنام فإنها لا تأتي لك حتى يمضي الليل ربعه كفاك **** شرها.

فلما سمعت كلامها فرحت وصرت أدعو **** أن يأتي الليل، فلما أردت الانصراف قالت لي ابنة عمي: إذا اجتمعت بها فاذكر لها البيت المتقدم وقت انصرافك فقلت لها: على الرأس والعين فلما خرجت وذهبت إلى البستان وجدت المكان مهيأ على الحالة التي رأيتها أولاً وفيه ما يحتاج إليه من الطعام والشراب والنقل المشموم وغير ذلك فطلعت المقعد وشممت رائحة الطعام فاشتاقت نفسي إليه فمنعتها مراراً فلم أقدر على منعها فقمت وأتيت إلى السفرة وكشفت غطاءها فوجدت صحن دجاج وحوله أربع زبادي من الطعام فيها أربعة ألوان فأكلت من كل لون لقمة وأكلت ما تيسر من الحلوى وأكلت قطعة لحم وشربت من الزردة وأعجبتني فأكثر الشرب منها بالملعقة حتى شبعت وامتلأت بطني وبعد ذلك انطبقت أجفاني فأخذت وسادة ووضعتها تحت رأسي وقلت لعلي أتكئ عليها ولا أنام فأغمضت عيني ونمت وما إن انتبهت حتى طلعت الشمس فوجدت على بطني كعب عظم وفردة طاب بلح وبزرة خروب وليس في المكان شيء من فرش ولا غيره وكأنه لم يكن فيه شيء بالأمس فقمت ونفضت الجميع عني وخرجت وأنا مغتاظ إلى أن وصلت إلى البيت فوجدت ابنة عمي تصعد الزفرات وتنشد الأبيات:

جسدنا حل وقـلـب جـريح
ودموع على الخدود تـسـيح
وحبيب صعب التجني ولكـن
كل ما يفعل المليح مـلـيح
يا ابن عمي ملأت بالوجد قلبي
إن طرفي من الدموع قريح

فنهرت ابنة عمي وشتمتها فبكت، ثم مسحت دموعها وأقبلت علي وقبلتني، أخذت تضمني إلى صدرها وأنا أتباعد عنها وأعاتب نفسي، فقالت لي: يا ابن عمي كأنك نمت في هذه الليلة، فقلت لها: نعم ولكنني لما انتبهت وجدت كعب عظم على بطني وفردت طاب ونواة بلح وبزرة خروب وما أدري لأي شيء فعلت هكذا. ثم بكيت وأقبلت عليها وقلت لها: فسري لي إشارة فعلها هذا وقولي لي ماذا أفعل وساعديني على الذي أنا فيه فقالت لي: على الرأس والعين أما فردة الطاب التي وضعتها على بطنك فإنها تشير لك إلى أنك حضرت وقلبك غائب وكأنها تقول لك: ليس العشق هكذا فلا تعد نفسك من العاشقين وأما نواة البلح فإنها تشير لك بها إلى أنك لو كنت عاشقاً لكان قلبك محترقاً بالغرام، ولم تذق لذيذ المنام فإن لذة الحب كتمرة ألهبت في الفؤاد جمرة وأما بزرة الخروب فإنها تشير لك به إلى أن قلب المحب مسلوب وتقول لك: اصبر على فراقها صبر أيوب.

فلما سمعت هذا التفسير انطلقت في فؤادي النيران وزادت بقلبي الأحزان فصحت وقلت: قدر **** علي النوم لقلة بختي، ثم قلت لها: يا ابنة عمي بحياتي عندك أن تدبري لي حيلة أتوصل بها إليها فبكت وقالت: يا عزيزي، يا ابن عمي إن قلبي ملآن بالفكر، ولا أقدر أن أتكلم ولكن رح الليلة إلى ذلك المكان واحذر أن تنام فإنك تبلغ المرام هذا هو الرأي والسلام فقلت لها: إن شاء **** لا أنام وإنما أفعل ما تأمريني به، فقامت بنت عمي وأتت بالطعام وقالت لي: كل الآن ما يكفيك حتى لا يبقى في خاطرك شيء فأكلت كفايتي ولما أتى الليل قامت بنت عمي وأتتني ببدلة عظيمة ألبستني إياها وحلفتني أن أذكر لها البيت المذكور وحذرتني من النوم.

ثم خرجت من عند بيت عمي وتوجهت إلى البستان وطلعت إلى البستان وطلعت ذلك المقعد ونظرت إلى البستان وجعلت أفتح عيني بأصابعي وأهز رأسي، حين جن الليل.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: وطلعت من ذلك المقعد ونظرت إلى البستان وجعلت أفتح عيني وأهز رأسي حين جن الليل فلما طلعت رجعت من السهر وهبت علي روائح الطعام فازداد جوعي وتوجهت إلى السفرة وكشفت عظاءها، وأكلت من كل لون لقمة، وأكلت قطعة لحم، وأتيت إلى باطية الخمر وقلت في نفسي: أشرب قدحاً، فشربته، ثم شربت الثاني والثالث إلى غاية عشرة وقد ضربني الهواء، فوقعت على الأرض كالقتيل وما زلت كذلك حتى طلع النهار فانتبهت فرأيت نفسي خارج البستان، وعلى بطني شفرة ماضية ودرهم حديد، فارتجفت وأخذتهما وأتيت بهما إلى البيت فوجدت ابنة عمي تقول أني في هذا البيت مسكينة حزينة ليس لي معين إلا البكاء، فلما دخلت وقعت من طولي ورميت السكين والدرهم من يدي وغشي علي فلما أفقت عرفتها بما حصل لي وقلت لها: إني لم أنل أربي فاشتد حزنها علي لما رأت بكائي ووجدي، وقالت لي: إني عجزت عن النوم، فلم تسمع نصحي فكلامي لا يفيدك شيئاً.

فقلت لها: أسألك ب**** أن تفسري لي إشارة السكين والدرهم الحديد فقالت: إن الدرهم الحديد فإنها تشير بها إلى عينها اليمنى وأنها تقسم بها وتقول: وحق رب العالمين وعين اليمين إن رجعت ثاني مرة ونمت لأذبحنك بهذه السكين وأنا خائفة عليك يا ابن عمي من مكرها وقلبي ملآن بالحزن عليك فما اقدر أن أتكلم فإن كنت تعرف من أنك إن رجعت إليها لا تنام فارجع إليها واحذر النوم فإنك تفوز بحاجتك وإن عرفت أنك إن رجعت إليها تنام على عادتك ثم رجعت إليها ونمت ذبحتك فقلت لها: وكيف يكون العمل يا بنت عمي أسألك ب**** أن تساعديني على هذه البلية.

فقالت: على عيني ورأسي ولكن إن سمعت كلامي وأطعت أمري قضيت حاجتك فقلت لها: إني أسمع كلامك، وأطيع أمرك فقالت: إذا كان وقت الرواح أقول لك ثم ضمتني إلى صدرها ووضعتني على الفراش، ولا زالت تكسبني حتى غلبني النعاس واستغرقت في النوم فأخذت مروحة وجلست عند رأسي تروح على وجهي إلى آخر النهار ثم نبهتني فلما انتبهت وجدتها عند رأسي وفي يدها المروحة وهي تبكي ودموعها قد بلت ثيابها.

فلما رأتني استيقظت مسحت دموعها وجاءت بشيء من الأكل فامتنعت منه فقالت لي: أما قلت لك اسمع مني وكل فأكلت ولم أخالفها صارت تضع الأكل في فمي وأنا أمضغ حتى امتلأت ثم أسقتني نقيع عناب السكر، ثم غسلت يدي ونشفتها بمحرمة، ورشت علي ماء الورد وجلست معها وأنا في عافية.

فلما أظلم الليل وألبستني ثيابي وقالت: يا ابن عمي إسهر جميع الليل ولا تنم فإنها ما تأتيك في هذه الليلة إلا في آخر الليل، وإن شاء **** تجتمع بها في هذه الليلة ولكن لا تنس وصيتي.

ثم بكت فأوجعتني قلبي عليها من كثرة بكائها، وقلت لها: ما الوصية التي وعدتني بها؟ فقالت لي: إذا انصرفت من عندها فأنشدها البيت المقدم ذكره ثم خرجت من عندها وأنا فرحان ومضيت إلى البستان وطلعت المقعد وأنا شبعان فجلست وسهرت إلى ربع الليل ثم طال الليل علي حتى كأنه سنة فمكثت ساهراً، حتى مضى ثلاثة أرباع الليلة وصاحت الديوك فاشتد عندي الجوع من السهر فقمت إلى السفرة وأكلت حتى اكتفيت فثقلت رأسي وأردت أن أنام وإذا بضجة على بعد فنهضت وغسلت يدي وفمي، ونبهت نفسي فما كان إلا قليل وإذا بها أتت ومعها عشر جوار، وهي بينهن كأنها البدر بين الكواكب وعليها حلة من الأطلس الأخضر مزركشة بالذهب الأحمر وهي كما قال الشاعر:


تتيه على العشاق في حلل خضـر
مفككة الأزرار محلولة الشعـر
فقلت لها ما الاسم قالت أنا التـي
كويت قلوب العاشقين على الجمر
شكوت لها ما أقاسي من الهـوى
فقالت إلى صخر شكوت ولم تدر
فقلت لها إن كان قلبك صـخـرة
فقد أنبع **** الزلال من الصخـر

فلما رأتني ضحكت وقالت: كيف انتبهت ولم يغلب عليك النوم وحيث سهرت الليل علمت أنك عاشق، لأن من شيم العشاق سهل الليل في مكابدة الأشواق.

ثم أقبلت على الجواري وغمزتهن فانصرفن عنها وأقبلت علي وضمتني إلى صدرها وقبلتني وقبلتها ومصت شفتي التحتانية ومصصت شفتها الفوقانية، ثم مددت يدي إلى خصرها وغمرته، وما نزلنا في الأرض إلا سواء وحلت سراويلها فنزلت في خلال رجليها وأخذنا في الهراس والتعنيق والغنج والكلام الرقيق والعض وحمل السيقان والطواف بالبيت والأركان إلى أن ارتخت مفاصلها وغشي عليها ودخلت في الغيبوبة وكانت تلك الليلة، مسرة القلب وقرة الناظر كما قال فيها الشاعر:


أهنى ليالي الدهر عندي لـيلة
لم أخل فيها الكأس من أعمال
فرقت فيها بين جفني والكرى
وجمعت بين القرط والخلخال

فلما أصبح الصباح أردت الانصراف وإذا بها أمسكتني وقالت لي: قف حتى أخبرك بشيء.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك قالت: قف حتى أخبرك بشيء وأوصيك وصية فوقفت فحلت منديلاً وأخرجت هذه الخرقة ونشرتها قدامي فوجدت فيها صورة غزال على هذا المثال فتعجبت منها غاية العجب فأخذته من عندها وتواعدت وإياها أن أسعى إليها في كل ليلة في ذلك البستان ثم انصرفت من عندها وأنا فرحان ومن فرحي نسيت الشعر الذي أوصتني به بنت عمي وحين أعطتني الخرقة التي فيها صورة الغزال قالت لي: هذا عمل أختي، فقلت لها: وما اسم أختك؟ قالت: اسمها نور الهدى فاحتفظ بهذه الخرقة ثم ودعتها وانصرفت وأنا فرحان ومشيت إلى أن دخلت على ابنة عمي فوجدتها راقدة فلما رأتني قامت ودموعها تتساقط.

ثم أقبلت علي وقبلت صدري وقالت: هل فعلت ما أوصيتك به من إنشاد بيت الشعر؟ فقلت لها: إني نسيته وما شغلني عنه إلا صورة هذا الغزال ورميت الخرقة قدامها فقامت وقعدت ولم تطق الصبر وأفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:


يا طالباً للفراق مهـلاً
فلا يغرنك العـنـاق
مهلاً فطبع الـزمـان
وآخر الصحبة الفراق
فلما فرغت من شعرها قالت: يا ابن عمي هب لي هذه الخرقة فوهبتها لها فأخذتها ونشرتها ورأت ما فيها، فلما جاء وقت ذهابي قالت ابنة عمي: اذهب مصحوباً بالسلامة ولكن إذا انصرفت من عندها فأنشد بيت الشعر الذي أخبرتك به أولاً ونسيته فقلت لها:أعيديه لي فأعادته ثم مضيت إلى البستان ودخلت المقعد فوجدت الصبية في انتظاري فلما رأتني قامت وقبلتني وأجلستني في حجرها ثم أكلنا وشربنا وقضينا أغراضنا كما تقدم ولا حاجة إلى الإعادة فلما أصبح الصباح أنشدتها بيت الشعر وهو:

ألا أيها العشاق باللـه خـبـروا
إذا اشتد عشق الفتى كيف يصنع

فلما سمعته هملت عيناها بالدموع وأنشدت:


يداري هواه ثـم يكـتـم سـره
ويصبر في كل الأمور ويخضع

فحفظته وفرحت بقضاء حاجة ابنة عمي فوجدتها راقدة، وأمي عند رأسها تبكي على حالها فلما دخلت عليها قالت لي أمي: تباً لك من ابن عم كيف تترك بنت عمك على استواء ولا تسأل عن مرضها؟ فلما رأتني ابنة عمي، رفعت رأسها وقعدت وقالت لي: يا عزيز هل أنشدتها البيت الذي أخبرتك به؟ فقلت: نعم فلما سمعته بكت وأنشدتني بيتاً آخر، وحفظته فقالت بنت عمي: أسمعني إياه ثم بكت بكاءاً شديداً وأنشدت هذا البيت:

لقد حاول الصبر الجميل ولم يجد
له غير قلب في الصبابة يجزع

ثم قالت ابنة عمي: إذا ذهب إليها على عادتك فأنشدها هذا البيت الذي سمعته فقلت لها: سمعاً وطاعة ثم ذهبت إليها في البستان على العادة، وكان بيننا ما كان ما يقصر عن وصفه اللسان فلما أردت الانصراف أنشدتها ذلك البيت وهو له إلى آخره فلما سمعته سالت مدامعها في المحاجر، وأنشدت قول الشاعر:

فإن لم يجد صبراً لكتمـان سـره
فليس له عندي سوى الموت أنفع

فحفظته وتوجهت إلى البيت فلما دخلت على ابنة عمي وجدتها ملقاة مغشياً عليها وأمي جالسة عند رأسها، فلام سمعت كلامي فتحت عينيها وقالت: يا عزيز هل أنشدتها بيت الشعر؟ قلت لها: نعم ولما سمعته بكت وأشدتني هذا البيت فإن لم يجد إلى آخره، فلما سمعته بنت عمي غشي عليها ثانياً فلما أفاقت أنشدت هذا البيت:

سمعنا أطعنا ثم متـنـا فـبـلـغـوا
سلامي على كل من كال للوصل يمنع

ثم لما أقبل الليل مضيت إلى البستان على جري عادتي فوجدت الصبية في انتظاري فجلسنا وأكلنا وشربنا وعملنا حظنا ثم نمنا إلى الصباح، فلما أردت الانصراف أنشدتها ما قالته ابنة عمي فلما سمعت ذلك صرخت صرخة عظيمة تضجرت وقالت: و**** إن قائلة هذا الشعر قد ماتت، ثم بكت وقالت: ويلك ما تقرب لك قائلة هذا الشعر؟ قلت لها: إنها ابنة عمي قالت: كذبت و**** لو كانت ابنة عمك لكان عندك لها من المحبة مثل ما عندها لك فأنت الذي قتلتها قتلك **** كما قتلتها، و**** لو أخبرتني أن لك ابنة عم ما قربتك مني فقلت لها: ابنة عمي كانت تفسر لي الإشارات التي كنت تشيرين بي إلي وهي التي علمتني ما أفعل معك وما وصلت إليك إلا بحسن تدبيرها فقالت: وهل عرفت بنا؟ قلت: نعم قالت: حسرك **** على شبابك كما حسرتها على شبابها، ثم قالت لي: رح انظرها فذهبت وخاطري متشوش، وما زلت ماشياً حتى وصلت إلى زقاقنا فسمعت عياطاً فسألت عنه فقيل: إن عزيزة وجدناها خلف الباب ميتة، ثم دخلت الدار فلما رأتني أمي قالت: إن خطيئتها في عنقك لا سامحك **** من دمها.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

في الليلة السادسة والأربعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: ثم دخلت الدار فلما رأتي أمي قالت تباً لك من ابن عم، ثم إن أبي جاء وجهزناها وشيعنا جنازتها ودفناها وعملنا على قبرها الختمات ومكثنا على القبر ثلاثة أيام ثم رجعت إلى البيت وأنا حزين عليها فأقبلت علي أمي وقالت لي: إن قصدي أن أعرف ما كنت تفعله معها حتى فقعت مرارتها، وإني يا ولدي كنت أسألها في كل الأوقات عن سبب مرضها فلم تخبرني به ولم تطلعني عليه فبالله عليك أن تخبرني بالذي كنت تصنعه معها حتى ماتت فقلت: ما عملت شيئاً، فقالت: **** يقتص لها منك فإنها ما ذكرت شيئاً بل كتمت أمرها حتى ماتت وهي راضية ولما مات كنت عندها ففتحت عينيها وقالت لي: يا امرأة عمي جعل **** ولدك في حل من دمي ولا آخذه بما فعل معي وإنما نقلني إلى **** من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية. فقلت لها يا ابنتي سلامتك وسلامة شبابك، وصرت أسألها عن سبب مرضها فما تكلمت ثم تبسمت وقالت: يا امرأة عمي إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه فقول له يقول هاتين الكلمتين عند انصرافه منه: الوفاء مليح والغدر قبيح وهذه سفقة مني عليه لأكون شفيقة عليه في حياتي وبعد مماتي، ثم أعطتني لك حاجة وحلفتني أني لا أعطيها لك حتى أراك تبكي عليها وتنوح الحاجة عندي فإذا رأيتك على الضفة التي ذكرتها أعطيتك إياها فقلت لها: أريني إياها فما رضيت ثم إني اشتغلت بلذاتي ولم أتذكر موت ابنة عمي لأني كنت طائش العقل وكنت أود في نفسي أن أكون طول ليلي ونهاري عند محبوبتي وما صدقت أن الليل أقبل حتى مضيت إلى البستان فوجدت الصبية جالسة على مقالي النار من كثرة الانتظار فما صدقت أنها رأتني فبادرت إلي وتعلقت برقبتي وسألتني عن بنت عمي فقلت لها: إنها ماتت وعملنا لها الذكر والختمات ومضى لها أربع ليالي وهذه الخامسة.

فلما سمعت ذلك صاحت وبكت وقالت: أما قلت لك إنك قتلتها ولو أعلمتني بها قبل موتها لكنت كافأتها على ما فعلت معي من المعروف فإنها خدمتني وأوصلتك إلي ولولاها ما اجتمعت بك وأنا خائفة عليك أن تقع في مصيبة بسبب رزيتها فقلت لها: إنها قد جعلتني في حل قبل موتها، ثم ذكرت لها ما أخبرتني به أمي فقالت: ب**** عليك إذا ذهبت إلى أمك فاعرف الحاجة التي عندها فقلت لها: إن أمي قالت لي: إن ابنة عمك قبل أن تموت أوصتني وقالت لي: إذا أراد ابنك أن يذهب إلى الموضع الذي عادته الذهاب إليه فقولي له هاتين الكلمتين: الوفاء مليح والغدر قبيح.

فلما سمعت الصبية ذلك قالت: رحمة **** عليها فإنها خلصتك مني وقد كنت أضمرت على ضررك فأنا لا أضرك ولا أشوش عليك فتعجبت من ذلك وقلت لها: وما كنت تريدين قبل أن تفعليه معي وقد صار بيني وبينك مودة؟ فقالت لي: أنت مولع بي ولكنك صغير السن وقلبك خال من الخداع فأنت لا تعرف مكرنا ولا خداعنا، ولو كانت في قيد الحياة لكانت معينة لك فإنها سبب سلامتك حتى أنجتك من الهلكة، والآن أوصيك أن لا تتكلم مع واحدة ولا تخاطب واحدة من أمثالنا لا صغيرة ولا كبيرة، فإياك ثم إياك ذلك لأنك غير عارف بخداع النساء ولا مكرهن والتي تفسر لك الإشارات قد ماتت وإني أخاف عليك أن تقع في رزية فلا تجد من يخلصك منها بعد موت بنت عمك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والأربعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: ثم إن الصبية قالت: فواحسرتاه على بنت عمك وليتني علمت بها قبل موتها حتى أكافئها على ما فعلت معي من المعروف رحمة **** تعالى عليها فإنها كتمت سرها ولم تبح بما عندها ولولاها ما كنت تصل إلي أبداً وإني أشتهي عليك أمراً، فقلت: ما هو؟ قالت: إن توصلني إلى قبرها حتى أزورها في القبر الذي هي فيه وأكتب عليه أبياتاً فقلت لها: في غد إن شاء **** تعالى. ثم إني نمت معها تلك الليلة وهي بعد كل ساعة تقول لي: ليتك أخبرتني بابنة عمك قبل موتها فقلت لها: ما معنى هاتين الكلمتين اللتين قالتهما وهما الوفاء مليح والغدر قبيح؟ فلم تجبني.

فلما أصبح الصباح قامت وأخذت كيساً فيه دنانير وقالت لي: قم وأرني قبرها حتى أزوره وأكتب عليه أبياتاً وأعمل عليه قبة وأترحم عليها وأصرف هذه الدنانير صدقة على روحها فقلت لها سمعاً وطاعة، ثم مشيت قدامها ومشت خلفي وصارت تتصدق وهي ماشية في الطريق وكلما تصدقت صدقة تقول: هذه الصدقة على روح عزيزة التي كتمت سرها حتى شربت كأس مناياها ولم تبح بسر هواها. ولم تزل تتصدق من الكيس وتقول: على روح عزيزة حتى وصلنا القبر ونفذ ما في الكيس، فلما عاينت القبر رمت روحها عليه وبكت بكاء شديداً، ثم إنها أخرجت بكاراً من الفولاذ ومطرقة لطيفة وخطب بالبيكار على الحجر الذي على رأس القبر خطاً لطيفاً ورسمت هذه الأبيات:


مرت بقبر دارس وسـط روضة
عليه من النعمان سبع شـقـائق
فقلت لمن ذا القبر جاوبني الثرى
تأدب فهذا القبر برزخ عـاشـق
فقلت رعاك **** يا ميت الـهـوى
وأسكنك الفردوس أعلى الشواهق
مساكين أهل العشق حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين الـخـلائق
فإن أستطع زرعاً زرعتك روضة
وأسقيتها من دمعي المتدفق
ثم بكت بكاء شديداً وقامت وقمت معها وتوجهنا إلى البستان فقالت لي: سألتك ب**** أن لا تنقطع عني أبداً فقلت سمعاً وطاعة، ثم إني صرت أتردد عليها وكلما بت عندها تحسن إلي وتكرمني وتسألني عن الكلمتين اللتين قالتهما ابنة عمي ومكثت مستغرقاً في تلك اللذات سنة كاملة، وعند رأس السنة دخلت الحمام وأصلحت شأني ولبست بدلة فاخرة من الحمام وشربت قدحاً من الشراب وشممت روائح قماشي المضمغ بأنواع الطيب وأنا خالي القلب من غدرات الزمان وطواق الحدثان فلما جاء وقت العشاء اشتاقت نفسي إلى الذهاب إليها وأنا سكران لا أدري أين أتوجه، فذهبت إليها فمال بي السكر إلى زقاق يقال له: زقاق النقيب فبينما أنا ماش في ذلك لزقاق وإذا بعجوز ماشية وفي إحدى يديها شمعة مضيئة وفي يدها الأخرى كتاب ملفوف.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

في الليلة الثامنة والأربعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب الذي اسمه عزيز قال لتاج الملوك: فلما دخلت الزقاق الذي يقال له زقاق النقيب فمشيت فيه فبينما أنا ماش في ذلك الزقاق وإذا بعجوز ماشية وفي إحدى يديها شمعة مضيئة وفي يدها الأخرى كتاب ملفوف فتقدمت إليها وهي باكية العين وتنشد هذين البيتين:


له در مباشري لقدومكـم
فلقد أتى بلطائف المسموع
لو كان يقنع بالخليع وهبته
قلباً تمزق ساعة التـوديع

فلما رأتني قالت لي: يا ولدي هل تعرف أن تقرأ؟ فقلت لها: نعم يا خالتي العجوز فقالت لي: خذ هذا الكتاب واقرأه وناولتني إياه فأخذته منها وفتحته وقرأت مضمونه إنه كتاب من عند الغياب بالسلام على الأحباب فلما سمعته فرحت واستبشرت ودعت لي وقالت: فرج **** همك كما فرجت همي، ثم أخذت الكتاب ومشت خطوتين وغلبني حصر البول فقعدت في مكان لأريق الماء ثم إني قمت وتجمرت وأرخيت أثوابي واردت أن أمشي وإذا بالعجوز قد أقبلت علي وقبلت يدي وقالت: يا مولاي **** تعالى يهنيك بشبابك ولا يفضحك أترجاك أن تمشي معي خطوات إلى ذلك الباب فإني أخبرتهم بما أسمعتني إياه من قراءة الكتاب فلم يصدقون فامش معي خطوتين واقرأ لهم الكتاب من خلف الباب واقبل دعائي لك فقلت لها: وما قصة هذا الكتاب؟ فقالت لي: يا ولدي هذا الكتاب جاء من عند ولدي وهو غائب عني مدة عشرة سنين فإنه سافر بمتجر ومكث في الغربة تلك المدة فقطعنا الرجاء منه وظننا أنه مات ثم وصل إلينا منه هذا الكتاب وله أخت تبكي عليه في مدة غيابه آناء الليل وأطراف النهار.

فقلت لها: إنه طيب بخير فلم تصدقني وقالت لي: لا بد أن تأتيني بمن يقرأ هذا الكتاب فيخبرني حتى يطمئن قلبي ويطيب خاطري وأنت تعلم يا ولدي أن المحب مولع بسوء الظن فأنعم علي بقراءة هذا الكتاب وأنت واقف خلف الستارة وأخته تسمع من داخل الباب لأجل أن يحصل لك ثواب من قضى لمسلم حاجة نفس عنه كربة، فقد قال **** **** صلى **** عليه وسلم: من نفس عن مكروب كربة من كرب الدنيا نفس **** عنه اثنتين وسبعين كربة من كرب يوم القيامة وأنا قصدتك فلا تخيبني فقلت لها: سمعاً وطاعة وتقدمت فمشت قدامي ومشيت خلفها قليلاً حتى وصلت إلى باب دار عظيمة وذلك الباب مصفح بالنحاس الأحمر فوقفت خلف الباب وصاحت العجوز بالعجمية فما أشعر إلا وصبية قد أقبلت بخفة ونشاط فلما رأتني قالت بلسان فصيح عذب: ما سمعت أحلى منه يا أمي أهذا الذي جاء يقرأ الكتاب؟ فقالت لها: نعم فمدت يدها إلي بالكتاب وكان بينها وبين الباب نحو نصف قصبة فمددت يدي لأتناول الكتاب وأدخلت رأسي وأكتافي من الباب لأقرب فما أدري إلا والعجوز قد وضعت رأسها في ظهر ويدي ماسكة الباب فالتفت فرأيت نفسي في وسط الدار من داخل الدهليز ودخلت العجوز أسرع من البرق الخاطف ولم يكن لها شغل إلا قفل الباب.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والأربعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: إن الصبية لما رأتني من داخل الباب بالدهليز أقبلت علي وضمتني إلى صدرها ثم قالت لي: يا عزيزي أي الحالتين أحب إليك: الموت أم الحياة؟ فقلت لها: الحياة فقالت: إذا كانت الحياة أحب إليك فتزوج بي فقلت: أنا أكره أن أتزوج يمثلك فقالت لي: إن تزوجت بي تسلم من بنت الدليلة المحتالة فقلت لها: ومن الدليلة المحتالة؟ فضحكت وقالت: كيف لا تعرفها وأنت لك في صحبتها اليوم سنة وأربعة شهور أهلكها **** تعالى، و**** ما يوجد أمكر منها، وكم شخصاً قتلت قبلك وكم عملة وكيف سلمت منها ولم تقتلك أو تشوش عليك ولك في صحبتها هذه المدة؟ فلما سمعت كلامها تعجبت غاية العجب، فقلت لها: يا سيدتي ومن عرفك بها؟ فقالت: أنا أعرفها مثل ما يعرف الزمان مصائبه لكن قصدي أن تحكي لي جميع ما وقع لك منها حتى أعرف ما سبب سلامتك منها، فحكيت لها جميع ما جرى لي معها ومع ابنة عمي عزيزة وقالت: عوضك **** فيها خيراً يا عزيز فإنها هي سبب سلامتك من بنت الدليلة المحتالة، ولولاها لكنت هلكت وأنا خائفة عليك من مكرها وشرها ولكن ما أقدر أن أتكلم فقلت لها: و**** إن ذلك كله قد حصل فهزت رأسها وقالت: لا يوجد اليوم مثل عزيزة فقلت: وعند موتها أوصتني أن أقول هاتين الكلمتين لا غير وهما: الوفاء مليح والغدر قبيح.

فلما سمعت ذلك مني، قالت: يا عزيز و**** إن هاتين الكلمتين هما اللتان خلصتاك منها وبسببهما ما قتلتك فقد خلصتك بنت عمك حية وميتة و**** إني كنت أتمنى الاجتماع بك ولو يوماً واحداً فلم أقدر على ذلك إلا في هذا الوقت حتى تحايلت عليك بهذه الحيلة وقد تمت وأنت الآن صغير لا تعرف مكر النساء ولا دواهي العجائز فقلت: لا و**** فقالت لي: طب نفساً وقر عيناً فإن الميت مرحوم والحي ملطوف وأنت شاب مليح وأنا ما أريدك إلا بسنة **** ورسوله صلى **** عليه وسلم ومهما أردت من مال وقماش يحضر لك سريعاً ولا أكلفك بشيء أبداً وأيضاً عندي دائماً الخبز مخبوزاً والماء في الكوز وما أريد منك إلا أن تعمل معي كما يعمل الديك فقلت لها: وما الذي يعمله الديك؟ فضحكت وصفقت بيدها ووقعت على قفاها من شدة الضحك، ثم إنها قعدت وقالت لي: أما تعرف صنعة الديك؟ فقلت لها: و**** ما أعرف صنعة الديك قالت: صنعة الديك أن تأكل وتشرب وتنكح فخجلت أنا من كلامها ثم إني قلت: هذه صنعة الديك؟ قالت نعم وما أريدك إلا أن تشد وسطك وتقوي عزمك وتنكح ثم إنها صفقت بيدها وقالت: يا أمي أحضري من عندك وإذا بالعجوز قد أقبلت بأربعة شهود عدول ثم إنها أوقدت أربع شمعات فلما دخل الشهود سلموا علي وجلسوا فقامت الصبية وأرخت عليها إزاراً ووكلت بعضهم في ولاية عقدها وقد كتبوا الكتاب وأشهدت على نفسها أنها قبضت جميع المهر مقدماً ومؤخراً وأن في ذمتها إلي عشرة آلاف درهم.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: ثم إنها أعطت الشهود أجرتهم وانصرفوا من حيث أتوا فعند ذلك قامت الصبية وقلعت أثوابها وأتت في قميص رفيق مطرز بطراز من الذهب وقلعت لباسها وأخذت بيدي وطلعت بي فوق السرير وقالت لي: ما الحلال من عيب ووقعت على السرير وانسطحت على ظهرها ورمتني على بطنها ثم شهقت شهقة وأتبعت الشهقة بغنجة ثم كشفت الثوب حتى جعلته فوق نهديها فلما رأيتها على تلك الحالة لم أتمالك نفسي دون أن أولجته فيها بعد أن مصصت شفتها وهي تتأوه وتظهر الخشوع والخضوع والبكاء والدموع وأذكرتني في هذا الحال قول من قال:


ولما كشفت الثوب عن سطح فرجها
وجدت به ضيقاً كخلقي وأرزاقـي
فأولجت فيها نصفه فـتـنـهـدت
فقلت لماذا فقالت علىالـبـاقـي
ثم قالت: يا حبيبي أعمل خلاصك فأنا جاريتك خذه هاته كله بحياتي عندك هاته حتى أدخله بيدي وأريح فؤادي ولم تزل تسمعني الغنج والشهيق في خلال البوس والتعنيق، حتى صار صياحنا في الطريق وحظينا بالسعادة والتوفيق ثم نمنا إلى الصباح وأردت أن أخرج وإذا هي أقبلت علي ضاحكة وقالت: هل تحسب أن دخول الحمام مثل خروجه وما أظن إلا أنك تحسبني مثل بنت الدليلة المحتالة إياك وهذا الظن فما أنت إلا زوجي بالكتاب والسنة وإن كنت سكران فأفق لعقلك إن هذه الدار التي أنت فيها لا تفتح إلا في كل سنة يوم قم إلى الباب الكبير وانظره فقمت إلى الباب الكبير فوجدته مغلقاً مسمراً، فقالت: يا عزيز إن عندنا من الدقيق والحبوب والفواكه والرمان والسكر واللحم والغنم والدجاج وغير ذلك ما يكفينا أعواماً عديدة ولا يفتح بابنا من هذه الليلة إلا بعد سنة فقلت: لا حول ولا قوة إلا ب****، فقالت: وأي شيء يضرك وأنت تعرف صنعة الديك التي أخبرتك بها؟ ثم ضحكت فضحكت أنا وطاوعتها فما قالت ومكثت عندها وأنا أعمل صنعة الديك آكل واشرب وأنكح حتى مر علينا عام اثني عشر شهراً. فلما كملت السنة حملت مني ورزقت منها ولداً وعند رأس السنة سمعت فتح الباب، وإذا بالرجال دخلوا بكعك ودقيق وسكر فأردت أن أخرج فقالت: اصبر إلى وقت العشاء ومثلما دخلت فأخرج فصبرت إلى وقت العشاء وأردت أن أخرج وأنا خائف مرجوف وإذا هي قالت: و**** ما أدعك تخرج حتى أحلفك أنك تعود في هذه الليلة، قبل أن يغلق الباب فأجبتها إلى ذلك وحلفتني بالإيمان الوثيقة على السيف والمصحف والطلاق أني أعود إليها ثم خرجت من عندها ومضيت إلى البستان فوجدته مفتوحاً كعادته فاغتظت وقلت في نفسي: إني غائب عن هذا المكان سنة كاملة وجئت على غفلة فوجدته مفتوحاً يا ترى هل الصبية باقية على حالها أولا فلا بد أن أدخل وأنظر قبل أن أروح إلى أمي وأنا في وقت العشاء ثم دخلت البستان.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عزيز قال لتاج الملوك: ثم دخلت البستان ومشيت حتى أتيت المقعد فوجدت بنت دليلة المحتالة جالسة ورأسها على ركبتها ويدها على خدها وقد تغير لونها وغارت عيناها فلما رأتني قالت: الحمد *** على السلامة وهمت أن تقوم فوقعت من فرحتها فاستحييت منها، وطأطأت رأسي.

ثم تقدمت إليها وقبلتها وقلت له: كيف عرفت أني أجيء إليك في هذه الساعة؟ قالت: لا علم لي بذلك و**** إن لي سنة لم أذق فيها نوماً بل أسهر كل ليلة في انتظار، وأنا على هذه الحالة من يوم خرجت من عندي وأعطيتك البدلة القماش الجديدة ووعدتني أنك تجيء إلي وقد انتظرتك فما أتيت لا أول ليلة ولا ثاني ليلة ولا ثالث ليلة فاستمريت منتظرة لمجيئك والعاشق هكذا يكون وأريد أن تحكي لي ما سبب غيابك عني هذه السنة؟ فحكيت لها.

فلما علمت أني تزوجت اصفر لونها ثم قلت لها: إني أتيتك هذه الليلة وأروح قبل الصباح فقالت: أما كفاها أنها تزوجت بك وعملت عليك حيلة وحبستك عندها سنة كاملة حتى حلفتك بالطلاق أن تعود إليها قبل الصباح ولم تسمح لك بأن تتفسح عند أمك ولا عندي ولم يهن عليها أن تبيت عند أحدنا ليلة واحدة فكيف حال من غبت عنها سنة كاملة وقد عرفتك قبلها؟ ولكن رحم **** عزيزة فإنها جرى لها ما لم يجر لأحد وصبرت على شيء لم يصبر عليه مثلها وماتت مقهورة منك وهي التي حمتك مني، وكنت أظنك تجيء فأطلقت سبيلك مع أني كنت أقدر على حبسك وعلى هلاكك، ثم بكت واغتاظت ونظرت إلي بعين الغضب.

فلما رأيتها على تلك الحالة ارتعدت فرائصي وخفت منها وصرت مثل الفولة على النار ثم قالت لي: ما بقي فيك فائد بعدما تزوجت وصار لك ولد فأنت لا تصلح لعشرتي لأنه لا ينفعني إلا الأعزب وأما الرجل المتزوج فإنه لا ينفعني وقد بعتني بتلك العاهرة و**** لأحسرّنها عليك وتصير لي ولا لها ثم صاحت فما أدري إلا وعشر جوار أتين ورمينني على الأرض فلما وقعت تحت أيديهن قامت هي وأخذت سكيناً وقالت: لأذبحنك ذبح التيوس ويكون هذا أقل جزائك على ما فعلت مع ابنة عمك فلما نظرت إلى روحي وأنا تحت جواريها وتعفر خدي بالتراب ورأيت السكين في يدها تحققت الموت.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: ثم إن الشاب عزيز قال لتاج الملوك: ثم استغثت بها فلم تزدد إلا قسوة وأمرتهن أن يكثفنني فكتفنني ورمينني على ظهري وجلسن على بطني وأمسكن رأسي، وقامت جاريتان فأمرتهما أن يضرباني فضرباني حتى أغمي علي وخفي صوتي فلما استفقت قلت في نفسي: إن موتي مذبوحاً أهون علي من هذا الضرب، وتذكرت كلمة ابنة عمي حيث قالت: كفاك **** شرها، فصرخت وبكيت حتى انقطع صوتي ثم سنت السكين وقال للجواري: اكشفن عنه، فألهمني **** أن أقول الكلمتين اللتين أوصتني بهما ابنة عمي وهما: الوفاء مليح والغدر قبيح فلما سمعت ذلك صاحت وقالت: رحمك **** يا عزيزة سلامة شبابك، نفعت ابن عمك في حياتك وبعد موتك ثم قالت لي: و**** إنك خلصت من يدي بواسطة هاتين الكلمتين لكن لا بد أن أعمل فيك أثراً لأجل نكاية تلك العاهرة التي حجبتك عني، ثم صاحت علي.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عزيز قال: وصاحت على الجواري وقالت لهن: اركبن عليه، وأمرتهن أن يربطن رجلي بالحبال ففعلن ذلك، ثم قامت من عندي وركبت طاجناً من نحاس على النار وصبت فيه سيرجاً وقلت فيه جبناً وأنا غائب عن الدنيا ثم جاءت عندي وحلت لباسي وربطت محاشمي وناولته الجاريتين، وقالت لهما: جروا الحبل فجرتاه فصرت من شدة الألم في دنيا غير هذه الدنيا.

ثم رفعت يدها وقطعت ذكري بموس وبقيت مثل المرأة ثم كوت موضع القطع وكبسته بذرور وأنا مغمى علي.

فلما أفقت كان الدم قد انقطع فأسقتني قدحاً من الشراب ثم قالت لي: رح الآن لمن تزوجت بها وبخلت علي بليلة واحدة رحم **** ابنة عمك التي هي سبب نجاتك ولولا أنك أسمعتني كلمتيها لكنت ذبحتك فاذهب في هذه الساعة لمن تشتهي، وأنا ما كان لي عندك سوى ما قطعته والآن ما بقي لي فيك رغبة ولا حاجة لي بك فقم وملس على رأسك وترحم على ابنة عمك، ثم رفستني برجلها فقمت وما قدرت أن أمشي فتمشيت قليلاً قليلاً، حتى وصلت إلى الباب فوجدته مفتوحاً فرميت نفسي فيه وأنا غائب عن الوجود وإذا بزوجتي خرجت وحملتني وأدخلتني القاعة فوجدتني مثل المرأة فنمت واستغرقت في النوم فلما صحوت وجدت نفسي مرمياً على باب البستان،

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندن قال للملك ضوء المكان: ثم إن الشاب عزيز قال لتاج الملوك: فلما صحوت وجدت نفسي مرمياً على باب البستان فقمت وأنا أتضجر وتمشيت حتى أتيت إلى منزلي فدخلت فيه فوجدت أمي تبكي علي وتقول: يا هل ترى يا ولدي أنت في أي أرض؟ فدنوت منها ورميت نفسي عليها فلما نظرت إلي ورأتني وجدتني على غير استواء وصار على وجهي الاصفرار والسواد، ثم تذكرت ابنة عمي وما فعلت معي من المعروف وتحققت أنها كانت تحبني فبكيت عليها وبكت أمي، ثم قالت إلي: ولدي إن والدك قد مات فازددت غيظاً وبكيت حتى أغمي علي.

فلما أفقت نظرت إلى موضع ابنة عمي التي كانت تقعد فيه فبكيت ثانياً حتى أغمي علي من شدة البكاء وما زلت في بكاء ونحيب إلى نصف الليل فقالت لي أمي: إن لوالدك عشرة أيام وهو ميت فقلت لها: أنا لا أفكر في أحد أبداً غير ابنة عمي لأني أستحق ما حصل لي حيث هملتها وهي تحبني فقالت: وما حصل لك؟ فحكيت لها ما حصل لي فبكت ساعة، ثم قامت وأحضرت لي شيئاً من المأكول فأكلت قليلاً وشربت وأعدت لها قصتي، وأخبرتها جميع ما وقع لي فقالت: الحمد *** حيث جرى لك هذا وما ذبحتك ثم إنها عالجتني وداوتني حتى برت وتكاملت عافيتي فقال لي: يا ولدي الآن أخرج لك الوديعة التي أودعتها ابنة عمك عندي فإنها لك وقد حلفتني أني لا أخرجها لك حتى أراك تتذكرها وتحزن عليها وتقطع علائقك من غيرها والآن رجوت فيك هذه الخصال ثم قامت وفتحت صندوقاً وأخرجت منه هذه الخرقة التي فيها صورة هذا الغزال وهي التي وهبتها لها أولاً فلما أخذتها وجدت مكتوباً فيها هذه الأبيات:


أقمتم عيوني في الهوى وأقعدتم
وأسجرتموا جفني القريح ونمتم
وقد حلمتوا بين الفؤاد وناظـري
فلا القلب يسلوكم ولو ذاب منكم
وعاهدتموني أنكم كاتموا الهوى
فأغراكم الواشي وقال وقلتـم
فبالله إخواني إذا مت فاكتبـوا
على لوح قبري إن هذامتـيم
فلما قرأت هذه الأبيات بكيت بكاء شديداً ولطمت على وجهي وفتحت الرقعة فوقعت منها ورقة أخرى ففتحتها فإذا مكتوب فيها: اعلم يا ابن عمي أني جعلتك في حل من دمي وأرجو **** أن يوفق بينك وبين من تحب ولكن إذا أصابك شيء من دليلة المحتالة فلا ترجع إليها ولا لغيرها وبعد ذلك فاصبر على بليتك ولولا أجلك المحتم لهلكت من الزمان الماضي ولكن الحمد *** الذي جعل يومي قبل يومك وسلامي عليك واحتفظ على هذه الخرقة التي فيها صورة الغزال ولا تفرط فيها فإن تلك الصورة كانت تؤانسني إذا غبت عني.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: ثم إن الشاب عزيز قال لتاج الملوك: إن ابنة عمي قالت لي: إن قدرت على من صورت هذه الصورة ينبغي أنك تتباعد عنها ولا تخلها تقرب منك، ولا تتزوج بها وإن لم تقدر عليها ولا تجد لك إليها سبيلاً فلا تقرب واحدة من النساء بعد واعلم أن التي صورت هذه الصورة تصور في كل سنة صورة مثلها وترسلها إلي إلى أقصى البلاد لأجل أن يشيع خبرها وحسن صنعتها التي يعجز عنها أهل الأرض وأما محبوبتك الدليلة المحتالة، فإنها لما وصلت إليها هذه الخرقة التي فيها صورة الغزال صارت تريها للناس وتقول لهم: إن لي أختاً تصنع هذا مع أنها كاذبة في قولها هتك **** سترها وما أوصيتك بهذه الوصية إلا لأنني أعلم أن الدنيا قد تضيق عليك بعد موتي وربما تتغرب بسبب ذلك وتطوف البلاد وتسمت بصاحبة هذه الصورة فتتشوق نفسك إلى معرفتها واعلم أن الصبية التي صورت هذه الصورة بنت ملك جزائر الكافور.

فلما قرأت تلك الورقة وفهمت ما فيها بكيت وبكت أمي لبكائي وما زلت أنظر إليها وأبكي إلى أن اقبل الليل ولم أزل على تلك الحالة مدة سنة وبعد السنة تجهز تجار من مدينتي إلى السفر وهم هؤلاء الذين أنا معهم في القافلة فأشارت علي أمي أن أتجهز وأسافر معهم وقالت لي: لعل السفر يذهب ما بك من هذا الحزن وتغيب سنة أو سنتين أو ثلاثاً حتى تعود القافلة فلعل صدرك ينشرح وما زالت تلاطفني بالكلام حتى جهزت متجراً وسافرت معهم وأنا لم تنشف لي دمعة مدة سفري وفي كل منزلة ننزل بها أنشر هذه الخرقة قدامي وأنظر إلى هذه الصورة فأتذكر ابنة عمي وأبكي عليها كما تراني فإنها كانت تحبني محبة زائدة وقد ماتت مقهورة مني وما فعلت معها إلا الضرر مع أنها لم تفعل معي إلا الخير ومتى رجعت التجار من سفرهم أرجع معهم وتكمل مدة غيابي سنة وأنا في حزن زائد، وما زاد همي وحزني إلا لأني جزت علي جزائر الكافور وقلعة البلور وهي سبع جزائر والحاكم عليهم ملك يقال له شهرمان وله بنت يقال لها دنيا فقيل لي إنها هي التي تصور صورة الغزلان وهذه الصورة التي معك من جملة تصويرها.

فلما علمت ذلك زادت بي الأشواق وغرقت في بحر الفكر والاحتراق، فبكيت على روحي لأني بقيت مثل المرأة ولم تبق لي آلة مثل الرجال ولا حيلة لي ومن يوم فراقي لجزائر الكافور وأنا باكي العين حزين القلب ولي مدة على هذا الحال وما أدري هل يمكنني أن أرجع إلى بلدي وأموت عند والدتي أو لا وقد شبعت من الدنيا ثم بكى وأن واشتكى ونظر إلى صورة الغزال وجرى دمعه على خده وسال وأنشد هذين البيتين:


وقائل قال لـي لا بـد مـن فـرج
فقلت للغيظ كم لا بد مـن فـرج
فقال لي بعد حين قلت يا عجـبـي
من يضمن العمر لي يا بارد الحجج

وهذه حكايتي أيها الملك فلما سمع تاج الملوك قصة الشاب، تعجب غاية العجب وانطلقت من فؤاده النيران حين سمع بجمال السيدة دنيا،

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: ثم إن تاج الملوك قال للشاب: و**** لقد جرى لك شيء ما جرى لأحد مثله، ولكن هذا تقدير *** وقصدي أن أسألك عن شيء فقال عزيز: وما هو؟ فقال: تصف لي كيف رأيت تلك الصبية التي صورت الغزال فقال: يا مولاي إني توصلت إليها بحيلة وهو أني لما دخلت مع القافلة إلى بلادها كنت أخرج وأدور في البساتين وهي كثيرة الأشجار، وحارس البساتين شيخ طاعن في السن فقلت له: لمن هذا البستان؟ فقال لي: لابنة الملك وتفرج في البستان فتشم رائحة الأزهار فقلت له: أنعم علي بأن أقعد في هذا حتى تمر علي أن أحظى منها بنظرة.

فقال الشيخ: لا بأس بذلك فلما قال ذلك أعطيته بعض الدراهم وقلت له: اشتر لنا شيئاً نأكله ففرح بأخذ الدراهم وفتح الباب وأدخلني معه وسرنا وما زلنا سائرين إلى أن وصلنا إلى مكان لطيف وأحضر لي شيئاً من الفواكه اللطيفة وقال لي: اجلس هنا حتى أذهب وأعود إليك وتركني ومضى فغاب ساعة ثم رجع ومعه خروف مشوي فأكلنا حتى اكتفينا وقلبي مشتاق إلى رؤية الصبية فبينما نحن جالسون وإذا بالباب قد انفتح، فقال لي: قم اختف واختفيت وإذا بطواشي أسود أخرج رأسه من الباب وقال: يا شيخ باب البستان وإذا بالسيدة دنيا طلعت من الباب فلما رأيتها ظننت أن القمر نزل في الأرض فاندهش عقلي وصرت مشتاق إليها كاشتياق الظمآن إلى الماء وبعد ساعة أغلقت الباب ومضت.

فعند ذلك خرجت أنا من البستان وقصدت منزلي وعرفت أني لا أصل إليها ولا أنا من رجالها خصوصاً وقد صرت مثل المرأة فقلت في نفسي: إن هذه ابنة الملك وأنا تاجر فمن أين لي أن اصل إليها فلما تجهز أصحابي للرحيل تجهزت أنا وسافرت معهم وهم قاصدون هذه المدينة، فلما وصلنا إلى هذا الطريق اجتمعنا بك وهذه حكايتي وما جرى لي والسلام.

فلما سمع تاج الملوك ذلك الكلام اشتغل قلبه بحب السيدة دنيا ثم ركب جواده وأخذ معه عزيز وتوجه به إلى مدينة أبيه وأفرد له داراً ووضع له فيها كل ما يحتاج إليه، ثم تركه ومضى ودموعه جارية على خدوده لأن السماع يحل محل النظر والاجتماع وما زال تاج الملوك على تلك الحالة، حتى دخل عليه أبوه فوجده متغير اللون فعلم أنه مهموم ومغموم فقال له: يا ولدي أخبرني عن حالك وما جرى لك حتى تغير لونك فأخبره بجميع ما جرى له من قصة دنيا من أولها إلى آخرها، وكيف عشقها على السماع ولم ينظرها بالعين، فقال: يا ولدي إن أباها ملك وبلاده بعيدة عنا، فدع عنك هذا وادخل قصر أمك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن والد تاج الملوك قال له: يا ولدي إن أباها ملك وبلاده بعيدة عنا فدع عنك هذا وادخل قصر أمك فإن فيه خمسمائة جارية كالأقمار فمن أعجبتك منهن فخذها وإن لم تعجبك منهن نخطب بنتاً من بنات الملوك تكون أحسن من السيدة دنيا فقال له: يا والدي لا أريد غيرها وهي التي صورت صورة الغزال التي رأيتها فلا بد منها وإلا أهجج في البراري واقتل روحي بسببها فقال له: يا ولدي أمهل علي حتى أرسل إلى أبيها وأخطبها منه وأبلغك المرام مثل ما فعلت لنفسي مع أمك وإن لم يرض زلزلت عليه مملكته وجردت عليه جيشاً يكون آخره عندي وأوله عنده، ثم دعا الشاب عزيز وقال: يا ولدي هل أنت تعرف الطريق؟ قال: نعم. قال له: أشتهي منك أن تسافر مع وزيري فقال له: سمعاً وطاعة. ثم جهز عزيز مع وزيره وأعطاهم الهدايا فسافروا أياماً وليالي إلى أن أشرفوا على جزائر الكافور فأقاموا على شاطئ نهر وأنفذ الوزير رسولاً من عنده إلى الملك ليخبره بقدومهم، وبعد ذهاب الرسول بنصف يوم لم يشعر إلا وحجاب الملك وأمراؤه قد أقبلوا عليهم ولاقوهم من مسيرة فرسخ فنقلوهم وساروا في خدمتهم إلى أن دخلوا بهم على الملك فقدموا له الهدايا وأقاموا عنده أربعة أيام وفي اليوم الخامس قام الوزير ودخل على الملك ووقف بين يديه وحدثه بحديثه وأخبره بسبب مجيئه فصار الملك متحيراً في رد الجواب لأن ابنته لا تحب الزواج وأطرق برأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلى بعض الخدام وقال له: اذهب إلى سيدتك دنيا وأخبرها بما سمعت وبما جاء به هذا الوزير، فقام الخادم وغاب ساعة ثم عاد إلى الملك وقال له: يا ملك الزمان لما دخلت على السيدة دنيا أخبرتها بما سمعت فغضبت غضباً شديداً، ونهضت علي بمسوقة وأرادت كسر رأسي ففررت منها هارباً وقالت لي: إن كان يغضبني على الزواج فالذي أتزوج به أقتله فقال أبوها للوزير وعزيز سلما على الملك وأخبراه بذلك وإن ابنتي لا تحب الزواج.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد عند ذلك رجع الوزير ومن معه من غير فائدة وما زالوا مسافرين إلى أن دخلوا على الملك وأخبروه، فعند ذلك أمر النقباء أن ينبهوا العسكر إلى السفر من أجل الحرب والجهاد فقال له الوزير: لا تفعل ذلك فإن الملك لا ذنب له وإنما الامتناع من ابنته فإنها حين علمت بذلك أرسلت تقول: إن غصبني على الزواج أقتل من أتزوج به وأقتل نفسي بعده، فلما سمع الملك كلام الوزير خاف على ولده تاج الملوك وقال: إن حاربت أباها وظفرت بابنته قتلت نفسها ثم إن الملك أعلم ابنه تاج الملوك بحقيقة الأمر فلما علم بذلك قال لأبيه: يا والدي أنا لا أطيق الصبر عنها فأنا أروح إليها وأتسبب في اتصالي بها ولو أموت ولا أفعل غير هذا فقال له أبوه: وكيف تروح؟ فقال: أروح في صفة تاجر فقال الملك: إن كان ولا بد فخذ معك الوزير وعزيز، ثم إنه أخرج شيئاً من خزانته وهيأ له متجراً بمائة ألف دينار واتفقا معه على ذلك.

فلما جاء الليل ذهب تاج الملوك وعزيز إلى منزل الوزير وباتا هناك تلك الليلة وصار تاج الملوك مسلوب الفؤاد ولم يطب له أكل ولا رقاد بل هجمت عليه الأفكار وغرق منها في بحار وهزه الشوق إلى محبوبته فأفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:


ترى هل لنا بعد البعاد وصول
فأشكو إليكم صبوتي وأقـول
تذكرتكم والليل ناء صباحـه
وأسهرتموني والأنام غفـول

فلما فرغ من شعره بكى بكاء شديداً وبكا معه عزيز وتذكر ابنة عمه وما زالا يبكيان إلى أن أصبح الصباح ثم قام تاج الملوك ودخل على والدته وهو لابس أهبة السفر فسألته عن حاله فأخبرها بحقيقة الأمر فأعطته خمسين ألف دينار ثم ودعته وخرج من عندها ودعت له بالسلامة والاجتماع بالأحباب ثم دخل على والده واستأذنه أن يرحل فأذن له وأعطاه خمسين ألف دينار وأمر أن تضرب له خيمة وأقاموا فيها يومين ثم سافروا واستأنس تاج الملوك بعزيز وقال له: يا أخي أنا ما بقيت أطيق أن أفارقك فقال عزيز: وأنا الآخر كذلك وأحب أن أموت تحت رجليك ولكن يا أخي قلبي اشتغل بوالدتي، فقال له تاج الملوك: لما نبلغ المرام لا يكون إلا خيراً. وكان الوزير قد وصى تاج الملوك باصطبار وصار عزيز ينشد له الأشعار ويحدثه بالتواريخ والأخبار ولم يزالوا سائرين بالليل والنهار مدة شهرين فطالت الطريق على تاج الملوك واشتد عليه الغرام وزاد به الوجد والهيام، فلما قربوا من المدينة فرح تاج الملوك غاية الفرح وزال عنه الهم والترح ثم دخلوها وما زالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى سوق البر. فلما رأى التجار تاج الملوك وشاهدوا حسنه وجماله تحيرت عقولهم وصاروا يقولون: هل رضوان فتح أبواب الجنان وسها عنها فخرج هذا الشاب البديع الحسن، وبعضهم يقول: لعل هذا من الملائكة، فلما دخلوا عند التجار سألوا عن دكان شيخ السوق فدلوهم عليه فتوجهوا إليه فلما قربوا قام إليهم هو ومن معه من التجار وعظموهم خصوصاً الوزير الأجل فإنهم رأوه رجلاً كبيراً مهاباً ومعه تاج الملوك وعزيز فقال التجار لبعضهم: لا شك أن هذا الشيخ والد هذين الغلامين فقال الوزير: من شيخ فيكم؟ فقالوا ها هو فنظر إليه الوزير وتأمله فرآه رجلاً كبيراً صاحب هيبة ووقار وخدم وغلمان، ثم إن شيخ السوق حياهم تحية الأحباب وبالغ في إكرامهم وأجلسهم جنبه وقال لهم: هل لكم حاجة نفوز بقضائها؟ فقال الوزير: نعم إني رجل كبير طاعن في السن ومعي هذان الغلمان وسافرت بهما سائر الأقاليم والبلاد وما دخلت بلدة إلا أقمت بها سنة كاملة حتى يتفرجا عليها ويعرفها أهلها وإني قد أتيت بلدكم هذه واخترت المقام فيها وأشتهي منك دكاناً تكون من أحسن المواضع حتى أجلسهما فيها ليتاجرا أو يتفرجا على هذه المدينة ويتخلقا بأخلاق أهلها ويتعلما البيع والشراء والأخذ والعطاء، فقال شيخ السوق: لا بأس بذلك.

ثم نظر إلى الولدين وفرح بهما وأحبهما حباً زائداً وكان شيخ السوق مغرماً بفاتك اللحظات عليه حب البنين على البنات ويميل إلى الحموضة فقال في نفسه: سبحان خالقهما ومصورهما من ماء مهين، ثم قام واقفاً في خدمتهما كالغلام بين أيديهما، بعد ذلك سعى وهيأ لهما الدكان وكانت في وسط السوق ولم يكن أكبر منها ولا أوجه منها عندهم لأنها كانت متسعة مزخرفة فيها رفوف من عاج وأبنوس، ثم سلم المفاتيح للوزير وهو في صفة تاجر وقال: جعلها **** مباركة على ولديك فلما أخذ الوزير مفاتيح الدكان توجه إليها والغلمان ووضعوا فيها أمتعتهم وأمر غلمانهم أن ينقلوا إليها جميع ما عندهم من البضائع والقماش،

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما أمر غلمانه أن ينقلوا البضائع والقماش وكان ذلك يساوي خزائن مال فنقلوا جميع ذلك إلى الدكان وباتوا تلك الليلة فلما أصبح الصباح أخذهما الوزير ودخل بهما الحمام فلما دخلوا الحمام تنظفوا وأخذوا غاية حظهم، وكان كل من الغلامين ذا جمال باهر فصارا في الحمام على قول الشاعر:


بشرى لقـيتـه إذ لامـسـت يده
جسماً تولد بين المـاء والـنـور
ما زال يظفر لطفاً من صناعتـه
حتى جنى المسك من تمثال كافور

ثم خرجا من الحمام وكان شيخ السوق لما سمع بدخولهما الحمام قعد في انتظارهما وإذا بهما قد أقبلا وهما كالغزالين وقد احمرت خدودهما واسودت عيونهما ولمعت أبدانهما حتى كأنهما غصنان مثمران أو قمران زاهيان فقال لهما: يا أولادي حمامكم نعيم دائم فقال تاج الملوك بأعذب كلام ليتك كنت معنا، ثم إن الاثنين قبلا يديه ومشيا قدامه حتى وصلا إلى الدكان تعظيماً له لأنه كبير السوق وقد أحسن إليهما بإعطائهما الدكان، فلما رأى أردافهما في ارتجاج زاد به الوجد وهاج وشخر ونخر ولم يبق مصطبراً فأحدق بهما العينين وأنشد هذين البيتين:


يطالع القلب باب الاختصاص به
وليس يقرأ فيه مبحث الشركه
لا غرو في كونه يرتج من قول
فكم لذا الفلك الدوار منحركه

فلما سمعا هذا الشعر أقسما عليه أن يدخل الحمام ثانياً وكانا قد تركا الوزير داخل الحمام فلما دخل شيخ السوق إلى الحمام ثاني مرة سمع الوزير بدخوله فخرج إليه من الخلوة واجتمع به في وسط الحمام وعزم عليه فامتنع فأمسك بإحدى يديه تاج الملوك وبيده الأخرى عزيز ودخلا به أخرى فانقاد لهما الشيخ الخبيث فحلف تاج الملوك أن لا يحميه غيره وحلف عزيز أن لا يصب عليه الماء غيره فقال له الوزير: إنهما أولادك فقال شيخ السوق أبقاهما **** لك لقد حلت في مدينتنا البركة والسعود بقدومكم وقدوم أتباعكم، ثم أنشد هذين البيتين:


أقبلت فاخضرت لدينا الربا
وقد زهت بالزهر للمجتلى
ونادت الأرض ومن فوقها
أهلاً وسهلاً بك من مقبل

فشكروه على ذلك، ومازال تاج الملوك يحميه وعزيز يصب عليه الماء وهو يظن روحه في الجنة حتى أتما خدمته فدعا لهما وجلس جنب الوزير على أنه يتحدث معه ولكن معظم قصده النظر إلى تاج الملوك وعزيز، ثم بعد ذلك جاء لهم الغلمان بالمناشف فتنشفوا ولبسوا حوائجهم ثم خرجوا من الحمام فأقبل الوزير على شيخ السوق وقال له يا سيدي إن الحمام نعيم الدنيا فقال شيخ السوق: جعله **** لك ولأولادك عافية وكفاهما **** شر العين، فهل تحفظون شيئاً مما قاله البلغاء في الحمام فقال تاج الملوك: أنا أنشد لك بيتين وهما:

إن عيش الحمام أطيب عيش
غير أن المقام فيه قـلـيل
جنة تكره الإقـامة فـيهـا
وجحيم يهيب فيها الدخـول

فلما فرغ تاج الملوك من شعره قال عزيز وأنا أحفظ في الحمام شيئاً، فقال شيخ السوق أسمعني إياه فأنشد هذين البيتين:

وبيت له من جامد الصخر أزهار
أنيق إذا أضرمت حوله الـنـار
تراه جحيماً وهو في الحق جـنة
وأكثر ما فيها شموس وأقمـار

فلما فرغ عزيز من شعره تعجب شيخ السوق من شعرهما وفصاحتهما وقال لهما: و**** لقد حزتما الفصاحة والملاحة فاسمعا أنتما مني، ثم أطرب بالنغمات وأنشد الأبيات:


يا حسن نار والنعيم عذابـهـا
تحيا بهـا الأرواح والأبـدان
فأعجبت لبيت لا يزال نعيمـه
غضاً وتوقد تحته الـنـيران
عيش السرور إن ألم به وقـد
سفحت عليه دموعها الغدران

فلما سمعوا ذلك تعجبوا من هذه الأبيات، ثم إن شيخ السوق عزم عليهم فامتنعوا ومضوا إلى منزلهم ليستريحوا من تعب الحمام، ثم أكلوا وشربوا وباتوا تلك الليلة في منزلهم. في أتم ما يكون من الحظ والسرور فلما أصبح الصباح قاموا من نومهم وتوضأوا وواصلوا فرضهم وأصبحوا، ولما طلع النهار وفتحت الدكاكين والأسواق خرجوا من المنزل وتوجهوا إلى السوق وفتحوا الدكان وكان الغلمان قد هيأوها أحسن هيئة وفرشوها بالبساط الحرير ووضعوا فيها مرتبتين كل واحدة منهما تساوي مائة دينار وجعلوا فوق كل مرتبة نطفاً ملوكياً دائره من الذهب.

فجلس تاج الملوك على مرتبة وجلس عزيز على الأخرى والوزير في وسط الدكان ووقف الغلمان بين أيديهم وتسامعت بهم الناس فازدحموا عليهم وباعوا بعض أقمشتهم وشاع ذكر تاج الملوك في المدينة واشتهر فيها خبر حسنه وجماله ثم أقاموا على ذلك أياماً وفي كل يوم تهرع الناس إليهم فأقبل الوزير على تاج الملوك وأوصاه بكتمان أمره وأوصى عليه عزيز ومضى إلى الدار ليدير أمراً يعود نفعه عليهم وصار تاج الملوك وعزيز يتحدثان وصار تاج الملوك يقول عسى أن يجيء أحد من عند السيدة دنيا ومازال تاج الملوك على ذلك أياماً وليالي وهو لا ينام وقد تمكن منه الغرام وزاد به النحول والأسقام حتى حرم لذيذ المنام وامتنع عن الشراب ولطعام وكان كالبدر في تمامه فبينما تاج الملوك جالس وإذا بعجوز أقبلت عليه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد بينما تاج الملوك جالس وإذا بعجوز أقبلت عليه وتقدمت إليه وخلفها جاريتان وما زالت ماشية حتى وقفت على دكان تاج الملوك فرأت قده واعتداله وحسنه وجماله فتعجبت من ملاحته ورشحت في سراويلها، ثم قالت: سبحان من خلقك من ماء مهين سبحان من جعلك فتنة للعالمين ولم تزل تتأمل فيه وتقول: ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم ثم دنت منه وسلمت عليه فرد عليها السلام وقام لها واقفاً على الأقدام وابتسم في وجهها هذا كله بإشارة عزيز ثم أجلسها إلى جانبه وصار يروح عليها إلى أن استراحت، ثم إن العجوز قالت لتاج الملوك: يا ولدي يا كامل الأوصاف والمعاني هل أنت من هذه الديار؟ فقال تاج الملوك بكلام فصيح عذب مليح: و**** يا سيدتي عمر ما دخلت هذه الديار إلا هذه المرة ولا أقمت فيها إلا على سبيل الفرجة فقالت: لك الإكرام من قادم على الرحب والسعة ما الذي جئت به معك من القماش فأرني شيئاً مليحاً فإن المليح لا يحمل إلا المليح.

فلما سمع تاج الملوك كلامها خفق قلبه ولم يفهم معنى كلامها، فغمزه عزيز بالإشارة فقال لها تاج الملوك: عندي كل ما تشتهين من الشيء الذي لا يصلح إلا للملوك وبنات الملوك فلمن تريدين حتى اقلب عليك ما يصلح لأربابه وأراد بذلك الكلام أن يفهم معنى كلامها فقالت له: أريد قماشاً يصلح للسيدة دنيا بنت الملك شهرمان. فلما سمع تاج الملوك ذكر محبوبته فرح فرحاً شديداً وقال لعزيز: ائتني بأفخر ما عندك من البضاعة فأتاه عزيز ببقجة وحلها بين يديه. فقال لها تاج الملوك: اختاري ما يصلح لها فإن هذا الشيء لا يوجد عند غيري فاختارت العجوز شيئاً يساوي ألف دينار وقالت: بكم هذا؟ وصارت تحك بين أفخاذها بكلية يدها فقال لها: وهل أساوم مثلك فيه ذا الشيء الحقير الحمد *** الذي عرفني بك فقالت له العجوز: أعوذ وجهك المليح برب الفلق، إن وجهك مليح وفعلك مليح هنيئاً لمن تنام في حضنك وتضم قوامك الرجيح وتحظى بوجهك الصبيح وخصوصاً إذا كانت صاحبة حسن مثلك. فضحك تاج الملوك حتى استلقى على قفاه ثم قال: يا قاضي الحاجات على أيدي العجائز الفاجرات، فقالت: يا ولدي ما الاسم؟ قال: اسمي تاج الملوك فقالت: إن هذا الاسم من أسماء الملوك ولكنك في زي التجار. فقال لها عزيز: من محبته عند أهله ومعزته عليهم سموه بهذا الاسم. فقالت العجوز: صدقت كفاكم **** شر الحساد ولو فتئت بمحاسنكم الأكباد. ثم أخذت القماش ومضت وهي باهتة من حسنه وجماله وقده واعتداله، ولم تزل ماشية حتى دخلت على السيدة دنيا وقالت لها: يا سيدتي جئت لك بقماش مليح فقالت لها: يا سيدتي ها هو فقبليه وانظريه. فلما رأته السيدة دنيا قالت لها: يا دادتي إن هذا قماش مليح ما رأيته في مدينتنا فقالت العجوز: يا سيدتي إن بائعه أحسن منه كأن رضوان فتح أبواب الجنان وسها فخرج منها التاجر الذي يبيع هذا القماش، وأنا أشتهي في هذه الليلة أن يكون عندك وينام بين نهودك، فإنه فتنة لمن يراه وقد جاء مدينتنا بهذه الأقمشة لأجل الفرجة، فضحكت السيدة دنيا من كلام العجوز وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة دنيا حين ضحكت من كلام العجوز وقالت: أخزاك **** يا عجوز النحس إنك خرفت ولم يبق لك عقل ثم قالت: هات القماش حتى أبصره جيداً فناولتها إياه فنظرته ثانياً فرأته شيئاً قليلاً وثمنه كثيراً وتعجبت من حسن ذلك القماش لأنها ما رأت في عمرها مثله فقالت لها العجوز: يا سيدتي لو رأيت صاحبه لعرفت أنه أحسن ما يكون على وجه الأرض فقالت لها السيدة دنيا: هل سألتيه إن كان له حاجة يعلمنا بها فنقضيها له؟ فقالت العجوز وقد هزت رأسها: حفظ **** فراستك، و**** إن له حاجة وهل أحد يخلو من حاجة؟ فقالت لها السيدة دنيا: اذهبي إليه وسلمي عليه وقولي له: شرفت بقدومك مدينتنا ومهما كان لك من الحوائج قضيناه لك على الرأس والعين فرجعت العجوز إلى تاج الملوك في الوقت فلما رآها طار قلبه من الفرح ونهض لها قائماً على قدميه وأخذ يدها وأجلسها إلى جانبه، فلما جلست واستراحت أخبرته بما قالته السيدة دنيا، فلما سمع ذلك فرح غاية الفرح واتسع صدره وانشرح وقال في نفسه: قد قضيت حاجتي ثم قال للعجوز: لعلك توصلين إليها كتاباً من عندي وتأتيني بالجواب فقالت: سمعاً وطاعة، فلما سمع ذلك منها قال لعزيز: ائتني بدواة وقرطاس وقلم من نحاس، فلما أتاه بتلك الأدوات كتب هذه الأبيات:


كتبت إليك يا سؤلي كتـابـاً
بما ألقاه من ألم الـفـراق
فأول ما أسطر نار قلـبـي
وثانيه غرامي واشتـياقـي
وثالثه مضى عمري وصبري
ورابعه جميع الوجد باقـي
وخامسه متى عيني تـراكـم
وسادسه متى يوم التلاقـي

ثم كتب في إمضائه: إن هذا الكتاب من أسير الأشواق المسجون في سجن الاشتياق الذي ليس له إطلاق إلا بالوصال ولو بطيف الخيال لأنه يقاسي أليم العذاب من فراق الأحباب، ثم أفاض دمع العين وكتب هذين البيتين:


كتبت إليك والعبرات تجري
ودمع العين ليس له انقطاع
ولست ببائس من فضل ***
عسى يوم يكون به اجتماع

ثم طوى الكتاب وختمه وأعطاه للعجوز وقال: أوصليه إلى السيدة دنيا فقالت: سمعاً وطاعة ثم أعطاها ألف دينار وقال: اقبلي مني هذه الهدية، فأخذتها وانصرفت داعية له، ولم تزل ماشية حتى دخلت على السيدة دنيا فلما رأتها قالت: يا دادتي أي شيء طالب من الحوائج حتى نقضيها له؟ فقالت لها: يا سيدتي قد أرسل معي كتاباً ولا أعلم بما فيه، وقرأته وفهمت معناه ثم قالت: من أين إلى أين حتى يراسلني هذا التاجر ويكاتبني؟ ثم لطمت وجهها وقالت: لولا خوفي من **** تعالى لصلبته على دكانه.

فقالت العجوز: وأي شيء في هذا الكتاب حتى أزعج قلبك هل فيه شكاية مظلمة أو فيه ثمن القماش؟ فقالت لها: ويلك ما فيه ذلك وما فيه إلا عشق ومحبة وهذا كله منك وإلا فمن أي يتوصل هذا الشيطان إلى هذا الكلام، فقالت لها العجوز: يا سيدتي أنت قاعدة في قصرك العالي وما يصل إليك أحد ولا الطير الطائر، سلامتك من اللوم والعتاب وما عليك من نباح الكلاب، فلا تؤاخذيني حيث أتيتك بهذا الكتاب ولكن الرأي عندي أن تردي إليه جواباً وتهدديه فيه بالقتل وتنهيه عن هذا الهذيان فإنه ينتهي ولا يعود إلى فعلته.

فقالت السيدة دنيا: أخاف أن أكاتبه فيطمع فقالت العجوز: إذا سمع التهديد والوعيد رجع عما هو عليه، فقالت: علي بدواة وقرطاس وقلم من نحاس، فلما أحضروا لها تلك الأدوات كتبت هذه الأبيات:

يا مدعي الحب والبلوى مع السهر
وما تلاقيه من وجد ومن فـكـر
أتطلب الوصل يا مغرور من قمر
وهل ينال المنى شخص من القمر
إني نصحتك عما أنت طـالـبـه
فأقصر فإنك في هذا على خطر
وإن رجعت إلى هذا الكلام فـقـد
أتاك مني عذاب زائد الـضـرر
وحق من خلق الإنسان من علـق
ومن أنار ضياء الشمس والقمـر
لئن عـدت لـمـا أنـت ذاكـره
لأصلبنك في جزع من الشـجـر

ثم طوت الكتاب وأعطته للعجوز، وقالت لها: أعطيه له وقولي له: كف عن هذا الكلام فقالت لها سمعاً وطاعة، ثم أخذت الكتاب وهي فرحانة ومضت إلى منزلها وباتت في بيتها، فلما أصبح الصباح توجهت إلى دكان تاج الملوك فوجدته في انتظارهما فلما رآها كاد أن يطير من الفرح فلما قربت منه نهض إليها قائماً وأقعدها بجانبه فأخرجت له الورقة وناولته إياها وقالت له: اقرأ ما فيها ثم قالت له: إن السيدة دنيا لما قرأت كتابك اغتاظت ولكنني لاطفتها ومازحتها حتى أضحكتها ورقت لك وردت لك الجواب.

فشكرها تاج الملوك على ذلك وأمر عزيز أن يعطيها ألف دينار، ثم إنه قرأ الكتاب وفهمه وبكى بكاء شديداً فرق له قلب العجوز، وعظم عليها بكاؤه وشكواه ثم قالت له: يا ولدي وأي شيء في هذه الورقة حتى أبكاك؟ فقال لها: إنها تهددني بالقتل والصلب وتنهاني عن مراسلتها وإن لم أراسلها يكون موتي خيراً من حياتي فخذي جواب كتابها ودعيها تفعل ما تريد.

فقالت له العجوز: وحياة شبابك لا بد أني أخاطر معك بروحي وأبلغك مرادك وأوصلك إلى ما في خاطرك فقال لها تاج الملوك: كل ما تفعليه أجازيك عليه ويكون في ميزانك فإنك خبيرة بالسياسة وعارفة بأبواب الدناسة وكل عسير عليك يسير و**** على كل شيء قدير، ثم أخذ ورقة وكتب فيها هذه الأبيات:


أمست تهددني بالقتل واحـزنـي
والقتل لي راحة والموت مقدور
والموت أغنى لصب أن تطول به
حياته وهو ممنوع ومقـهـور
ب**** زوروا محباً قل نـاصـره
فإنني عبد والعـبـد مـأسـور
يا سادتي فارحموني في محبتكـم
فكل من يعشق الأحرار معذور

ثم إنه تنفس الصعداء وبكى حتى بكت العجوز، وبعد ذلك أخذت الورقة منه وقالت له: طب نفساً وقر عيناً، فلا بد أن أبلغك مقصودك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قامت وتركت تاج الملوك على النار وتوجهت إلى السيدة دنيا فرأتها متغيرة اللون من غيظها بمكتوب تاج الملوك فناولتها الكتاب فازدادت غيظاً، وقالت للعجوز: أما قلت لك أنه يطمع فينا؟ فقالت لها: وأي شيء من هذا الكتاب حتى يطمع فيك؟ فقالت لها السيدة دنيا: اذهبي إليه وقولي له إن راسلتها بعد ذلك ضربت عنقك فقالت لها العجوز: اكتبي له هذا الكلام في مكتوب وأنا آخذ المكتوب معي لأجل أن يزداد خوفاً فأخذت ورقة وكتبت فيها هذه الأبيات:


أيا غافلاً عن حادثـا الـطـوارق
وليس إلى نيل الوصال بسـابـق
أتزعم يا مغرور أن تدرك السهـا
وما أنت للبدر المنير بـلا حـق
فكيف ترجينا وتأمـل وصـلـنـا
لتحظى بضم للقدود الـرواشـق
فدع عنك هذا القصد خيفة سطوتي
بيوم عبوس فيه شيب المـفـارق

ثم طوت الكتاب وناولته للعجوز فأخذته وانطلقت به إلى تاج الملوك فلما رآها قام على قدميه وقال: لا أعدمني **** بركة قدومك فقالت له العجوز: خذ جواب مكتوبك فأخذ الورقة وقرأها وبكى بكاء شديداً، وقال إني أشتهي من يقتلني الآن فإن القتل أهون علي من هذا الأمر الذي أنا فيه ثم أخذ دواة وقلماً وقرطاس وكتب مكتوباً ورقم هذين البيتين:


فيا منيتي لا تبتغي الهجر والجفاء
فإني محب في المحبة غـارق
ولا تحسبيني في الحياة مع الجفاء
فروحي من بعد الأحبة طالـق
ثم طوى الكتاب وأعطاه للعجوز وقال له: قد أتعبتك بدون فائدة وأمر عزيز أن يدفع لها ألف دينار وقال لها: يا أمي إن هذه الورقة لا بد أن يعقبها كمال الاتصال أو كمال الانفصال فقالت له: يا ولدي و**** ما أشتهي لك إلا الخير ومرادي أن تكون عندك فإنك أنت القمر صاحب الأنوار الساطعة وهي الشمس الطالعة وإن لم أجمع بينكما فليس في حياتي فائدة وأنا قد قطعت عمري في المكر والخداع حتى بلغت التسعين من الأعوام فكيف أعجز عن الجمع بين اثنين في الحرام ثم ودعته وطيبت قلبه وانصرفت ولم تزل تمشي حتى دخلت السيدة دنيا وقد أخفت الورقة في شعرها.

فلما جلست عندها حكت رأسها وقالت: يا سيدتي عساك أن تفلي شوشتي فإن لي زماناً ما دخلت الحمام فكشفت السيدة دنيا عن مرفقيها وحلت شعر العجوز وصارت تفلي شوشتها فسقطت الورقة من رأسها فرأتها السيدة دنيا فقالت: ما هذه الورقة؟ فقالت: كأني قعدت على دكان التاجر فتعلقت معي هذه الورقة هاتيها حتى أوديها له ففتحتها السيدة دنيا وقرأها وفهمت ما فيها فاغتاظت غيظاً شديداً وقالت: كل الذي جرى لي من تحت رأس هذه العجوز النحس فصاحت على الجواري والخدم وقالت: أمسكوا هذه العجوز الماكرة واضربوها بنعالكم فنزلوا عليها ضرباً بالنعال حتى غشي عليها.

فلما أفاقت قالت لها: و**** يا عجوز السوء لولا خوفي من **** تعالى لقتلتك ثم قالت لهم: أعيدوا الضرب فضربوها حتى غشي عليها ثم أمرتهم أن يجروها ويرموها خارج الباب فسحبوها على وجهها ورموها قدام الباب.

فلما أفاقت قامت تمشي وتقعد حتى وصلت إلى منزلها وصبرت إلى الصباح ثم قامت وتمشت حتى أتت إلى تاج الملوك وأخبرته بجميع ما جرى لها، فصعب عليه ذلك وقال لها: يعز علي يا أمي ما جرى لك ولكن كل شيء بقضاء وقدر فقالت له: طب نفساً وقر عيناً فإني لا أزال أسعى حتى أجمع بينك وبينها وأوصلك إلى هذه العاهرة التي أحرقتني بالضرب.

فقال لها تاج الملوك: أخبريني ما سبب بغضها للرجال؟ فقالت: إنها رأت مناماً أوجب ذلك فقال لها: وما ذلك المنام؟ فقالت: إنها كانت نائمة ذات ليلة فرأت صياداً أنصب شركاً في الأرض وبذر حوله قمحاً ثم جلس قريباً منه فلم يبق شيء من الطيور إلا وقد أتى إلى ذلك الشرك، ورأت في الطيور حمامتين ذكراً وأنثى. فبينما هي تنظر إلى الشرك وإذا برجل الذكر تعلق في الشرك وصار يتخبط فنفرت عنه جميع الطيور ومرت فرجعت إليه امرأته وحامت عليه ثم تقدمت إلى الشرك والصياد غافل فصارت تنقر العين التي فيها رجل الذكر وصارت تجذبه بمنقارها حتى خلصت رجله من الشرك وطارت الطيور هي وإياه فجاء بعد ذلك الصباح وأصلح الشرك وقعد بعيداً عنه فلم يمض غير ساعة حتى نزلت الطيور وعلق الشرك في الأنثى فنفرت عنها جميع الطيور ومن جملتها الطير الذكر ولم يعد لأنثاه فجاء الصياد وأخذ الطير الأنثى وذبحها فانتبهت مرعوبة من منامها وقالت: كل ذكر مثل هذا ما فيه خير والرجال جميعهم ما عندهم خير للنساء.

فلما فرغت من حديثها لتاج الملوك قال لها: يا أمي أريد أن أنظر إليها نظرة واحدة ولو كان ذلك مماتي فتحيلي لي بحيلة حتى أنظرها فقالت له: اعلم أن لها بستاناً تحت قصرها وهو برسم فرجتها وإنها تخرج إليه في كل شهر مرة من باب السر وتقعد فيه عشرة أيام وقد جاء أوان خروجها إلى الفرجة، فإذا أرادت الخروج أجيء إليك أعلمك حتى تخرج وتصادفها واحرص على أنك لا تفارق البستان فلعلها إذا رأت حسنك وجمالك يتعلق قلبها بمحبتك فإن المحبة أعظم أسباب الاجتماع فقال: سمعاً وطاعة، ثم قام من الدكان هو وعزيز وأخذا معهما العجوز ومضيا إلى منزلهما وعرفاه لها ثم إن تاج الملوك قال لعزيز: يا أخي ليس لي حاجة بالدكان وقد قضيت حاجتي منها ووهبتها لك بجميع ما فيها لأنك تغربت معي وفارقت بلادك فقبل عزيز منه ذلك ثم جلسا يتحدثان وصار تاج الملوك يسأله عن غريب أحواله وما جرى له وبعد ذلك أقبلا على الوزير وأعلماه بما عزم عليه تاج الملوك وقالا له: كيف العمل؟ فقال: قوموا بنا إلى البستان فلبس كل واحد منهم أفخر ما عنده وخرجوا وخلفهم ثلاثة مماليك وتوجهوا إلى البستان فرأوه كثير الأشجار غزير الأنهار ورأوا الخولي جالساً على الباب فسلموا عليه فرد عليهم السلام فناوله الوزير مائة دينار وقال: أشتهي أن تأخذ هذه النفقة وتشتري لنا شيئاً نأكله فإننا غرباء ومعي هؤلاء الأولاد وأردت أن أفرجهم فأخذ البستاني الدنانير وقال لهم: ادخلوا وتفرجوا وجميعه ملككم واجلسوا حتى أحضر لكم بما تأكلون ثم توجه إلى السوق ودخل الوزير وتاج الملوك وعزيز داخل البستان بعد أن ذهب البستاني إلى السوق ثم بعد ساعة أتى ومعه خروف مشوي ووضعه بين أيديهم فأكلوا وغسلوا أيديهم وجلسوا يتحدثون فقال الوزير: أخبرني عن هذا البستان هل هو لك أم أنت مستأجره؟ فقال الشيخ: ما هو لي وإنما لبنت الملك السيدة دنيا فقال الوزير: كم لك في كل شهر من الأجرة؟ فقال: دينار واحد لا غير فتأمل الوزير في البستان فرأى هناك قصراً عالياً إلا أنه عتيق فقال الوزير: أريد أن أعمل خيراً تذكرني به فقال: وما تريد أن تفعل من الخير؟ فقال: خذ هذه الثلثمائة دينار فلما سمع الخولي بذكر الذهب قال: يا سيدي مهما شئت فافعل ثم أخذ الدنانير فقال له: إن شاء **** تعالى نفعل في هذا المحل خيراً، ثم خرجوا من عنده وتوجهوا إلى منزلهم وباتوا تلك الليلة.

فلما كان الغد أحضر الوزير مبيضاً ونقاشاً وصانعاً جيداً، وأحضر لهم جميع ما يحتاجون إليه من الآلات ودخل بهم البستان وأمرهم ببياض ذلك القصر وزخرفته بأنواع النقش ثم أمر بإحضار الذهب واللازورد وقال للنقاش: اعمل في صدر هذا الإيوان آدمي صياد كأنه نصب شركه، وقد وقعت فيه حمامة واشتبكت بمنقارها في الشرك.

فلما نقش النقاش جانباً وفرع من نقشه، قال له الوزير: افعل في الجانب الآخر مثل الأول وصور صورة حمامة في الشرك وأن الصياد أخذها ووضع السكين على رقبتها وأعمل في الجانب الآخر صورة جارح كبير قد قنص ذكر الحمام وأنشب فيه مخالبه ففعل ذلك فلما فرغ من هذه الأشياء التي ذكرها الوزير ودعوا البستاني، ثم توجهوا إلى منزلهم وجلسوا يتحدثون. هذا ما كان من أمر هؤلاء. وأما ما كان من أمر العجوز فإنها انقطعت في بيتها واشتاقت بنت الملك إلى الفرجة في البستان وهي لا تخرج إلا بالعجوز فأرسلت إليها وصالحتها وطيبت خاطرها وقالت: إني أريد أن أخرج إلى البستان لأتفرج على أشجاره وأثماره وينشرح صدري بأزهاره، فقالت لها العجوز: سمعاً وطاعة، ولكن أريد أن أذهب إلى بيتي وألبس أثوابي وأحضر عندك فقالت: اذهبي إلى بيتك ولا تتأخري عني فخرجت العجوز من عندها وتوجهت إلى تاج الملوك وقالت له: تجهز والبس أفخر ثيابك واذهب إلى البستان فقال: سمعاً وطاعة وجعلت بينها وبينه إشارة، ثم توجهت إلى السيدة دنيا وبعد ذهابها قام الوزير وعزيز وألبسا تاج الملوك بدلة من أفخر ملابس الملوك تساوي خمسة آلاف دينار وشد في وسطه حياصة من الذهب مرصعة بالجواهر والمعادن ثم توجه إلى البستان.

فلما وصل إلى باب البستان وجد الخولي جالساً هناك فلما رآه البستاني نهض له على الأقدام وقابله بالتعظيم والإكرام وفتح له الباب وقال له: ادخل وتفرج في البستان ويعلم البستاني أن بنت الملك تدخل البستان في هذا اليوم فلما دخل تاج الملوك لم يلبث إلا مقدار ساعة وسمع ضجة فلم يشعر إلا والخدم والجواري خرجوا من باب السر فلما رآهم الخولي ذهب إلى تاج الملوك، وأعلمه بمجيئها وقال له: يا مولاي كيف يكون العمل وقد أتت ابنة الملك السيدة دنيا؟ فقال: لا بأس عليك فإني أختفي في مواضع البستان فأوصاه البستاني بغاية الاختفاء، ثم تركه وراح فلما دخلت بنت الملك هي وجواريها والعجوز في البستان قالت العجوز في نفسها: متى كان الخدم معنا فإننا لا ننال مقصودنا ثم قالت لابنة الملك: يا سيدتي إني أقول لك عن شيء فيه راحة لقلبك فقالت السيدة دنيا: قولي ما عندك؟ فقالت العجوز: يا سيدتي إن هؤلاء الخدم لا حاجة لك بهم في هذا الوقت ولا ينشرح صدرك ما داموا معنا فاصرفيهم عنا، فقالت السيدة دنيا: صدقت، ثم صرفتهم، وبعد قليل تمشت فصار تاج الملوك ينظر إليها وإلى حسنها وجمالها وهي لا تشعر بذلك وكلما نظر إليها يغشى عليه مما يرى من بارع حسنها، وصارت العجوز تسارقها الحديث إلى أن أوصلتها إلى القصر الذي أمر الوزير بنقشه، ثم دخلت ذلك القصر وتفرجت على نقشه وأبصرت الطيور، والصياد والحمام. فقالت: سبحان **** إن هذه صفة ما رأيته في المنام، وصارت تنظر إلى صور الطيور والصياد والشرك وتتعجب ثم قالت: يا دادتي كنت ألوم الرجال وأبغضهم ولكن انظري الصياد كيف ذبح الطير الأنثى وتخلص الذكر، وأراد أن يجيء إلى الأنثى ويخلصها فقابله الجارح وافترسه وصارت العجوز تتجاهل عليها وتشاغلها بالحديث إلى أن قربا من المكان المختفي فيه تاج الملوك فأشارت إليه العجوز أن يتمشى تحت شبابيك القصر.

فبينما السيدة دنيا كذلك إذ لاحت منها التفاتة فرأته وتأملت جماله وعده واعتداله، ثم قالت: يا دادتي من أين هذا الشاب المليح؟ فقالت: لا أعلم به غير أني أظن أنه ولد ملك عظيم فإنه بلغ من الحسن النهاية ومن الجمال الغاية فهامت به السيدة دنيا وانحلت عرى عزائمها وانبهر عقلها من حسنه وجماله وقده واعتداله وتحركت عليها الشهوة، فقالت للعجوز: يا دادتي إن هذا الشاب مليح. فقالت لها العجوز: صدقت يا سيدتي، ثم إن العجوز أشارت إلى ابن الملك أن يذهب إلى بيته وقد التهب به نار الغرام وزاد به الوجد والهيام فسار وودع الخولي وانصرف إلى منزله ولم يخالف العجوز وأخبر الوزير وعزيز بأن العجوز أشارت إليه بالانصراف فصارا يصبرانه ويقولان له: لولا أن العجوز تعلم في رجوعك مصلحة ما أشارت عليك به، هذا ما كان من أمر تاج الملوك والوزير وعزيز. وأما ما كان من أمر ابنة الملك السيدة دنيا فإنها غلب عليها الغرام وزاد بها الوجد والهيام، وقالت للعجوز: ما أعرف اجتماعي بهذا الشاب إلا منك فقالت لها العجوز: أعوذ ب**** من الشيطان الرجيم أنت لا تريدين الرجال وكيف حلت بك من عشقه الأوجال ولكن و**** ما يصلح لشبابك إلا هو. فقالت لها السيدة دنيا: يا دادتي أسعفيني عليه ولك عندي ألف دينار وخلعة بألف دينار وإن لم تسعفيني بوصاله فإني ميتة لا محالة. فقالت العجوز امض أنت إلى قصرك وأنا أتسبب في اجتماعكما، وأبذل روحي في مرضاتكما، ثم إن السيدة دنيا توجهت إلى قصرها وتوجهت العجوز إلى تاج الملوك فلما رآها نهض لها على الأقدام وقابلها بإعزاز وإكرام وأجلسها إلى جانبه فقالت له: إن الحيلة قد تمت وحكت له ما جرى لها مع السيدة دنيا فقال لها: متى يكون الاجتماع؟ قالت: في غد، فأعطاها ألف دينار وحلة بألف دينار فأخذتهما وانصرفت، وما زالت سائرة حتى دخلت على السيدة دنيا فقالت لها: يا دادتي ما عندك من خبر الحبيب شيء؟ فقالت لها: قد عرفت مكانه وفي غد أكون به عندك.

ففرحت السيدة دنيا بذلك وأعطتها ألف دينار وحلة بألف دينار فأخذتهما وانصرفت إلى منزلها وباتت فيه إلى الصباح، ثم خرجت وتوجهت إلى تاج الملوك وألبسته لبس النساء وقالت له: امش خلفي وتمايل في خطواتك ولا تستعجل في مشيك ولا تلتفت إلى من يكلمك، وبعد أن أوصت تاج الملوك بهذه الوصية خرجت وخرج خلفها، وهو في زي النسوان وصارت تعلمه في الطريق حتى لا يفزع ولم تزل ماشية وهو خلفها حتى وصلا إلى باب القصر فدخلت وهو وراءها وصارت تخرق الأبواب والدهاليز إلى أن جاوزت به سبعة أبواب ولما وصلت إلى الباب السابع قالت لتاج الملوك: قوي قلبك، وإذا زعقت عليك وقلت لك: يا جارية اعبري فلا تتوان في مشيك وهرول فإذا دخلت الدهليز فانظر إلى شمالك ترى إيواناً فيه خمسة أبواب وادخل الباب السادس فإن مرادك فيه.

فقال تاج الملوك: وأين تروحين أنت؟ فقالت له: ما أروح موضعاً غير أني ربما أتأخر عنك وأتحدث مع الخادم الكبير، ثم مشت وهو خلفها حتى وصلت إلى الباب الذي فيه الخادم الكبير فرأى معها تاج الملوك في صورة جارية فقال لها: ما شأن هذه الجارية التي معك؟ فقالت له: هذه جارية قد سمعت السيدة دنيا بأنها تعرف الأشغال وتريد أن تشتريها فقال لها الخادم: أنا لا أعرف جارية ولا غيرها ولا يدخل أحد حتى أفتشه كما أمرني الملك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قالت للبواب وقد أظهرت الغضب: أنا أعرف أنك عاقل ومؤدب فإذا كان حالك قد تغير فإني أعلمها بذلك وأخبرها أنك تعرضت لجاريتها.

ثم زعقت على تاج الملوك وقالت له: اعبري يا جارية فعند ذلك عبر إلى داخل الدهليز كما أمرته وسكت الخادم ولم يتكلم، ثم إن تاج الملوك عد خمسة أبواب ودخل الباب السادس فوجد السيدة دنيا واقفة في انتظاره، فلما رأته عرفته فضمته إلى صدرها وضمها إلى صدره ثم دخلت العجوز عليهما وتحايلت على صرف الجواري ثم قالت السيدة دنيا للعجوز: كوني أنت البوابة ثم اختلت هي وتاج الملوك ولم يزالا في ضم وعناق والتفاف ساق على ساق إلى وقت السحر.

ولما أصبح الصباح غلقت عليهما الباب ودخلت مقصورة أخرى وجلست على جري عادتها وأتت إليها الجواري فقضت حوائجهن وصارت تحدثهن، ثم قالت لهن: اخرجن الآن من عندي فإني أريد أن أنشرح وحدي، فخرجت الجواري من عندها ثم إنها أتت إليهما ومعها شيء من الأكل فأكلوا وأخذوا في الهراش إلى وقت السحر فأغلقت عليهما مثل اليوم الأول، ولم يزالا على ذلك مدة شهر كامل. هذا ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا. وأما ما كان من أمر الوزير وعزيز فإنهما لما توجه تاج الملوك إلى قصر بنت الملك ومكث تلك المدة علما أنه لا يخرج منه أبداً وأنه هالك لا محالة فقال عزيز: يا والدي ماذا نصنع؟ فقال الوزير: يا ولدي إن هذا الأمر مشكل وإن لم نرجع إلى أبيه ونعلمه فإنه يلومنا على ذلك ثم تجهزا في الوقت والساعة وتوجها إلى الأرض الخضراء والعمودين وتخت الملك سليمان شاه وسارا يقطعان الأودية في الليلة والنهار إلى أن دخلا على الملك سليمان شاه وأخبراه بما جرى لولده وأنه من حين دخل قصر بنت الملك لم يعلموا له خبر فعند ذلك قامت عليه القيامة واشتدت به الندامة وأمر أن ينادي في مملكته بالجهاد ثم أبرز العساكر إلى خارج مدينته ونصب لهم الخيام وجلس في سرادقه حتى اجتمعت الجيوش من سائر الأقطار، وكانت رعيته تحبه لكثرة عدله وإحسانه ثم سار في عسكر سد الأفق متوجهاً في طلب ولده تاج الملوك. هذا ما كان من أمر هؤلاء.

وأما ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا فإنهما أقاما على حالهما نصف سنة وهما كل يوم يزدادان محبة في بعضهما وزاد على تاج الملوك العشق والهيام والوجد والغرام حتى أفصح لها عن الضمير وقال لها: اعلمي يا حبيبة القلب والفؤاد أني كلما أقمت عندك ازددت هياماً ووجداً وغراماً لأني ما بلغت المرام بالكلية فقالت له: وما تريد يا نور عيني؟

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن دنيا قالت لتاج الملوك: وما تريد يا نور عيني وثمرة فؤادي، إن شئت غير الضم والعناق والتفاف الساق على الساق فافعل الذي يرضيك وليس *** فينا شريك فقال: ليس مرادي هكذا وإنما مرادي أن أخبرك بحقيقتي فاعلمي إني لست بتاجر بل أنا ملك ابن ملك واسم أبي الأعظم سليمان شاه الذي أنفذ الوزير رسولاً إلى أبيك ليخطبك لي فلما بلغك الخبر ما رضيت، ثم إنه قص عليها قصته من الأول إلى الآخر وليس في الإعادة إفادة، وأريد الآن أن أتوجه إلى أبي ليرسل رسولاً إلى أبيك ويخطبك منه ونستريح.

فلما سمعت ذلك الكلام فرحت فرحاً شديداً لأنه وافق غرضها ثم على هذا الاتفاق، واتفق في الأمر المقدور أن النوم غلب عليهما في تلك الليلة من دون الليالي واستمرا إلى أن طلعت الشمس، وفي ذلك الوقت كان الملك شهرمان جالساً في دست مملكته وبين يديه أمراء دولته إذ دخل عليه عريف الصياغ وبيده حق كبير وفتحه بين يدي الملك وأخرج منه علبة لطيفة تساوي مائة ألف دينار لما فيها من الجواهر واليواقيت والزمرد والتفت إلى الخادم الكبير الذي جرى له مع العجوز ما جرى وقال له: يا كافور خذ هذه العلبة وامض بها إلى السيدة دنيا فأخذها الخادم ومضى حتى وصل إلى مقصورة بنت الملك فوجد بابها مغلقاً والعجوز نائمة على عتبته فقال الخادم: إلى هذه الساعة وأنتم نائمون؟ فلما سمعت العجوز كلام الخادم انتبهت من منامها وخافت منه وقالت له: اصبر حتى آتيك بالمفتاح ثم خرجت على وجهها هاربة.

هذا ما كان من أمرها. وأما ما كان من أمر الخادم فإنه عرف أنها مرتابة فخلع الثياب ودخل المقصورة فوجد السيدة دنيا معانقة لتاج الملوك وهما نائمان، فلما رأى ذلك تحير في أمره وهم أن يعود إلى الملك فانتبهت السيدة دنيا فوجدته فتغيرت واصفر لونها وقالت له: يا كافور استر ما ستر **** فقال: أنا ما أقدر أن أخفي شيئاً عن الملك، ثم أقفل الباب عليهما.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم لما أقفل الباب عليهما رجع إلى الملك فقال له: هل أعطيت العلبة لسيدتك؟ فقال الخادم: خذ العلبة ها هي وأنا لا أقدر أن أخفي شيئاً، اعلم أني رأيت عند السيدة دنيا شاباً جميلاً نائماً معها في فراش واحد وهما متعانقان فأمر الملك بإحضارهما فلما حضرا بين يديه قال لهما: ما هذه الفعال؟ واشتد به الغيظ فأخذ نمشة وهم أن يضرب به تاج الملوك وقال له: ويلك من أنت؟ ومن أين أنت؟ ومن هو أبوك وما جسرك على ابنتي؟ فقال تاج الملوك: اعلم أيها الملك إن قتلتني هلكت وندمت أنت ومن معك في مملكتك فقال له الملك: ولم ذلك؟ فقال: اعلم أني ابن الملك سليمان شاه وما تدري إلا وقد أقبل عليك بخيله ورجاله. فلما سمع الملك شهرمان ذلك الكلام أراد أن يؤخر قتله ويضعه في السجن حتى ينظر صحة قوله، فقال له وزيره: يا ملك الزمان الرأي عندي أن تعجل قتل هذا العلق فإنه تجاسر على بنات الملوك فقال السياف: اضرب عنقه فإنه خائن، فأخذه السياف وشد وثاقه ورفع يده وشاور الأمراء أولاً وثانياً وقصد بذلك أن يكون في الأمر توان فزعق عليه الملك وقال: متى تشاور إن شاورت مرة أخرى ضربت عنقك، فرفع السياف يده حتى بان شعر إبطه وأراد أن يضرب عنقه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السياف رفع يده وأراد أن يضرب عنقه وإذا بزعقات عالية والناس أغلقوا الدكاكين فقال السياف: لا تعجل ثم أرسل من يكشف الخبر فمضى الرسول ثم عاد إليه وقال له: رأيت عسكراً كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج وخيلهم في ركض وقد ارتجت لهم الأرض وما أدري خبرهم، فاندهش الملك وخاف على ملكه أن ينزع منه ثم التفت إلى وزيره وقال له: أما خرج أحد من عسكرنا إلى هذا العسكر؟ فما أتم كلامه إلا وحجابه قد دخلوا عليه ومعهم رسل الملك القادم ومن جملتهم الوزير فابتدأه بالسلام فنهض لهم قائماً وقربهم وسألهم عن شأن قدومهم فنهض الوزير من بينهم وتقدم إليه وقال له: اعلم أن الذي نزل بأرضك ليس كالملوك المتقدمين ولا مثل السلاطين السالفين. فقال له الملك: ومن هو؟ قال الوزير: هو صاحب العدل والأمان الذي سارت بعلو همته الركبان السلطان سليمان شاه صاحب الأرض الخضراء والعمودين وجبال أصفهان وهو يحب العدل والإنصاف ويكره الجور والاعتساف ويقول لك: إن ابنه عندك وفي مدينتك وهو حشاشة قلبه وثمرة فؤاده، فإن وجده سالماً فهو المقصود وأنت المشكور المحمود وإن كان فقد من بلادك أو أصابه شيء فأبشر بالدمار وخراب الديار لأنه يصير بلدك قفراً ينعق فيها البوم والغراب، وها أنا قد بلغتك الرسالة والسلام.

فلما سمع الملك شهرمان ذلك الكلام من الرسول انزعج فؤاده وخاف على مملكته وزعق على أرباب دولته ووزرائه وحجابه ونوابه فلما حضروا قال لهم: ويلكم انزلوا وفتشوا على ذلك الغلام وكان تحت يد السياف وقد تغير من كثرة ما حصل من الفزع، ثم إن الرسول لاحت منه التفاتة فوجد ابن ملكه على نطع الدم فعرفه وقام ورمى روحه عليه وكذلك بقية الرسل ثم تقدموا وحلوا وثاقه وقبلوا يديه ورجليه ففتح تاج الملوك عينيه فعرف وزير والده وعرف صاحبه عزيز فوقع مغشياً عليه من شدة فرحته بهما.

ثم إن الملك شهرمان صار متحيراً في أمره وخاف خوفاً شديداً لا تحقق مجيء هذا العسكر بسبب هذا الغلام فقام وتمشى إلى تاج الملوك وقبل رأسه ودمعت عيناه وقال له: يا ولدي لا تؤاخذني ولا تؤاخذ المسيء بفعله فارحم شيبتي ولا تخرب مملكتي فدنا منه تاج الملوك وقبل يده وقال له: لا باس عليك وأنت عندي بمنزلة والدي ولكن الحذر أن يصيب محبوبتي السيدة دنيا شيء.

فقال الملك شهرمان: لا تخف عليها فما يحصل لها إلا السرور، وسار الملك يعتذر إليه ويطيب خاطر وزير الملك سليمان شاه ووعده بالمال الجزيل على أن يخفي من الملك ما رآه، ثم بعد ذلك أمر كبراء دولته أن يأخذوا تاج الملوك ويذهبوا به إلى الحمام ويلبسوه بدلة من خيار الملابس ويأتوا بسرعة ففعلوا ذلك وأدخلوه الحمام وألبسوه البدلة التي أفردها له الملك شهرمان ثم أتوا به إلى المجلس.

فلما دخل على الملك شهرمان وقف له هو وجميع أرباب دولته وقام الجميع في خدمته. ثم إن تاج الملوك جلس يحدث وزير والده وعزيز بما وقع له، فقال له الوزير وعزيز: ونحن في تلك المدة مضينا إلى والدك فأخبرناه بأنك دخلت سراية بنت الملك ولم تخرج والتبس علينا أمرك، فحين سمع بذلك جهز العساكر ثم قدمنا هذه الديار وكان في قدومنا الفرح والسرور. فقال لهما: لا زال الخير يجري على أيديكما أولاً وآخراً، وكان الملك في ذلك الوقت قد دخل على ابنته السيدة دنيا فوجدها تبكي على تاج الملوك وقد أخذت سيفاً وركزت قبضته إلى الأرض وجعلت ذبابته على رأس قلبها بين نهديها وانحنت على السيف وصارت تقول: لا بد أن أقتل نفسي ولا أعيش بعد حبيبي. فلما دخل عليها أبوها ورآها على هذه الحالة صاح عليها وقال لها: يا سيدة بنات الملوك لا تفعلي وارحمي أباك وأهل بلدتك، ثم تقدم إليها وقال لها: أحاشيك أن يصيب والدك بسببك سوء، ثم أعلمها بالقصة وأن محبوبها ابن الملك سليمان شاه يريد زواجها وقال لها: إن أمر الخطبة والزواج مفوض إلى رأيك، فتبسمت وقالت له: أما قلت لك إنه ابن سلطان فأنا أخليه يصلبك على خشبة لا تساوي درهمين. فقال لها: ب**** عليك أن ترحمي أباك فقالت له: رح إليه واتني به فقال لها: على الرأس والعين، ثم رجع من عندها سريعاً ودخل على تاج الملوك وشاوره بهذا الكلام، ثم قام معه وتوجها إليها فلما رأت تاج الملوك عانقته قدام أبيها وتعلقت به وقالت له: أوحشتني، ثم التفتت إلى أبيها وقالت: هل أحد يفرط في مثل هذا الشاب المليح وهو ملك ابن ملك؟ فعند ذلك خرج الملك شهرمان ورد الباب عليهما ومضى إلى وزير أبي تاج الملوك ورسله وأمرهم أن يعلموا السلطان شاه بأن ولده بخير وعافية وهو في ألذ عيش، ثم إن السلطان شهرمان أمر بإخراج الضيافات والعلوفات إلى عساكر السلطان سليمان شاه والد تاج الملوك فلما خرجوا جميع ما أمر به أخرج مائة من الخيل ومائة هجين ومائة مملوك ومائة عبد ومائة جارية وأرسل الجميع إليه هدية، ثم بعد ذل توجه إليه هو وأرباب دولته وخواصه حتى صاروا في ظاهر المدينة.

فلما علم بذلك السلطان سليمان شاه تمشى خطوات إلى لقائه وكان الوزير وعزيز أعلماه ففرح وقال: الحمد *** الذي بلغ ولدي مناه، ثم إن الملك سليمان شاه أخذ الملك شهرمان بالحضن وأجلسه بجانبه على السرير وصار يتحدث هو وإياه ثم قدموا لهم الطعام فأكلوا حتى اكتفوا ثم قدموا لهم الحلويات ولم يمض إلا قليل حتى جاء تاج الملوك وقدم عليه بلباسه وزينته، فلما رآه والده قام له وقبله وقام له جميع من حضر وجلس بين أيديهم ساعة يتحدثون.

فقال الملك سليمان شاه: إني أريد أن أكتب كتاب ولدي على ابنتك على رؤوس الأشهاد فقال له: سمعاً وطاعة، ثم أرسل الملك شهرمان إلى القاضي والشهود فحضروا وكتبوا الكتاب وفرح العساكر بذلك وشرع الملك شهرمان في تجهيز ابنته. ثم قال تاج الملوك لوالده أن عزيزاً رجل من الكرام وقد خدمني خدمة عظيمة وتعب وسافر معي وأوصلني إلى بغيتي ولم يزل يصبر لي حتى قضيت حاجتي ومضى معنا سنتان وهو مشتت من بلاده، فالمقصود أننا نهيئ له تجارة لن بلاده قريبة. فقال له والده: نعم ما رأيت، ثم هيأوا له مائة حمل من أغلى القماش وأقبل عليه تاج الملوك وودعه وقال له: اقبل هذه على سبيل الهدية فقبلها منه وقبل الأرض قدامه وقدام والده سليمان شاه ثم ركب تاج الملوك وسافر مع عزيز قدر ثلاثة أميال وبعدها أقسم عليه عزيز أن يرجع. وقال: ب**** لولا والدتي ما صبرت على فراقك، فبالله عليك لا تقطع أخبارك عني، ثم ودعه ومضى إلى مدينته فوجد والدته بنت له في وسط الدار قبراً وصارت تزوره، ولما دخل الدار وجدها قد حلت شعرها ونشرته على القبر وهي تفيض دمع العين وتنشد هذين البيتين:


ب**** يا قبر هل زالت محاسنـه
أو قد تغير ذات المنظر النضر
يا قبر ما أنت بستان ولا فلـك
فكيف يجمع فيك البدر والزهر

ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:

مالي مررت على القبور مسلما
قبر الحبيب فلم يرد جـوابـي
قال الحبيب وكيف رد جوابكـم
وأنا رهين جـنـادل وتـراب
أكل التراب محاسني فنسيتكـم
وحجبت عن أهلي وعن أحبابي


فلما أتمت شعرها إلا وعزيز داخل عليها، فلما رأته قامت إليه واحتضنته وسألته عن سبب غيابه فحدثها بما وقع له من أوله إلى آخره وأن تاج الملوك أعطاه من المال والأقمشة مائة حمل من القماش ففرحت بذلك وأقام عزيز عند والدته متحيراً فيما وقع له من الدليلة المحتالة التي خصته. هذا ما كان من أمر عزيز. وأما ما كان من أمر تاج الملوك فإنه دخل بمحبوبته السيدة دنيا وأزال بكارتها، ثم إن الملك شهرمان شرع في تجهيز ابنته للسفر مع زوجها وأبيه فأحضر لهم الزاد والهدايا والتحف، ثم حملوا وسار معهم الملك شهرمان ثلاثة أيام لأجل الوداع فأقسم عليه الملك سليمان شاه بالرجوع فرجع وما زال تاج الملوك ووالده وزوجته سائرين في الليل والنهار حتى أشرفوا على بلادهم وزينت لهم المدينة.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك سليمان شاه لما وصل إلى بلده جلس على سرير مملكته وابنه تاج الملوك في جانبه ثم أعطى وهب وأطلق من كان في الحبوس، ثم عمل لولده عرساً ثانياً واستمرت به المغاني والملاهي شهراً كاملاً. وازدحمت المواشط على السيدة دنيا وهي لا تمل من الجلاء ولا يمللن من النظر إليها، ثم دخل تاج الملوك على زوجته بعد أن اجتمع مع أبيه وأمه وما زالوا في ألذ العيش وأهنأه.

فعند ذلك قال ضوء المكان للوزير دندان: إن مثلك من ينادم الملوك ويسلك في تدبيرهم أحسن السلوك هذا كله وهم محاصرون للقسطنطينية حتى مضى عليهم أربع سنين ثم اشتاقوا إلى أوطانهم وضجرت العساكر من الحصار وإدامة الحرب في الليل والنهار فأمر الملك ضوء المكان بإحضار بهرام ورستم وتركاش، فلما حضروا قال لهم: اعلموا أننا قمنا هذه السنين وما بلغنا مراماً فازددنا غماً وهماً، وقد أتينا لنخلص ثأر الملك عمر النعمان فقلت أخي شركان فصارت الحسرة حسرتين والمصيبة مصيبتين، هذا كله من العجوز ذات الدواهي فإنها قتلت السلطان في مملكته وأخذت زوجته الملكة صفية وما كفاها ذلك حتى عملت الحيلة علينا، وذبحت أخي وقد حلفت الأيمان العظيمة أنه لا بد من أخذ الثأر فما تقولون أنتم فافهموا هذا الخطاب وردوا علي الجواب فأطرقوا رؤوسهم وأحالوا الأمر على الوزير دندان.

فعند ذلك تقدم الوزير دندان إلى الملك ضوء المكان، وقال له: اعلم يا ملك الزمان أنه ما بقي في إقامتنا فائدة والرأي أننا نرحل إلى الأوطان ونقيم هناك برهة من الزمان ثم نعود ونغزوا عبدة الأصنام فقال الملك: نعم هذا الرأي لأن الناس اشتاقوا إلى رؤية عيالهم وأنا أيضاً أقلقني الشوق إلى ولدي كان ما كان وإلى ابنة أخي قضى فكان لأنها في دمشق ولا أعلم ما كان من أمرهما.

فلما سمعت العساكر ذلك فرحوا ودعوا للوزير دندان ثم إن الملك ضوء المكان أمر المنادي أن ينادي بالرحيل بعد ثلاثة أيام، فابتدأوا في تجهيز أحوالهم وفي اليوم الرابع دقت الكاسات ونشرت الرايات، وتقدم الوزير دندان في مقدم العسكر وسار الملك في وسط العساكر، وبجانبه الحاجب الكبير وسارت الجيوش ومازالوا مجدين السير بالليل والنهار حتى وصلوا إلى مدينة بغداد ففرحت بقدومهم الناس وزال عنهم الهم والبأس ثم ذهب كل أمير إلى داره وطلع الملك إلى قصره ودخل على ولده كان ما كان، وقد بلغ من العمر سبع سنين وصار ينزل ويركب ولما استراح الملك من السفر دخل الحمام هو وولده كان ما كان ثم رجع وجلس على كرسي مملكته ووقف الوزير دندان بين يديه وطلعت الأمراء وخواص الدولة ووقفوا في خدمته. فعند ذلك أمر الملك ضوء المكان بإحضار صاحبه الوقاد، الذي أحسن إليه في غربته فحضر بين يديه فلما رآه الملك ضوء المكان قادماً عليه نهض له قائماً وأجلسه إلى جانبه وكان الملك ضوء المكان قد أخبر الوزير دندان بما فعل معه صاحبه الوقاد من المعروف فعظم في عينه وفي أعين الأمراء وكان الوقاد قد غلظ وسمن من الأكل والراحة، وصار عنقه كعنق الفيل وبطنه كبطن الدرفيل وصار طائش العقل لأنه كان لا يخرج من المكان الذي هو فيه فلم يعرف الملك بسيماه.

أقبل عليه الملك وبش في وجهه وحياه أعظم التحيات وقال له: ما أسرع ما نسيتني فأمعن فيه النظر فلما تحققه وعرفه قام له على الأقدام قال له: يا حبيبي من عملك سلطاناً؟ فضحك عليه فأقبل عليه الوزير بالكلام وشرح له بالقصة وقال له: إنه كان أخاك وصاحبك والآن صار ملك الأرض ولا بد أن يصل إليك منه خير كثير وها أنا أوصيك إذا قال لك: تمن علي فلا تتمن إلا شيئاً عظيماً لأنك عنده عزيز. فقال الوقاد: أخاف أن أتمنى عليه شيئاً فلا يسمح لي به أو لا يقدر عليه فقال له: و**** لا بد أن أتمنى عليه الشيء الذي هو في خاطري وكل يوم أرجو منه أن يسمح لي به فقال له الوزير: طيب قلبك و**** لو طلبت ولاية دمشق موضع أخيه لولاك عليها.

فعند ذلك قام الوقاد على قدميه فأشار له ضوء المكان أن يجلس فأبى، وقال: معاذ **** قد انفضت أيام قعودي في حضرتك فقال له السلطان: لا بل هي باقية إلى الآن فإنك كنت سبباً لحياتي و**** لو طلبت مني مهما أردت لأعطيتك إياه فيمن علي ****، فقال: **** يا سيدي إني أخاف أن أتمنى شيئاً فلا تسمح لي به أو لا تقدر عليه. فضحك السلطان وقال له: لو تمنيت نصف مملكتي لشاركتك فيها فتمن ما تريد، قال الوقاد: أخاف أن أتمنى شيئاً لا تقدر عليه فغضب السلطان وقال له: تمن ما أردت فقال له تمنين عليك أن تكتب لي مرسوماً بمرافقة جميع الوقادين الذين في مدينة القدس فضحك السلطان وجميع من حضر وقال له: تمن غير هذا.

فقال الوقاد: أنا ما قلت لك إني أن أتمنى شيئاً لا تسمح لي به وما تقدر عليه فغمره الوزير ثانياً وثالثاً وفي كل مرة يقول: أتمنى عليك أن تجعلني رئيس الزبالين في مدينة القدس أو في دمشق فانقلب الحاضرون على ظهورهم من الضحك عليه وضربه الوزير.

فالتفت الوقاد إلى الوزير وقال له: ما تكون حتى تضربني ومالي ذنب فإنك أنت الذي قلت لي تمن شيئاً عظيماً.

ثم قال: دعوني أسير إلى بلادي فعرف السلطان أنه يلعب فصبر قليلاً، ثم أقبل عليه وقال له: يا أخي تمن علي أمراً عظيماً بمقامي لائقاً فقال له: أتمنى سلطنة دمشق موضع أخيك، فكتب له التوقيع بذلك وقال للوزير دندان ما يروح معه غيرك، وإذا أردت العودة فأحضر معك بنت أخي قضى فكان.

فقال الوزير سمعاً وطاعة، ثم أخذ الوقاد ونزل به وتجهز للسفر، وأمر ضوء المكان أن يخرجوا للوقاد تختاً جديداً وطقم سلطنة وقال للأمراء: من كان يحبني فليقدم إليه هدية عظيمة.

ثم سماه السلطان الزبلكان ولقبه بالمجاهد وبعد كملت حوائجه وطلع الزبلكان وفي خدمته الوزير دندان ثم دخل على ضوء المكان ليودعه فقام له وعانقه وأوصاه بالعدل بين الرعية وأمره أن يأخذ الأهبة للجهاد بعد سنتين ثم ودعه وانصرف.

وسار الملك المجاهد المسمى الزبلكان، بعد أن أوصاه الملك ضوء المكان بالرعية خيراً وقدمت له الأمراء المماليك فبلغوا خمسة آلاف مملوك وركبوا خلفه وركب الحاجب الكبير وأمير الديلم بهرام وأمير الترك رستم وأمير العرب تركاش وساروا في توديعه ما زالوا سائرين معه ثلاثة أيام ثم عادوا إلى بغداد وسار السلطان الزبلكان هو والوزير دندان.

وما زالوا سائرين حتى وصلوا إلى دمشق وكانت الأخبار قد وصلت إليهم على أجنحة الطيور بأن الملك ضوء المكان سلطن على دمشق ملكاً يقال له: الزبلكان ولقبه بالمجاهد، فلما وصل إليهم الخبر زينوا له المدينة وخرج إلى ملاقاته كل من في دمشق ثم دخل دمشق وطلع القلعة وجلس على سرير المملكة ووقف الوزير دندان في خدمته يعرفه منازل الأمراء ومراتبهم وهم يدخلون عليه ويقبلون يديه ويلوحون له.

فأقبل عليهم الملك الزبلكان وخلع وأعطى ووهب، ثم فتح خزائن الأموال وأنفقها على جميع العساكر كبيراً وصغيراً، وحكم وعدل وشرع الزبلكان في تجهيز بنت السلطان قضى فكان وجعل لها محفة من الإبرسيم وجهز الوزير وقدم له شيئاً من المال.

فأتى الوزير دندان، وقال له: أنت قريب عهد بالملك وربما تحتاج إلى الأموال أو نرسل إليك نطلب منك مالاً للجهاد أو غير ذلك ولما تهيأ الوزير دندان للسفر ركب السلطان المجاهد إلى وداعه وأحضر قضى فكان وأركبها في المحفة وأرسل معها عشر جوار برسم الخدمة.

وبعد أن سافر الوزير دندان رجع الملك المجاهد إلى مملكة ليدبرها واهتم بآلة السلاح وصار ينتظر الوقد الذي يرسل فيه الملك ضوء المكان هذا ما كان من أمر السلطان الزبلكان.

وأما ما كان من أمر الوزير دندان فإنه لم يزل يقطع المراحل بقضى فكان حتى وصل إلى الرحبة بعد شهر، ثم سار حتى أشرف على بغداد وأرسل يعلم ضوء المكان بقدومه فركب وخرج إلى لقائه فأراد الوزير دندان أن يترجل. فأقسم عليه الملك ضوء المكان أن لا يفعل فسار راكباً حتى جاء إلى جانبه وسأله عن المجاهد فأعلمه أنه بخير وأعلمه بقدوم قضى فكان بنت أخيه شركان ففرح وقال له: دونك والراحة من تعب السفر ثلاثة أيام.

ثم بعد ذلك تعال عندي فقال: حباً وكرامة، ثم دخل بيته وطلع الملك إلى قصره ودخل على ابنة أخيه قضى فكان وهي ابنة ثمان سنين فلما رآها فرح بها وحزن على أبيها وأعطاها حلياً ومصاغاً عظيماً، وأمر أن يجعلوها مع ابن عمها كان ما كان في مكان واحد وكانت أحسن أهل زمانها وأشجعهم لأنها كانت صاحبة تدبير وعقل ومعرفة بعواقب الأمور.

وأما كان ما كان فإنه كان مولعاً بمكارم الأخلاق ولكنه لا يفكر في عاقبة شيء ثم بلغ عمر كل واحد من الاثنين عشر سنين وصارت قضى فكان تركب الخيل وتطلع مع ابن عمها في البر، ويتعلمان الضرب بالسيف والطعن بالرمح حتى بلغ عمر كل منهما اثنتي عشرة سنة.

ثم إن الملك انتهت أشغاله للجهاد وأكمل الأهبة والاستعداد، فأحضر الوزير دندان وقال له: اعلم أني عزمت على شيء وأريد إطلاعك عليه فأسرع في رد الجواب.

فقال الوزير دندان: ما هو يا ملك الزمان، قال: عزمت على أن أسلطن ولدي كان ما كان وأفرح به في حياتي وأقاتل قدامه إلى أن يدركني الممات فما عندك من الرأي؟ فقبل الوزير دندان الأرض بين يدي الملك ضوء المكان. وقال له: اعلم أيها الملك السعيد صاحب الرأي السديد أن ما خطر ببالك مليح غير أنه لا يناسب في هذا الوقت الخصلتين، الأولى: أن ولدك كان ما كان صغير السن، والثانية: ما جرت به العادة أن من سلطن ولده في حياته لا يعيش إلا قليلاً، وهذا ما عندي من الجواب.

فقال: اعلم أيها الوزير أننا نوصي عليه الحاجب الكبير صار منا وعلينا، وقد تزوج أختي، فهو في منزلة أخي، فقال الوزير: افعل ما بدا لك فنحن ممتثلون أمرك.

فأرسل الملك إلى الحاجب الكبير فأحضره وكذلك أكابر مملكته وقال لهم إن هذا ولدي كان ما كان قد علمتم أنه فارس الزمان وليس له نظير في الحرب والطعان وقد جعلته سلطاناً عليكم والحاجب الكبير وصي عليه.

فقال الحاجب: يا ملك الزمان إنما أنا غريس نعمتك فقال ضوء المكان: أيها الحاجب إن ولدي كان ما كان وابنة أخي قضى فكان ولدا عم وقد زوجتها به وأشهد الحاضرين على ذلك.

ثم نقل لولده المال ما يعجز عن وصفه اللسان وبعد ذلك دخل على أخته نزهة الزمان وأعلمها بذلك ففرحت، وقالت: إن الاثنين ولداي و**** تعالى يبقيك لهما مدى الزمان.

فقال: يا أختي إني قضيت من الدنيا غرضي وأمنت على ولدي ولكن ينبغي أن تلاحظيه بعينك وتلاحظي أمه ثم يوصي الحاجب ونزهة الزمان على ولده وعلى زوجته ليالي وأياماً وقد أيقن بكأس الحمام ولزم الوساد وصار الحاجب يتعاطى أحكام العباد وبعد سنة أحضر ولده كان ما كان والوزير دندان، وقال: يا ولدي إن هذا الوزير والدك من بعدي، واعلم أني راحل من الدار الفانية إلى الدار الباقية وقد قضيت غرضي من الدنيا ولكن بقي في قلبي حسرة يزيلها **** على يديك.

فقال ولده: وما تلك الحسرة يا والدي؟ فقال: يا ولدي أن أموت ولم تأخذ بثأر جدك عمر النعمان، وعمك الملك شركان من عجوز يقال لها ذات الدواهي فإن أعطاك **** النصر لا تغفل عن أخذ الثأر وكشف العار وإياك من كر العجوز وأقبل ما يقوله لك الوزير دندان لأنه عماد ملكنا من قديم الزمان فقال له ولده: سمعاً وطاعة ثم هملت عيناه بالدموع.

وبعد ذلك ازداد المرض بضوء المكان وصار أمر المملكة للحاجب فصار يحكم ويأمر وينهي واستمر على ذلك سنة كاملة وضوء المكان مشغول بمرضه ومازالت به الأمراض مدة أربع سنين والحاجب الكبير قائم بأمر الملك، وارتضى به أهل المملكة ودعت له جميع البلاد هذا ما كان من أمر ضوء المكان والحاجب.

وأما ما كان من أمر كان ما كان فإنه لم يكن له شغل إلا ركوب الخيل واللعب بالرمح والضرب بالنشاب وكذلك ابنة عمه قضى فكان وكانت تخرج هي وإياه من أول النهار إلى الليل فتدخل إلى أمها ويدخل هو إلى أمه فيجدها جالسة عند رأس أبيه تبكي فيخدمه بالليل.
وإذا أصبح يخرج هو وبنت عمه على عادتهما وطالت بضوء المكان التوجعات فبكى وأنشد هذه الأبيات:


تفانت قوتي ومضى زماني
وها أنا قد بقيت كما تراني
فيوم العز كنت أعز قـومـي
وأسبقهم إلى نـيل الأمـانـي
وقد فارقت ملكي بعـد عـزي
إلى ذل تخـلـل بـالـهـوان
ترى قبل الممات أرى غلامي
يكون على الورى ملكاً مكاني
ويفتك بالـعـداة لأخـذ ثـأر
بضرب السيف أو طعن السنان
أنا المغبون فـي هـزل وجـد
إذا مولاي لا يشفي جنـانـي

فلما فرغ من شعره وضع رأسه على الوسادة ونام فرأى في منامه قائلاً يقول له أبشر فإن ولدك يملك البلاد وتطيعه العباد فانتبه من منامه مسروراً ثم بعد أيام قلائل طرقه الممات فأصاب أهل بغداد مصاب عظيم وبكى عليه الوضيع والعظيم ومضى عليه الزمان كأنه ما كان وتغير حال كان ما كان وعزله أهل بغداد وجعلوه هو وعياله في بيت على حدتهم.

فلما رأت أم كان ما كان ذلك صارت في أذل الأحوال ثم قالت لا بد من قصد الحاجب الكبير وأرجو الرأفة من اللطيف الخبير فقامت من منزلها إلى أن أتت إلى بيت الحاجب الذي صار سلطاناً فوجدته جالساً على فراشه.

فدخلت عند زوجته نزهة الزمان، وقالت: إن الميت ماله صاحب فلا أحوجكم **** مدى الدهور والأعوام ولا زلتم تحكمون بالعدل بين الخاص والعام قد سمعت أذناك ورأت عيناك ما كنا فيه من الملك والعز والجاه والمال وحسن المعيشة والحال والآن انقلبت علينا الزمان وقصدنا الدهر بالعدوان، وأتيت إليك قاصدة إحسانك بعد إسدائي للإحسان لأن الرجل إذا مات ذلت بعده النساء والبنات، ث أنشدت هذه الأبيات:

كفاك بان الموت بادي العجـائب
وما غائب الأعمار عنا بغـائب
وما هـذه الأيام إلا مـراحـل
مواردها ممزوجة بالمصـائب
وحاضر قلبي مثل فقـد أكـارم
أحاطب بهم مستعظمات النوائب
فلما سمعت نزهة الزمان هذا الكلام تذكرت أخاها ضوء المكان وابنه كان ما كان فقربتها وأقبلت عليها وقالت: أنا والآن غنية وأنت فقيرة فوالله تركنا افتقارك إلا خوفاً من انكسار قلبك، لئلا يخطر ببالك أن ما نهديه إليك صدقة مع أن جميع ما نحن فيه من الخير منك ومن زوجك، فبيتنا بيتك ولك وما لنا وعليك ما علينا.

ثم خلعت عليها ثياباً فاخرة وأفردت لها مكاناً في القصر ملاصقا لمقصورتها وأقامت عندهم في عشية طيبة هي وولدها كان ما كان وخلعت عليه ثياب الملوك وأفردت لهما جواري برسم كل منهما.

ثم إن نزهة الزمان بعد مدة قليلة ذكرت لزوجها حديث زوجة أخيها ضوء المكان فدمعت عيناه وقال: إن شئت أنت تنتظري الدنيا بعدك فناظريها بعد غيرك فأكرمي مثواها.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد هذا ما كان من أمر نزهة الزمان وزوجها وأم ضوء المكان.
وأما ما كان من أمر كان ما كان وابنة عمه قضى فكان فإنهما كبرا وترعرعا حتى صار كأنهما غصنان مثمران أو قمران أزهران.

وبلغنا من العمر خمسة عشر عاماً وكانت قضى فكان من أحسن البنات المخدرات، بوجه جميل وخصر نحيل وردف ثقيل وريق كالسلسبيل وقد رشيق وثغر ألذ من الرحيق كما قال فيها بعض واصفيها هذين البيتين:


كان سلاف الخمر من ريقها بدت
وعنقودها من ثغرها الدر يقطف
وأعنابها مالت إذا ما ثـنـيتـهـا
فسبحان خلاق لـهـا لا يكـيف
وقد جمع **** كل المحاسن فيها فقدها يخجل الأغصان والورد يطلب من خدها الأمان وأما الريق فإنه يهزأ بالرحيق تسر القلب والناظر كما قال فيها الشاعر:

مليحة الوصف قد تمت محاسنها
أجفانها تفضح التكحيل بالكحل
كأن ألحاظها في قلب عاشقهـا
سيف بكف أمير المؤمنين علي

وأما كان ما كان فإنه كان بديع الجمال فائق الكمال عز في الحسن عن مثال الشجاعة تلوح بين عينيه تشهد له لا عليه وقيل كل القلوب إليه وحين اخضر منه العذار كثرت فيه الأشعار كقول بعضهم:


ما بان عذري فيه حتـى عـذرا
ومشى الدجى في خده متحـيرا
فأعجب لهم شهدوا ومسكنهم لظى
ولباسهم فيها الحرير الأخضـر

واتفق في بعض الأعياد أن قضى فكان خرجت تعيد على بعض أقاربها من الدولة والحواري حواليها، والحسن قد عمها وورد الخد يحسد خالها والأقحوان يبتسم عن بارق ثغرها فجعل كان ما كان يدور حولها ويطلق النظر إليها وهي كالقمر الزاهر فقوى جنانه بالشعر لسانه وأنشد هذين البيتين:


متى يشتفي قلب الدنو من الـبـعـد
ويضحك ثغر الوصل من زائد الصد
فيا ليت شعري هـل أبـيتـن لـيلة
بوصل حبيب عنده بعض ما عنـدي
فلما سمعت قضى فكان هذا الشهر أظهرت له الملامة والعتاب وتوعدته بأليم العقاب فاغتاظ كان ما كان وعاد إلى بغداد وهو غضبان ثم طلعت قضى فكان إلى قصرها وشكت ابن عمها إلى أمها فقالت لها: يا بنتي لعله ما أرادك بسوء وهل هو إلا يتيم ومع هذا لم يذكر شيئاً يعيبك فإياك أن تعلمي بذلك أحداً، فربما بلغ الخبر إلى السلطان فيقصر عمره ويخمد ذكره ويجعل أثره كأمس الدابر والميت الغابر وشاع في بغداد حب كان ما كان لقضى فكان وتحدثت به النسوان ثم إن كان ما كان ضاق صدره وقل صبره اشتغل باله ولم يخف على الناس حاله واشتهى أن يبوح بما في قلبه من لوعة البين فخاف من غضبها وأنشد هذين البيتين:

إذا خفت يوماً عتاب التـي
تغير أخلاقها الـصـافـية
صبرت عليها كصبر الفتى
على الكي في طلب العافية

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والستين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحاجب الكبير لما صار سلطان، ثم أنه بلغه حب كان ما كان لقضي فكان فندم على جعلهما معاً في محل واحد.

ثم دخل على زوجته نزهة الزمان وقال: إن الجمع بين الخلفة والنار لمن أعظم الأخطار وليست الرجال على النساء بمؤتمنين ما دامت العيون في عج والمعاطف في لين وابن أخيك كان ما كان قد بلغ مبلغ الرجال فيجب منعه عن الدخول على ربات الحجال ومنع ابنتك عن الرجال أوجب لأن مثلها ينبغي أن يحجب. فقالت: صدقت أيها الملك العاقل والهمام الكامل فلما أصبح الصباح جاء كان ما كان ودخل على عمته نزهة الزمان على جري عادته وسلم عليها، فردت عليه السلام وقالت له: عندي لك كلام ما كنت احب أن أقوله لك. ولكن أخبرك به رغماً عني. فقال لها: وما ذاك الكلام؟ قالت: إن الملك سمع بحبك لقي فكان فأمر بحجبها عنك وإذا كان لك حاجة فأنا أرسلها إليك من خلف الباب ولا تنظر قضي فكان.

فلما سمع كلامها رجع ولم ينطق بحرف واحد وأعلم والدته بما قالته عمته فقالت له: إنما نشأ هذا من كثرة كلامك وقد علمت أن حديث حبك لقضي فكان شاع وانتشر في كل مكان وكيف تأكل زادهم بعد ذلك وتعشق ابنتهم؟ فقال: إني أريد الزواج بها لأنها بنت عمي وأنا أحق بها فقالت له أمه: أسكت لئلا يصل الخبر إلى الملك سلسان فيكون ذلك سبباً لغرقك في بحر الأحزان وهم يبعثوا لنا في هذه الليلة عشاء ولو كنا في بلد غير هذه لمتنا من ألم الجوع أو ذل السؤال.

فلما سمع كان ما كان كلام أمه زادت بقلبه الحسرات وأنشد هذه الأبيات:


أقلي من اللوم الـذي لا يفـارق
فقلبي إلى من تيمتني مفـارق
ولا تطلبي عند الـصـبـر ذرة
فصبري وبيت **** من طالـق
إذا سامني اللوام نهيا عصيتهـم
وها أنا في دعوى المحبة صادق
وقد منعوني عنوة أن أزورهـا
وإني والرحمن ما أنا فـاسـق
وإن عظامي حين تسمع ذكرها
تشابه طيراً خلقهـن بـواشـق
ألا قل لمن قد لام في الحب أنني
وحق إلهي لبنت عمي لعاشـق

ولما فرغ من شعره قال لأمه: ما بقي لي عند عمتي ولا عند هؤلاء القوم مقام بل أخرج من القصر وأسكن في أطراف المدينة بجوار قوم صعاليك، ثم خرج وفعل كما قال وصارت أمه تتردد إلى بيت الملك سلسان وتأخذ منه ما تقتات به هي وإياه.

ثم إن قضي فكان اختلت بأم كان ما كان وقالت لها: يا امرأة عمي، كيف حال ولدك؟ فقالت: أنه باكي العين حزين القلب ليس له من أسر الغرام فكاك ومقتنص من هواك في أشراك، فبكت قضي فكان وقالت: و**** ما هجرته بغضاً له ولكن خوفاً عليه من الأعداء وعندي من الشوق أضعاف ما عنده ولولا عثرات لسانه وخفقان جنانه ما قطع أبي عنه إحسانه وأولاه منعه وحرمانه ولكن أيام الورى دول والصبر في كل الأمور أجمل ولعل من حكم بالفراق أن يمن علينا بالتلاق. ثم أفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:

فعندي يا ابن عمي من غرامي
كأمثال الذي قد حل عـنـدك
ولكن كتمت عن الناس وجدي
فهلا كنت أنت كتمت وجدك

فشكرتها أم كان ما كان وخرجت من عندها وأعلمت ولدها كان ما كان بذلك فزاد شوقه إليها وقال: ما أبدلها من الحور بألفين وأنشد هذين البيتين:

فو **** لا أصغي إلى قـوم لائم
ولا بحت بالسر الذي كنت كاتما
وقد غاب عني من أرجى وصاله
وقد سهرت عيني وقد بات نائما

ثم مضت الأيام والليالي وهو يتقلب على جمر المقالي حتى مضى له من العمر سبعة عشر عاماً وقد كمل حسنه، ففي بعض الليالي أخذه السهر وقال في نفسه: ما لي أرى جسمي يذوب وإلى متى لا أقدر على نيل المطلوب وما لي عيب سوى عدم الجاه والمال. ولكن عند **** بلوغ الآمال، فينبغي أن أشرد نفسي عن بلادها حتى تموت أو تحظى بمرادها. ثم أضمر هذه العزمات وأنشد هذه الأبيات:

دع مهجتي تزداد في خفقانـهـا
ليس التذلل في الورى من شأنها
واعذر فإن حشاشتي كصحـيفة
لا شك أن الدمع من عنوانـهـا
ها بنت عمي قد بـدت حـورية
نزلت إلينا عن رضا رضواتها
من رام ألحاظ العيون معارضـاً
فتكأتها لم ينج من عـدوانـهـا
سأسير في الأرض الوسيعة منقذاً
نفسي وأمنحها سوى حرمانهـا
وأعود مسرور الفؤاد بمطلـبـي
وأقاتل الأبطال في مـيدانـهـا
ولسوف أشتاق الغـنـائم عـائداً
وأصول مقتدراً على أقرانـهـا
ثم إن كان ما كان خرج من القصر حافياً في قميص قصير الأكمام وعلى رأسه لبدة لها سبعة أعوام وصحبته رغيف له ثلاثة أيام، ثم سار في حندس الظلام حتى وصل إلى باب بغداد فوقف هناك. ولما فتحوا باب المدينة كان أول من خرج منه، ثم صار يقطع الأودية والقفار في ذلك النهار ولما أتى الليل طلبته أمه فلم تجده فضاقت عليها الدنيا باتساعها ولم تلتذ بشيء من متاعها ومكثت تنتظر أول يوم وثاني يوم وثالث يوم إلى أن مضى عشرة أيام فلم تر له خبراً فضاق صدرها ونادت قائلة: يا مؤنسي قد هيجت أحزاني حيث فارقتني وتركت أوطاني يا وولدي من أي الجهات أناديك؟ ويا هل ترى أي بلدٍ يأويك؟ ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:

علمنا بأن بعد غيبـتـكـم نـبـلـى
ومدت قسى للفراق لـنـا نـبـلا
وقد خلفوني بعـد شـد رحـالـهـم
أعالج كرب الموت إذ قطعوا الرملا
لقد هتف بي حنـين لـيل حـمـامة
مطوقة ناحت فقلت لهـا مـهـلا
لعمرك لو كانت كمثـلـي حـزينة
لما لبست طوقاً ولا خضبت رجـلا
وفارقني ألفي فـألـفـيت بـعـده
دواعي الهم لا تفارقـنـي أصـلا
ثم أنها امتنعت من الطعام والشراب وزادت في البكاء والانتحاب وصار بكائها على رؤوس الأشهاد. واشتهر حزنها بين العباد والبلاد، وصار الناس يقولون أين عينك يا ضوء المكان ويا ترى ما جرى على كان ما كان حتى بعد عن وطنه وخرج من المكان. وكان أبوه يشبع الجيعان ويأمر بالعدل والإحسان، ووصل خبر كان ما كان إلى الملك سلسان

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك سلسان وصل إليه خبر كان ما كان من الكبار وقال: إنه ولد ملكنا ومن ذرية الملك عمر النعمان وقد بلغنا أنه تغرب عن الأوطان. فلما سمع الملك سلسان هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً وتذكر إحسان أبيه إليه وانه أوصاه عليه فحزن على كان ما كان وقال: لابد من التفتيش عليه في سائر البلاد ثم بعث في طلبه الأمير تركاش في مائة فارس فغاب عشرة أيام ثم رجع وقال له: ما اطلعت له على خبر ولا وقفت له على أثر. فحزن عليه الملك سلسان حزناً شديداً، وأما أمه فإنها صارت لا يقر لها قرار ولا يطاوعها اصطبار وقد مضى له عشرون يوماً. هذا ما كان من أمر هؤلاء.

و أما ما كان من أمر كان ما كان فإنه لما خرج من بغداد صار متحيراً في أمره ولم يدر إلى أين يتوجه، ثم إنه سافر في البر ثلاثة أيام وحده ولم ير راجلاً ولا فارساً فطار رقاده وزاد سهاده وتفكر أهله وبلاده وصار يتقوت من نبات الأرض ويشرب من أنهارها ويقبل وقت الحر تحت أشجارها، ثم خرج من تلك الطريق إلى طريق أخرى وسار فيها ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أشرف على أرض معشبة الفلوات مليحة النبات وهذه الأرض قد شربت من كؤوس الغمام على أصوات القمري والحمام فاخضرت رباها وطاب فلاها فتذكر كان ما كان بلاد أبيه فأنشد من فرط ما هو فيه:


خرجت وفي أملي عودة
ولكني لست أدري متى
وشردني أنني لـم أجـد
سبيلاً إلى دفع ما قد أتى
فلما فرغ من شعره أكل من ذلك النبات وتوضأ وصلى ما كان عليه من الفريضة وجلس يستريح ومكث طول ذلك النهار، فلما جاء الليل نام واستمر نائماً إلى نصف الليل ثم انتبه فسمع صوت إنسان ينشد هذه الأبيات:

ما العيش إلا أن يرى لك بارق
من ثغر من تهوى ووجه رائق
والموت أسهل من صدود حبيبة
لم يغشني منها خـيال طـارق
يا فرحة الندماء حيث تجمعـوا
وأقام معشوق هناك وعاشـق
لا سيما وقت الربـيع وزهـره
طاب الزمان بما إليه تسابـق
يا شارب الصهباء دونك ما ترى
أرض مزخرفة ومـاء دافـق

فلما سمع كان ما كان هذه الأبيات هاجت به الأشجان وجرت دموعه على خده كالغدران وانطلقت من قلبه النيران فقام ينظر قائل هذا الكلام فلم ير أحداً في جنح الظلام فأخذه القلق ونزل في مكانه إلى أسفل الوادي ومشى على شاطئ النهر فسمع صاحب الصوت يصعد الزفرات وينشد هذه الأبيات:


إن كنت تضمر ما في الحب إشفاقاً
فأطلق الدمع يوم البين إطـلاقـا
بيني وبين أحبائي عـهـود هـوى
لذا إليهم أظل الدهر مـشـتـاقـا
يرتاح قلبي إلى تيم ويطـربـنـي
نسيم تيم إذا مـا هـب أشـواقـا
يا سعد هل ربة الخلخال تذكرنـي
بعد البعاد لنا عـهـداً ومـيثـاقـا
وهل تعود ليالي الوصل تجمعـنـا
يوماً ويشرح كل بعضٍ ما لاقـى
قالت فتنت بنا وجدا فقلـت لـهـا
كم قد فتنت رعاك **** عـشـاقـا
لا متع **** طرفي في محاسنـهـا
إن كان من بعدها طيب الكرى ذاقا
يا لسعة في فؤادي ما رأيت لـهـا
سوى الوصال ورشف الثغر ترياقا

فلما سمع كان ما كان هذه الأشعار من صاحب الصوت ثاني مرة ولم ير شخصه عرف أن القائل عاشق منع من الوصول إلى من يحبه فقال في نفسه: لعلي اجتمع بهذا فيشكو كل واحد لصاحبه وأجعله أنيسي في غيبتي، ثم تنحنح ونادى: أيها السائر في الليل العاكر تقرب مني وقص علي لعلك تجدني معيناً لك على بليتك. فلما سمع صاحب الصوت هذا الكلام أجابه قائلاً: أيها المنادي السامع لإنشادي من تكون من الفرسان وهل أنت من الأنس أو الجان؟ فعجل علي بكلامك قبل دنو حمامك وامش، فقال كان ما كان: لا تفعل يا أخا العرب لأن أهلي لا يشتروني بفضة ولا ذهب وأنا رجل فقر ولا معي قليل ولا كثير فدع عنك هذه الأخلاق واتخذني من الرفاق واخرج بنا من أرض العراق. فلما سمع صاحب الصوت هذا الكلام وكان اسمه صباح غضب وزاد به الالتهاب وقال له: ويلك تراددني في الجواب يا أخس الكلاب، أدر كتافك وإلا أنزلت عليك العذاب، فتبسم كان ما كان وقال: كيف أدير الكتاف، أما عندك أوصاف؟ أما تخشى معايرة العربان حيث تأسر غلاماً بالذل والهوان وما اختبرته في حومة الميدان وعلمت أهو فارس أم جبان؟.

فضحك صباح وقال: يا **** العجب إنك في سن الغلام ولكنك كبير الكلام لأن هذا القول لا يصدر إلا عن البطل المصدام. فقال كان ما كان: الإنصاف أنك إذا شئت أخذي أسيراً خادماً لك أن ترمي سلاحك وتخفف لباسك وتصارعني وكل من صرع صاحبه بلغ منه مرامه وجعله غلامه.

فضحك صباح وقال: ما أظن كثرة كلامك إلا لدنو حمامك، ثم رمى سلاحه وشمر أذياله ودنا من كان ما كان وتجاذبا فوجده البدوي يرجح عليه كما يرجح للقنطار على الدينار، ونظر إلى ثبات رجليه في الأرض فوجدهما كالمأذنتين المؤسستين أو الجبلين الراسخين فعرف في نفسه قصر باعه وندم على الدنو من صراعه وقال في نفسه: ليتني قاتلته بسلاحي، ثم إن كان ما كان قبضه وتمكن منه وهزه فأحس أن أمعاءه تقطعت في بطنه.

فصاح أمسك يدك يا غلام فلم يلتفت إلى ما أبداه من الكلام بل حمله من الأرض وقصد به النهر فناداه صباح قائلاً: أيها البطل ما تريد أن تفعل بي قال: أريد أن أرميك في هذا النهر فإنه يوصلك إلى دجلة، والدجلة يوصلك إلى نهر عيسى ونهر عيسى يوصلك إلى الفرات والفرات يلقيك إلى بلادك فيراك قومك فيعرفونك ويعرفون مروءتك وصدق محبتك. فصاح صباح ونادى: يا فارس البطاح لا تفعل فعل القباح أطلقني بحياة بنت عمك سيدة الملاح فحطه كان ما كان في الأرض فلما رأى نفسه خالصاً ذهب إلى ترسه وسيفه وأخذهما وصار يشاور نفسه على الهجوم عليه فعرف كان ما كان ما يشاور نفسه عليه فقال له: قد عرفت ما في قلبك حيث أخذت سيفك وترسك فإنه قد خطر ببالي أنه ليس لك يد في الصراع تطول، ولو كنت على فرس تجول لكنت بسيفك تصول وها أنا أبلغك ما تختار حتى لا يبقى في قلبك إنكار فأعطني الترس واهجم علي بسيف فإما تقتلني أو أقتلك. فرمى الترس وجرد سيفه وهجم به على كان ما كان فتناول الترس بيمينه وصار يلاقي به عن نفسه وصار صباح يضربه ويقول: ما بقي إلا هذه الضربة الفاصلة فيتلقاها كان ما كان وتروح ضائعة ولم يكن مع كان ما كان ما يضرب به ولم يزل صباح يضرب بالسيف حتى كلت يده وعرف كان ما كان ضعف قوته وانحلال عزيمته فهجم عليه وهزه وألقاه في الأرض وكتفه بحبائل سيفه وجره من رجليه إلى جهة النهر. فقال صباح: ما تريد أن تصنع بي يا فارس الزمان وبطل الميدان؟ قال: ألم أقل لك أنني أرسلك إلى قومك في النهر حتى لا يشغل خاطرهم عليك وتتعوق عن عرس بنت عمك فتضجر صباح وبكى وصاح وقال: لا تفعل بي يا فارس الزمان واجعلني لك من بعض الغلمان. ثم أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:


تغربت عن أهلي فيا طول غربتي
ويا ليت شعري هل أموت غريبا
أموت وأهلي ليس تعرف مقتلـي
وأودي غريباً لا أزور حـبـيبـا

فرحمه كان ما كان، وأطلقه بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق أنه يصحبه في الطريق ويكون له نعم الرفيق، ثم إن صباحاً أراد أن يقبل يد كان ما كان فمنعه من تقبيلها، ثم قام البدوي إلى جرابه وفتحه وأخذ منه ثلاث قرصات شعير وحطها قدام كان ما كان وجلس معه على شاطئ النهر وأكلا مع بعضهما، ثم توضأ وصليا وجلسا يتحدثان فيم ألقياه من صروف هذا الزمان.

فقال كان ما كان للبدوي: أين تقصد؟ فقال صباح: أقصد بغداد بلدك، وأقيم بها حتى يرزقني **** بالصداق فقال له: دونك والطريق. ثم ودعه البدوي وتوجه في طريق بغداد وأقام كان ما كان وقال في نفسه: يا نفسي أي وجه للرجوع مع الفقر والفاقة و**** لا أرجع خائباً ولابد لي من الفرج إن شاء **** تعالى، ثم تقدم إلى النهر وتوضأ وصلى. فلما سجد ووضع جبهته على التراب ونادى به ربه قائلاً: اللهم منزل القطر ورازق الدود في الصخر أسألك أن ترزقني بقدرتك ولطيف رحمتك ثم سلم من صلاته وضاق به كل مسلك.

فبينما هو جالس يلتفت يميناً وشمالاً وإذا بفارس أقبل على جواد، وقد اقتعد ظهره وأرخى عنانه فاستوى كان ما كان جالساً وبعد ساعة وصل إليه الفارس وهو في آخر نفس لأنه كان به جرح بالغ. فلما وصل إليه جرى دمعه على خده مثل أفواه القرب وقال لكان ما كان: يا وجه العرب اتخذني ما عشت لك صديقاً فإنك لا تجد مثلي واسقني قليلاً من الماء، وإن كان شرب الماء لا يصلح للجروح سيما وقت خروج الروح وإن عشت أعطيتك ما يدفع فقرك وإن مت فأنت المسعود بحسن نيتك وكان تحت الفارس حصان يتحير في حسنه الإنسان ويكل عن وصفه اللسان وله قوائم مثل أعمدة الرخام معد ليوم الحرب والزحام، فلما نظر كان ما كان إلى ذلك الحصان أخذه الهيام وقال في نفسه: إن هذا الحصان لا يكون في هذا الزمان ثم أنه أنزل الفارس ورفق به وجرعه يسيراً من الماء ثم صبر عليه حتى أخذ الراحة وأقبل عليه وقال له: من الذي فعل بك هذه الفعال؟ فقال الفارس: أن أخبرك بحقيقة الحال. إني رجل سلال غيار طول دهري أسل الخيل وأختلسها في الليل والنهار واسمي غصان آفة كل فرس وحصان وقد سمعت بهذا الحصان في بلاد الروم عند الملك أفريدون وقد سماه بالقانون ولقبه بالمجنون وقد سافرت إلى القسطنطينية من أجله وصرت أراقبه فبينما أنا كذلك إذ خرجت عجوز معظمة عند الروم وأمرها عندهم في الخداع متناهي تسمى شواهي ذات الدواهي، ومعها هذا الجواد وصحبتها عشرة عبيد لا غير برسم خدمة هذا الحصان وهي تقصد بغداد تريد الدخول على الملك سلسان لتطلب منه الصلح والأمان، فخرجت في أثرهم طمعاً في الحصان وما زلت أتابعهم، ولا أتمكن من الوصول إليه لأن العبيد شداد الحرس عليه إلى أن أتوا تلك البلاد وخفت أن يدخلوا مدينة بغداد، فبينما أنا أشاور نفسي في سرقة الحصان إذ طلع عليهم غبار حتى سد الأقطار ثم انكشف الغبار عن خمسين فارساً مجتمعين لقطع الطريق على التجار ورئيسهم يقال لهم كهرداش ولكنه في الحرب كأسد يجعل الأبطال كالفراش.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفارس المجروح قال لكان ما كان: فخرج على العجوز ومن معها كهرداش ثم أحاط بهم وهاش وناش فلم تمض ساعة حتى ربط العشرة عبيد والعجوز وتسلم الحصان وسار بهم وهو فرحان فقلت في نفسي: قد ضاع تعبي وبلغت أربي ثم صبرت حتى أنظر ما يؤول الأمر إليه.

فلما رأت العجوز روحها في الأسر بكت وقالت لكهرداش: أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام ماذا تصنع بالعجوز والعبيد وقد لغت من الحصان ما تريد؟ وخادعته بلين الكلام، وحلفت أنها تسوق له الخيل والأنعام فأطلقها هي والعبيد، ثم سار هو والعبيد وأصحابه وتبعتهم حتى وصلت إلى هذه الديار وانا ألاحظه. فلما وجدت إليه سبيلاً سرقته وركبته، وأخرجت من مخلاتي سوطاً فضربته، فلما أحسوا بيلحقوني وأحاطوا بي من كل مكان ورموني بالسهام والسنان وأنا ثابت عليه وهو يقاتل عني بيديه ورجليه إلى أن خرج بي من بينهم مثل النجم الطارق والسهم الراشق، ولكن لما اشتد الكفاح أصابني بعض الجراح وقد مضى لي على ظهره ثلاثة أيام ولم أستطعم بطعام وقد ضعفت مني القوى وهانت علي الدنيا أحسنت إلي وأشفقت علي وأراك عاري الجسد ظاهر عليك الكمد، ويلوح عليك أثر النعمة فما يقال لك؟.
فقال: أنا يقال لي كان ما كان ابن الملك ضوء المكانبن الملك عمر النعمان قد مات والدي وربيت يتيماً وتولى رجل لئيم وصار ملكاً على الحقير والعظيم ثم حدثه بحديثه من أوله إلى آخره. فقال الرجل السلال وقد رق له: إنك ذو حسب عظيم وشر جسيم وليس لك شأن وتصير أفرس هذا الزمان فإن قدرت أن تحملني وتركب ورائي وتوديني إلى بلادي يكن لك الشرف في الدنيا والجر في يوم التناد فإنه لم يبق لي قوة أمسك بها نفسي وإن أمت في الطريق فزت بهذا الحصان وأنت أولى به من كل إنسان. فقال له كان ما كان و**** لو قدرت أن أحملك على أكتافي لفعلت ولو كان عمري بيدي لأعطيتك نصفه من غير هذا الجواد لأني من أهل المعروف وإغاثة الملهوف وفعل الخير لوجه **** تعالى يسد سبعين باباً من البلاء، وعزم على أن يمله على الحصان ويسير متوكلاً على اللطيف الخبير. فقال له: اصبر علي قليلاً ثم أغمض عينيه وفتح يديه وقال: أشهد أن لا إله إلا **** وأشهد أن سيدنا محمد **** **** وتهيأ للممات وأنشد هذه الأبيات:


ظلمت العباد وطفـت الـبـلاد
وأمضيت عمري بشرب الخمور
وخضت السيول لسل الـخـيول
وهدم الطلول بفعل الـنـكـور
وأمري عظيم وجرمي جـسـيم
وفاتوا منـي تـمـام الأمـور
وأملت أنـي أنـال المني
بذاك الحصان فأعيا مـسـيري
وطول الحـياة أسـل الـخـيول
فكانت وفاتي عـنـد الـغـدير
وآخر أمـري أنـي تـعـبـت
لرزق الغري اليتيم الـفـقـير

فلما فرغ من شعره أغمض عينيه وفتح فاه وشهق شهقة ففارق الدنيا فحفر له كان ما كان حفرة وواراه التراب، ثم مسح وجه الحصان ورآه لا يوجد في حوزة الملك سلسان، ثم أتته الأخبار من التجار بجميع ما جرى في غيبته بين الملك سلسان والوزير دندان خرج عن طاعة الملك سلسان هو ونصف العسكر وحلفوا أنهم ما لهم سلطان إلا كان ما كان واستوثق منهم بالأيمان ودخل بهم إلى جزائر الهند والبربر وبلاد السودان واجتمع معهم عساكر مثل البحر الزاخر لا يعرف لهم أول من آخر وعزم على أن يرجع بجميع الجيوش إلى البلاد ويقتل من يخالفه من العباد وأقسم أنه لا يرد سيف الحرب إلى غمده حتى يملك كان ما كان.

فلما بلغته هذه الأخبار غرق في بحر الأفكار، ثم إن الملك سلسان علم أن الدولة انحرفت عليه الكبار والصغار فغرق في بحر الهموم والاكدار وفتح الخزائن وفرق على أرباب الدولة الأموال والنعم وتمنى أن يقدم عليه كان ما كان ويجذب قلبه إليه بالملاطفة والإحسان ويجعله أميراً على العساكر الذين لم يزالوا تحت طاعته لتقوى به شرارة جمرته، ثم إن كان ما كان لما بلغه ذلك الخبر من التجار رجع مسرعاً إلى بغداد على ظهر ذلك الجواد.

فبينما الملك سلسان في ربكته حيران إذ سمع بقدوم كان ما كان فأخرج جميع العساكر ووجهاء بغداد ولاقوه ومشوا قدامه إلى القصر ودخلت الطواشية بالأخبار إلى أمه فجاءت إليه وقبلته بين عينيه، فقال: يا أماهد عيني أمضي إلى عمي السلطان سلسان الذي غمرني بالنعمة والإحسان.

ثم إن أرباب الدولة تحيروا في وصف ذلك الحصان وفي وصف صاحبه سيد الفرسان وقالوا للملك سلسان: أيها الملك إننا ما رأينا مثل هذا الإنسان ثم ذهب الملك سلسان وسلم عليه.

فلما رآه كان ما كان مقبلاً عليه قام إليه وقبل يديه ورجليه وقدم إليه الحصان هدية فرحب به وقال: أهلاً وسهلاً بولدي كان ما كان، و**** لقد ضاقت بي الأرض لأجل غيبتك والحمد *** على سلامتك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك سلسان قال أهلاً وسهلاً بولدي كان ما كان و**** لقد ضاقت بي الأرض لجل غيبتك والحمد *** على سلامتك، ثم نظر السلطان إلى هذا الحصان المسمى القانون، فعرف أنه الحصان الذي رآه سنة كذا وكذا في حصار عبدة الصلبان مع أبيه ضوء المكان حين قتل عمه شركان وقال له لو قدر عليه أبوك لاشتراه بألف جواد ولكن الآن عاد العز إلى أهله وقد قبلناه ومنا لك وهبنا هو أنت أحق به من كل إنسان لأنك سيد الفرسان. ثم أمر أن يحضر لكان ما كان خلعة سنية وجملة من الخيل وأفرد له في القصر أكبر الدور وأقبل عليه العز والسرور. وأعطاه مالاً جزيلاً وأكرمه غاية الإكرام لأنه كان يخشى عاقبة الوزير دندان ففرح بذلك كان ما كان وذهب عنه الذل والهوان ودخل بيته وأقبل على أمه وقال: يا أمي ما حال ابنة عمي، فقالت و**** يا ولدي انه كان عندي من غيبتك ما شغلني عن محبوبتك فقال يا أمي اذهبي إليها وأبلي عليها لعلها تجود علي بنظرة فقالت له إن المطامع تذل أعناق الرجال فدع عنك هذا المقال لئلا يقضي بك إلى الوبال فأنا أذهب إليها ولا أدخل بهذا الكلام عليها.

فلما سمع من أمه ذلك أخبرها بما قاله السلال من أن العجوز ذات الدواهي طرقت البلاد وعزمت على أن تدخل بغداد وقال هي التي قتلت عمي وجدي ولا بد أن أكشف العار وآخذ بالثأر ثم ترك أمه وأقبل على عجوز عاهرة محتالة ماكرة اسمها سعدانة وشكا إليها حاله وما تجده من حب قضي فكان وسألها أن تتوجه العجوز إليها وتستعطفها عليه، فقالت له العجوز سمعاً وطاعة ثم فارقته ومضت إلى قصر قضي فكان واستعطفت قلبها عليه، ثم رجعت إليه وأعلمته بأن قضي فكان تسلم عليه ووعدتها أنها في نصف الليل تجيء إليه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز قالت لكان ما كان بأنها ستجيئ إليك في نصف الليل ففرح لوعد ابنة عمه قضي فكان، فلما جاء نصف الليل أتته بملاءة سوداء من الحرير ودخلت عليه ونبهته من نومه وقالت له كيف تدعي أنك تحبني وأنت خلي البال نائم على أحسن حال، فانتبه وقال و**** يا منية القلب أني ما نمت إلا طمعاً في أن يزورني منك طيف الخيال فعند ذلك عاتبت بعتاب لطيف الكلمات وأنشدت هذه الأبيات:


لو كنت تصدق في المحبة
ما جنحت إلى المـنـام
يا مدعي طرق المحـبة
في المـودة والـغـرام
و**** يا ابـن الـعـم مـا
رقدت عيون المستهـام

فاستحيا منها كان ما كان، وتعانقا وتشاكيا ألم الفراق وعظيم الوجد والاشتياق ولم يزالا كذلك إلى أن بدت غرة الصباح وطلع الفجر ولاح فبكى كان ما كان بكاءً شديداً وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:

فيا زائري من بعد فرط صـدوده
وفي الثغر منه الدر في نظم عقده
فقبلته ألـفـاً وعـانـقـت قـده
وبت وخدي لاصق تحـت خـده
إلى أن بدا نور الصباح فراعـنـا
كحد حسام لاح من جو فغمـده

فلما فرغ من شعره ودعته قضي فكان ورجعت إلى خدرها وأظهرت بعض الجواري على سرها فذهبت جارية منهن إلى الملك سلسان وأعلمته بالخبر فتوجه إلى قضي فكان وجرد عليها الحسام وأراد أن يضرب عنقها فدخلت عليه أمها نزهة الزمان، وقالت له ب**** لا تفعل بها ضرراً فإنك إن فعلت بها ضرراً يشيع الخبر بين الناس وتبقى معيره عند ملوك الزمان وإن كان ما كان صاحب عرض ومروءة ولا يفعل أمراً يعاب عليه فاصبر ولا تعجل فإن أهل القصر وجميع بغداد قد ضاع عندهم أن الوزير دندان، قاد العسكر من جميع البلدان وجاء بهم ليملكوا كان ما كان.

فقال لها لابد أن أرميه في بلية بحيث لا أرض تقله ولا سماء تظلله وإني ما طيبت خاطره إلا لأجل أهل مملكتي، لئلا يميلوا إليه وسوف ترين ما يكون، ثم تركها وخرج يدير أمر مملكته هذا ما كان من أمر الملك سلسان. وأما كان ما كان فإنه أقبل على أمه في ثاني يوم وقال لها: يا أمي إني عزمت على شن الغارات وقطع الطرقات وسوق الخيل والنعم والعبيد والمماليك وإذا كثر مالي وحسن حالي خطبت قضي فكان من عمي سلسان، فقالت: يا ولدي إن أموال الناس غير سائبة، لأن دونها ضرب الصفاح وطعن الرمح ورجالاً تقتنص الأسود وتصيد الفهود فقال لها كان ما كان: هيهات أن أرجع عن عزيمتي إلا إذا بلغت منيتي ثم أرسل العجوز إلى قضي فكان ليعلمها أنه يريد السير حتى يحصل لها مهراً يصلح لها وقال للعجوز لابد أن تأتيني منها بالجواب. فقالت له: سمعاً وطاعة ثم ذهبت إليها ورجعت له بالجواب. وقالت له إنها في منتصف الليل تكون عندك فأقام سهران إلى نصف الليل من قلقه فلم يشعر إلا وهي داخلة عليه وتقول له: روحي فداك من السهر فنهض لها قائماً وقال: يا منية القلب روحي فداك من جميع الأسواء ثم أعلمها بما عزم عليه فبكت فقال لها: لا تبكي يا بنت العم فأنا الذي حكم علينا بالفراق أن يمن علينا بالتلاق والوفاق ثم إن كان ما كان أخذ في السفر ودخل عل أمه وودعها ونزل من القصر ونقله بسيفه ونعمم وتلثم وركب جواده القانون ومشى في شوارع المدينة وهو كالبدر حتى وصل إلى باب بغداد وإذا برفيقه صباح بن رباح خارج من المدينة، فلما رآه جرى في ركابه وحياه فرد عليه السلام فقال صباح يا أخي كيف صار لك هذا الجواد وهذا المال، وأنا الآن لا أملك غير سيفي؟ فقال له كان ما كان: لا يرجع الصياد بصيد إلا إلى قدر نبته وبعد فراقك بساعة حصلت لي السعادة وهل لك أن تأتي معي وتخلص النية في صحبتي ونسافر في تلك البرية؟ فقال: ورب الكعبة ما بقيت أدعوك إلا مولاي ثم جرى قدام الجواد وسيفه على عاتقه وجرابه بين كتفيه ولم يزالا سائرين في البر أربعة أيام وهما يأكلان من صيد الغزلان ويشربان من ماء العيون وفي اليوم الخامس أشرفا على تلٍ عال تحته مراتع فيها إبل وغنم وبقر خيل قد ملأت الروابي والبطاح وأولادها الصغار تلعب حول المراح.

فلما رأى ذلك كان ما كان، زادت به الأفراح وامتلأ صدره بالانشراح وعول على القتال وأخذ النياق والجمال فقال لصباح: انزل بنا على هذا المال الذي عن أهله وحيد ونقاتل دونه القريب والبعيد حتى يكون لنا في أخذه نصيب فقال صباح: يا مولاي إن أصحابه خلق كثير وجم غفير وفيهم أبطال من فرسان ورجال وإن رمينا أرواحنا في هذا الخطب الجسيم فإننا نكون من هوله على خطر عظيم فضحك كان ما كان وعلم أنه جبان فتركه وانحدر من الرابية عازماً على شن الغارات وترنم بإنشاد هذه الأبيات:


وآل نعمان هم ذوو الهـمـم
والسادة الضاربون في القسم
قوم إذا ما الهياج قام لـهـم
قاموا بأسواقه علـى قـدم
تنام عين الفقـير بـينـهـم
ولا يرى قبح صور العـدم
وإنني أرتـجـي مـعـاونة
من مالك الملك بارئ النسم

ثم حمل على ذلك المال مثل الجمل الهائج وساق جميع الإبل والبقر والغنم والخيل قدامه فتبادرت إليه العبيد بالسيوف النقال والرماح الطوال وفي أولهم فارس تركي إلا أنه شديد الحرب والكفاح عارف بأعمال سمر القنا وبيض الصفاح فحمل على كان ما كان وقال له: ويلك لو علمت لمن هذا المال ما فعلت هذه الفعال، اعلم أن هذه الأموال للعصابة الرومية والفرقة الشركسية الذين ما فيهم إلا كل بطل عابس وهم مائة فارس قد خرجوا عن طاعة كل سلطان وقد سرق منهم حصان وحلفوا بان لا يرجعوا من هنا إلا به.

فلما سمع كان ما كان هذا الكلام صاح قائلاً: هذا هو الحصان الذي تعنون وأنتم له طالبون وفي قتالي بسببه راغبون فبارزوني كلكم أجمعون وشانكم وما تريدون، ثم صرخ بين أذني القانون فخرج عليهم مثل الغول وعطف على الفارس وطعنه فأخرج كلاه ومال على ثانٍ وثالث ورابع فأعدمهم الحياة فعند ذلك هابته العبيد فقال لهم: يا بني الزواني سوقوا المال والخيول وإلا خضبت من دمائكم سناني فساقوا المال وأخذوا في الانطلاق وانحدر إليه صباح وأعلن بالصياح وزادت به الأفراح وإذا بغبار قد علا وطار حتى سد الأقطار وبان من تحته مائة فارس مثل الليوث العوابس. فلما رآهم صباح فر إلى الرابية وترك البطاح وصار يتفرج على الكفاح، وقال ما أنا بفارس إلا في اللعب والمزاح ثم إن المائة فارس داروا حول كان ما كان وأحاطوا به من كل مكان فتقدم إليه منهم وقال: أين تذهب بهذا المال؟ فقال له كان ما كان: دونك والقتال واعلم أم من دونه أسداً أروع وبطل صميدع وسيفاً أينما مال قطع فلما سمع الفارس ذلك الكلام لتفت إليه فرآه فارساً كالأسد الضرغام إلا أن وجهه بدر التمام وكان ذلك الفارس رئيس المائة فارس واسمه كهرداش.

فلما رأى كان ما كان مع كمال فروسيته بديع المحاسن يشبه حسنه حسن معشوقة له يقال لها فاتن وكانت من أحسن النساء وجهاً قد أعطاها **** من الحسن والجمال وكرم الخصال ما يعجز عن وصفه اللسان ويشغل قلب كل إنسان وكانت فرسان القوم تخشى سطوتها وأبطال ذلك القطر تخاف هيبتها وحلفت أنها لا تتزوج إلا من يقهرها وكان كهرداش من جملة خطابها فقالت لأبيها: ما يقربني إلا من يقهرني في الميدان وموقف الحرب والطعان. فلما بلغ كهرداش هذا القول أختشي أن يقاتل جارية وخاف من العار فقال في بعض خواصه: أنت كامل الخصال في الحسن والجمال فلو قاتلتها وكانت أقوى منك فإنك تغلبها لأنها إذا رأت حسنك وجمالك تنهزم قبالك حتى تملكها لأن النساء لهن غرض في الرجال ولا يخفى عنك هذا الحال، فأبى كهرداش وامتنع من قتالها واستمر على امتناعه من القتال إلى أن جرت له مع كان ما كان هذه الأفعال فظن أنه محبوبته فاتن قد عشقته لما سمعت بحسنه وشجاعته فتقدم إلى كان ما كان وقال: ويلك يا فاتن قد أتيت لتريني شجاعتك فانزلي عن جوادك حتى أتحدث معك فإني قد سقت هذه الأموال وقطعت الطريق على الفرسان والأبطال وكل هذا لحسنك وجمالك الذي ما له مثيل وتزوجيني حتى تخدمك بنات الملوك وتصيري ملكة هذه الأقطار.

فلما سمع كان ما كان هذا الكلام صارت ناره غيظه في اضطرام وقال: ويلك يا كلب الأعجام دع فاتناً وما بها ترتاب وتقدم إلى الطعن والضراب فعن قليل تبقى على التراب ثم صال وجال وطلب الحرب والنزال فلما نظر كهرداش إليه علم أنه فارس همام وبطل مصدام وتبين خطأ ظنه حيث لاح له عذار أخضر فوق خده كآس نبت خلال ورد أحمر وقال للذين معه: ويلكم ليحمل واحد منكم عليه ويظهر له السيف البتار والرمح الخطار واعلموا أن قتال الجماعة للواحد عار ولو كان في سنان رمحه بشعلة نار فعند ذلك حمل عليه فارس تحته جواد أدهم بتحجيل وغرة كالدرهم يحير العقل والناظر كما قال فيه الشاعر:


قد جاءك المهر الذي نزل الوغى
جذلان يخلط أرضه بسـمـائه
وكأنما لطم الصبـاح جـبـينـه
واقتص منه فخاض في أحشائه

ثم إن الفارس حمل عليه كان ما كان وتجاولا في الحرب برهة من الزمان وتضاربا ضرباً يحير الأفكار ويغشي الأبصار فسبقه كان ما كان بضربة بطل شجاع قطعت منه العمامة والمغفر فمال عن جواده كأنه البعير إذا انحدر وحمل عليه الثاني والثالث والرابع والخامس ففعل بهم كالأول، ثم حمل عليه الباقون وقد اشتد بهم القلق وزادت الحرق فما كان إلا ساعة التقطهم بسنان رمحه. فنظر كهرداش إلى هذا الحال فخاف من الارتحال وعرف من نفسه أن عنده ثبات الجنان واعتقد أنه أوجد الأبطال والفرسان فقال لكان ما كان: قد وهبت لك دمك ودم أصحابي فخذ من المال ما شئت واذهب إلى حال سبيلك فقد رحمتك لحسن شبابك والحياة أولى بك، فقال له كان ما كان: لا عدمت مروءة الكرام ولكن اترك عنك هذا الكلام وفز بنفسك ولا تخشى الملام ولا تطمع نفسك في رد الغنيمة واسلك لنجاة نفسك طريقة مستقيمة فعند ذلك اشتد بكهرداش الغضب وحصل عنده ما يوجب العطب فقال لكان ما كان: ويلك لو عرفت من أنا ما نطقت بهذا الكلام في حومة الزحام فاسأل عني الأسد البطاش المعروف بكهرداش الذي نهب الملوك الكبار وقطع الطريق على جميع السفار وأخذ أموال التجار وهذا الحصان الذي تحتك طلبتي وأريد أن تعرفني كيف وصلت إليه حتى استوليت عليه، فقال: اعلم أن هذا الجواد كان سائراً إلى عمي الملك سلسان تحت عجوز كبيرة ولنا عندها ثأر من جهة جدي الملك عمر النعمان وعمي الملك شركان، فقال كهرداش: ويلك ومن أبوك لا أم لك فقال: اعلم أني كان ما كان ابن الملك ضوء المكان بن عمر النعمان. فلما سمع كهرداش هذا الخطاب قال: لا يستنكر عليك الكمال والجمع بين الفروسية والجمال، ثم قال له: توجه بأمان فإن أباك كان فضل وإحسان فقال له كان ما كان: أنا و**** ما أوقرك يا مهان، فاغتاظ البدوي ثم حمل كل منهما على صاحبه فشدت لهما الخيل أذانها ورفعت أذنابها ولم يزالا يصطدمان حتى ظن كل منهما أن السماء قد انشقت، ثم بعد ذلك تقاتلا ككباش النطاح واختلفت بينهما طعنات الرماح فحاوله كهرداش بطعنة فزاغ عنها كان ما كان ثم كر عليه وطعنه في صدره فطلع السنان يلمع من ظهره وجمع الخيل والأسلاب وصاح في العبيد: دونكم والسوق الشديد.

فنزل عند ذلك صباح وجاء إلى كان ما كان وقال له: أحسنت يا فارس الزمان إني دعوت لك واستجاب *** دعائي، ثم إن صباح قطع رأس كهرداش فضحك كان ما كان وقال له: ويلك يا صباح إني كنت أظن أنك فارس الحرب والكفاح فقال: لا تنسى عبدك من هذه الغنيمة لعلي أصل بسببها إلى زواج بنت عمي نجمة فقال له: لا بد لك من نصيب ولكن كن محافظاً على الغنيمة والعبيد، ثم إن كان ما كان سار متوجهاً إلى الديار ولم يزل سائراً بالليل والنهار حتى أشرف على مدينة بغداد وعلمت به جميع الأجناد ورأوا ما معه من الغنيمة والأموال ورأس كهرداش على رمح صباح وعرف التجار رأس كهرداش ففرحوا وقالوا: لقد أراح **** الخلق منه لأنه كان قاطع الطريق وتعجبوا من قتله ودعوا لقاتله، وأتى أهل بغداد إلى كان ما كان بما جرى من الأخبار فهابته جميع الرجال وخافته الفرسان والأبطال وساق ما معه إلى أن أوصله تحت القصر وركز الرمح الذي عليه رأس كهرداش إلى باب القصر وهب للناس وأعطاهم الخيل والجمال فأحبه أهل بغداد ومالت إليه القلوب ثم أقبل على صباح وأنزله في بعض الأماكن الفساح ثم دخل على أمه وأخبرها بما جرى له في سفره.

وقد وصل إلى الملك خبره فقام من مجلسه واختلى بخواصه وقال لهم: اعلموا أني أريد البوح لكم بسري وأبدي لكم مكنون أمري اعلموا أن كان ما كان هو الذي يكون سبباً لانقلاعنا من هذه الأوطان لأنه قتل كهرداش مع أن قبائل من الأكراد والأتراك وأمرنا معه يل إلى الهلاك وأكثر خوفنا من أقاربه، وقد علمتم بما فعل الوزير دندان فإنه جحد معروفي بعد الإحسان وخانني في الأيمان وبلغني أنه جمع عساكر البلدان وقصد أن يسلطن كان ما كان لأن السلطنة كانت لأبيه وجده، ولا شك أنه قاتلي لا محالة. فلما سمع خواً مملكته منه هذا الكلام قالوا له: أيها الملك إنه أقل من ذلك ولولا أننا علمنا بأنه تربيتك لم يقبل عليه منا أحد واعلم أننا بين يديك إن شئت قتله قتلناه وإن شئت ابعاده أبعدناه، فلما سمع كلامهم قال: إن قتله هو الصواب ولكن لابد من أخذ الميثاق فتحالفوا على أنهم لا بد أن يقتلوا كان ما كان فإذا أتى الوزير دندان وسمع بقتله تضعف قوته عما هو عازم عليه. فلما أعطوه العهد والميثاق على ذلك أكرمهم غاية الإكرام ثم دخل بيته وقد تفرق عنه الرؤساء وامتنعت العساكر من الركوب والنزول حتى يبصروا ما يكون لأنهم رأوا غالب العسكر مع الوزير دندان، ثم إن الخبر وصل إلى قضى فكان فحصل عندها غم زائد وأرسلت إلى العجوز التي عادتها أن تأتيها من عند ابن عمها بالأخبار فلما حضرت عندها أمرتها أن تذهب إليه وتخبره بالخبر، فلما سمع ذلك قال: بلغي بنت عمي سلامي وقولي لها: إن الأرض *** عز وجل يورثها من يشاء من عباده، وما أحسن قول الشاعر:


الملك *** ومن يظفر بنيل منـي
يردده قهر ويضمن عنده الدركا
لو كان لي أو لغيري قدر أنملة
من التراب لكان الأمر مشتركا
فرجعت العجوز إلى بنت عمه وأخبرتها بما قاله وأعلمتها بأن كان ما كان أقام في المدينة، ثم إن الملك سلسان صار ينتظر خروجه من بغداد ليرسل وراءه من يقتله فاتفق أنه خرج إلى الصيد والقنص وخرج صباح معه لأنه كان لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً فاصطاد عشر غزلان وفيهن غزالة حلاء العيون صارت تتلفت يميناً وشمالاً فأطلقها فقال له صباح: لأي شيء أطلقت هذه الغزالة؟ فضحك كان ما كان وأطلق الباقي وقال: إن من المروءة إطلاق الغزلان التي لها أولاد وما تتلفت تلك الغزالة إلا لأن لها أولاد فأطلقتها وأطلقت الباقي في كرامتها. فقال له صباح: أطلقني حتى أروح إلى أهلي فضحك وضربه بعقب الرمح على قلبه فوقع على الأرض يتلوى كالثعبان، فبينما هما كذلك وإذا بغبرة سائرة وخيل تركض وبان من تحتها فرسان شجعان وسبب ذلك أن الملك سلسان أخبروه أن كان ما كان خرج إلى الصيد والقنص فأرسل أمير من الديلم يقال له جامع ومعه عشرين فراساً ودفع لهم المال ثم أمرهم أن يقتلوا كان ما كان فلما قربوا منه حملوا عليه وحمل عليهم فقتلهم عن آخرهم وإذا بالملك سلسان ركب وسار ولحق بالعسكر فوجدهم مقتولين فتعجب ورجع وإذا بأهاليهم قبضوا عليه وشدوا وثاقه، ثم إن كان ما كان توجه بعد ذلك من المكان وتوجه معه صباح البدوي. فبينما هو سائر في طريقه رأى شاباً على باب داره فألقى كان ما كان عليه السلام فرد الشاب عليه السلام ثم دخل وخرج ومعه قصعتان إحداهما فيها لبن والثانية ثريد والسمن في جوانبها يموج ووضع القصعتين قدام كان ما كان وقال له: تفضل علينا بالأكل من زادنا فامتنع كان ما كان وقال له الشاب: مالك أيها الإنسان لا تأكل؟ فقال له كان ما كان: اعلم أن الملك سلسان غصب ملكي ظلماً وعدواناً ثم إن ذلك الملك كان لأبي وجدي من قبلي فاستولى عليه قهراً بعد موت أبي ولم يعتبرني لصغر سني فنذرت أنني لا آكل لأحد زاد حتى أشفي فؤادي من غريمي. فقال له الشاب: ابشر فقد وفى **** نذرك واعلم أنه مسجون في مكان وأظنه يموت قريباً، فقال له كان ما كان: في أي بيت هو معتقل؟ فقال له: في تلك القبة العالية فنظر كان ما كان إلى قبة عالية ورأى الناس في تلك القبة يدخلون وعلى سلسان يلطمون وهو يتجرع غصن المنون فقام كان ما كان ومشى حتى وصل إلى تلك القبة وعاين ما فيها ثم عاد إلى موضعه وقعد على الأكل وأكل ما تيسر ووضع ما بقي من اللحم في مزودة ثم جلس مكانه ولم يزل جالساً إلى أن أظلم الليل ونام الشاب الذي ضيفه ثم ذهب كان ما كان إلى القبة التي فيها سلسان وكان حولها كلاب يحرسونها فوثب عليه كلب من الكلاب فرمى له قطعة لحم من الذي في مزوده وما زال يرمي للكلاب لحماً حتى وصل إلى القبة وتوصل إلى أن صار عند الملك سلسان ووضع يده على رأسه، فقال له بصوت عال: من أنت؟ فقال: أن كان ما كان الذي سعيت في قتله فأوقعك **** في سوء تدبيرك أما يكفيك أخذ ملكي وملك أبي وجدي حتى تسعى في قتلي؟ فحلف له الملك سلسان الأيمان الباطلة أنه لم يسع في قتله وأن هذا الكلام غير صحيح فصفح عنه كان ما كان وقال له: اتبعني فقال: لا أقدر أن أخطو خطوة واحدة لضعف قوتي، فقال كان ما كان: إذا كان الأمر كذلك نأخذ لنا فرسين ونركب أنا وأنت ونطلب البر ثم فعل كما قال وركب هو وسلسان وسارا حتى الصباح ثم صليا الصبح وسارا ولم يزالا كذلك حتى وصلا إلى بستان فجعلا يتحدثان فيه ثم قام كان ما كان إلى سلسان وقال له: هل بقي في لقبك من أمر تكرهه؟ قال سلسان: لا و**** ثم اتفقوا على أنهم يرجعا إلى بغداد.

فقال صباح البدوي أنا أسبقكما لأبشر الناس فسبق يبشر النساء والرجال فخرجت إليه الناس بالدفوف والمزامير وبرزت قضي فكان وهي مثل البدر بهي الأنوار في دياجي الإعتكار فقابلها كان ما كان وحنت الأرواح للأرواح واشتاقت الأشباح للأشباح ولم يبق لأهل القصر حديث إلا في كان ما كان وشهد له الفرسان أنه أشجع أهل الزمان وقالوا: لا يصلح أن يكون سلطاناً علينا إلا كان ما كان ويعود إلى ملك جده كما كان وأما سلسان فإنه دخل على نزهة الزمان فقالت له: إني أرى الناس ليس لهم حديث إلا في كان ما كان ويصفونه بأوصاف يعجز عنها اللسان. فقال لها: ليس الخبر كالعيان، فإني رأيته ولم أر فيه صفة من صفات الكمال وما كل ما يسمع يقال ولكن الناس يقلد بعضهم بعضاً في مدحه ومحبته وأجرى **** على ألسنة الناس مدحه حتى مالت إليه قلوب أهل بغداد والوزير دندان الغادر الخوان قد جمع له عساكر من سائر البلدان ومن الذي يكون صاحب الأقطار ويرضى أي يكون تحت يد حاكم يتيم ما له مقدار فقالت له نزهة الزمان: وعلى ماذا عولت؟ قال: عولت على قتله ويرجع الوزير دندان خائباً في قصده، ويدخل تحت أمري وطاعتي ولا يبقى له إلا خدمتي فقالت له نزهة الزمان: الغدر قبيح بالأجانب فكيف بالأقارب والصواب أن تزوجه ابنتك قضي فكان وتسمع ما قيل فيما مضى من الزمان:


إذا رفع الزمان عليك شخصـاً
وكنت أحق فمنه ولو تصاعـد
أنله حتـى رتـبـتـه تـجـده
ينيلك إن دنوت وإن تـبـاعـد
ولا تقـل الـذي تـدريه فـيه
تكن ممن عن الحسنى تقاعـد
فكم في الخدر أبهى من عروسه
ولكن للعروس الدهر سـاعـد

فلما سمع سلسان هذا الكلام وفهم الشعر والنظام قام مغضباً من عندها وقال: لولا أني أعرف أنك تمزحين لعلوت رأسك بالسيف وأخمدت أنفاسك، فقالت: حيث غضبت مني فأنا أمزح معك ثم وثبت إليه وقبلت رأسه ويديه وقالت له: الصواب ما تراه وسوف أتدبر أنا وأنت في حيلة نقتله بها. فلما سمع منها هذا الكلام فرح وقال لها: عجلي بالحيلة وفرجي كربتي فلقد ضاق علي باب الحيل فقالت له: سوف أتحيل لك على إتلاف مهجته فقال لها: بأي شيء؟ فقالت له: بجاريتنا التي اسمها باكون فإنها بالمكر ذات فنون وكانت هذه الجارية من أنحس العجائز وعدم الخبث في مذهبها غير جائز وكانت ربت كان ما كان وقضي فكان غير أن كان ما كان يميل إليها كثيراً ومن فرط ميله كان ينام تحت رجليها. فلما سمع الملك سلسان من زوجته هذا الكلام قال: إن هذا الرأي هو الصواب، ثم أحضر الجارية باكون وحدثها بما جرى وأمرها أن تسعى في قتله ووعدها بكل جميل، فقالت له: أمرك مطاع ولكن أريد يا مولاي أن تعطيني خنجراً قد سقي بماء الهلاك لأعجل لك بإتلافه فقال لها سلسان: مرحباً بك ثم أحضر لها خنجراً يكاد أن يسبق القضاء وكانت هذه الجارية قد سمعت الحكايات والأشعار وتحفظ النوادر والأخبار فأخذت الخنجر وخرجت من الديار مفكرة فيما يكون به الدمار وأتت إلى كان ما كان وهو قاعد ينتظر وعد السيدة قضي فكان وكان في تلك الليلة قد تذكر بنت عمه قضي فكان فالتهبت من حبها في قلبه النيران.

فبينما هو كذلك وإذا بالجارية باكون داخلة عليه وهي تقول: آن أوان الوصال ومضت أيام الانفصال فلما سمع ذلك قال لها: كيف حال قضي فكان فقالت له باكون: اعلم أنها مشتغلة بحبك فعند ذلك قام كان ما كان إليها وخلع أثوابها عليها ووعدها بكل جميل فقالت له: اعلم أنني أنام عندك الليلة وأحدثك بما سمعت من الكلام وأسليك بحديث كل متيم أمرضه الغرام، فقال له كان ما كان: حدثيني بحديث يفرح به قلبي ويزول به كربي فقالت له باكون: حباً وكرامةً ثم جلست إلى جانبه وذلك الخنجر من داخل أثوابها، فقالت له: اعلم أن أعذب ما سمعت أذني أن رجلاً كان يعشق الملاح وصرف عليهن ماله حتى افتقر وصار لا يملك شيئاً فضاقت عليه الدنيا فصار يمشي في الأسواق ويفتش على شيء يقتات به بينما هو ماش وإذا بقطعة مسمار شكته في إصبعه فسال دمه فقعد ومسح الدم وعصب إصبعه ثم قال وهو يصرخ، حتى جاز على الحمام ودخلها ثم قلع ثيابه فلما صار داخل الحمام وجدها نظيفة فجلس على الفستقية وما زال ينزح الماء على رأسه إلى أن تعب.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، ثم خرج إلى الحوض البارد فلم يجد أحداً فاختلى بنفسه وأطلع قطعة حشيش وبلعها فساحت في مخه فانقلب على الرخام وخيل له الحشيش أن مهتاراً كبيراً يكبسه وعبدين واقفان على رأسه واحد معه الطاسة والآخر معه آلة الحمام وما يحتاج إليه البلان فلما رأى ذلك قال في نفسه: كأن هؤلاء غلطوا في أو من طائفتنا الحشاشين، ثم إنه مد رجليه فتخيل له أن البلان قال له: يا سيدي قد أزف الوقت على طلوعك، واليوم نوبتك فضحك وقال في نفسه: ما شاء **** يا حشيش ثم قعد وهو ساكت، فقام البلان وأخذ بيده وأدار على وسطه مئزراً من الحرير الأسود ومشى وراءه العبدان بالطاسات والحوائج ولم يزالا به حتى أدخلاه الخلوة، وأطلقا فيها البخور فوجدها ملآنة من سائر الفواكه والمشموم، وشقا له بطيخة وأجلساه على كرسي من الآبنوس ووقف البلان يغسله والعبدان يصبان الماء ثم دلكوا دلكاً جيداً وقالوا له: يا مولانا الصاحب نعيم دائم، ثم خرجوا وردوا عليه الباب.

فلما خيل له ذلك قام ورفع المئزر من وسطه وصار يضحك إلى أن غشي عليه واستمر ساعة يضحك، ثم قال في نفسه: ما لهم يخاطبونني خطاب الوزير ويقولون: يا مولانا الصاحب فلعل الأمر التبس عليهم في هذه الساعة بعد ذلك يعرفونني ويقولون هذا زليط ويشبعون صكاً في رقبتي، ثم إنه استحم وفتح الباب، فتخيل له أن مملوكاً صغيراً وطواشياً قد دخلا عليه فالمملوك معه بقجة ففتحها وأخرج منها ثلاث فوط من الحرير فرمى الأولى على رأسه والأخرى على أكتافه وحزمه بالثالثة، وقدم له الطواشي قبقاباً فلبسه وأقبلت عليه مماليكه وطواشيه وصاروا يستندونه وكل ذلك حصل وهو يضحك إلى أن خرج وطلع الليوان فوجد فرشاً عظيماً، لا يصلح إلا للملوك وتبادرت إليه الغلمان وأجلسوه على المرتبة وصاروا يكبسونه، حتى غلب عليه النوم.

فلما نام رأى في حضنه صبية فباسها ووضعها بين فخذيه وجلس منها مجلس الرجل من المرأة وقبض ذكره بيده وسحبها وعصرها تحت عنده وإذا بواحد يقول: نتنبه يا زليط قد جاء الظهر وأنت نائم ففتح عينيه فوجد نفسه على الحوض البارد وحوله جماعة يضحكون عليه وعضوه قائم والفوطة انحلت من وسطه وتبين له كل هذا أضغاث أحلام أو تخيلات حشيش فاغتم ونظر إلى الذي نبهه وقال: كنت اصبر حتى أحطه فقال له الناس: أما تستحي يا حشاش وأنت نائم وذكرك قائم وصكوه حتى احمر قفاه وهو جيعان وقد ذاق طعم السعادة في المنام. فلما سمع كان ما كان من الجارية هذا الكلام ضحك حتى استلقى على قفاه وقال لباكون: يا دادتي إن هذا حديث عجيب فإني ما سمعت مثل هذه الحكاية فهل عندك غيرها؟ فقالت، ثم إن الجارية باكون لم تزل تحدث كان ما كان بمخاوف حكايات ونوادر مضحكات حتى غلبه النوم ولم تزل تلك الجارية جالسة عند رأسه حتى مضى غالب الليل فقالت في نفسها: هذا وقت تجوز الفرصة ثم نهضت وسلت الخنجر ووثبت على كان ما كان وأرادت ذبحه وإذ بأم كان ما كان دلت عليهما فلما رأتها باكون قامت لها واستقبلتها، ثم لحقها الخوف فصارت تنتفض كأنها الحمى فلما رأتها أم كان ما كان تعجبت ونبهت ولدها من النوم.

فلما استيقظ وجد أمه جالسة فوق رأسه وكان السبب في حياته مجيئها وسبب مجيء أمه أن قضي فكان سمعت الحديث والاتفاق على قتله فقالت لأمه: يا زوجة العم الحقي ولدك قبل أن تقتله العاهرة باكون وأخبرتها بما جرى من أوله إلى آخره فخرجت وهي لا تعقل شيئاً حتى دخلت في الساعة التي نام فيها وهمت باكون عليه تريد ذبحه فلما استيقظ قال لأمه: لقد جئت يا في وقت طيب ودادتي باكون حاضرة عندي في تلك الليلة، ثم التفت إلى باكون وقال لها: بحياتي عليك هل تعرفين حكاية أحسن من هذه الحكاية التي جدلتني بها؟ فقالت له: وأين ما حدثتك به سابقاً مما أحدثك به الآن فإنه أعذب وأغرب ولكن أحكيه لك في غير هذا الوقت ثم قامت باكون وهي لا تصدق بالنجاة فقاله لها ك مع السلامة، ولمحت بمكرها أن أمها عندها خبر بما حصل فذهبت إلى حالها.

فعند ذلك قالت له والدته: يا ولدي هذه ليلة مباركة حيث نجاك **** من الملعونة فقال لها: وكيف ذلك؟ فأخبرته بالأمر من أوله إلى آخره فقال لها: يا والدتي الحي ما له قاتل وإن قتل لا يموت ولكن الأحوط لنا أن نرحل عن هؤلاء الأعداء و**** يفعل ما يريد.

فلما أصبح الصباح خرج كان ما كان من المدينة واجتمع بالوزير دندان، وبعد خروجه حصلت أمور بين الملك سلسان ونزهة الزمان أوجبت خروج نزهة الزمان أيضاً من المدينة فاجتمعت بهم واجتمع عليهم جميع أرباب دولة الملك سلسان الذين يميلون إليهم فجلسوا يدبرون الحيلة، فاجتمع رأيهم على غزو ملك الروم وأخذ الثأر فلما توجهوا إلى غزو ملك الروم وقعوا في أسر الملك رومزان بعد أمور يطول شرحها كما يظهر من السياق.

فلما أصبح الصباح أمر الملك رومزان أن يحضر كان ما كان والوزير دندان وجماعتهما فحضروا بين يديه وأجلسهم بجانبه وأمر بإحضار الموائد فأكلوا وشربوا واطمأنوا بعد أن أيقنوا بالموت لما أمر بإحضارهم، وقالوا لبعضهم: إنه ما أرسل إلينا إلا لأنه يريد قتلنا. وبعد أن اطمأنوا قال لهم: إني رأيت مناماً قصصته على الرهبان فقالوا: ما يفسره لك إلا الوزير دندان فقال الوزير دندان: خير ما رأيت يا ملك الزمان فقال له: أيها الوزير رأيت إني في حفرة على ضفة بئر أسود وكان قوماً يعذبونني فأردت القيام فلما نهضت وقفت على أقدامي وما قدرت على الخروج من تلك الحفرة، ثم التفت فيها فرأيت فيها منطقة من ذهب فمددت يدي لآخذها فلما رفعتها من الأرض رأيتها منطقتين فشددت وسطي بهما فإذا هما قد صارتا منطقة وحدة وهذا أيها الوزير منامي والذي رأيته في لذيذ أحلامي فقال له الوزير دندان: اعلم يا مولانا أن رؤياك تدل على أن لك أخاً أو ابن أخ أو ابن عم أو أحد يكون من أهلك من دمك ولحمك وعل كل حال هو من العصب. فلما سمع الملك هذا الكلام نظر إلى كان ما كان ونزهة الزمان وقضي فكان والوزير دندان ومن معهم من الأسارى وقال في نفسه: إذا رميت رقاب هؤلاء انقطعت قلوب عسكرهم بهلاك أصحابهم ورجعت إلى بلادي عن قريب لئلا يخرج الملك من يدي ولما صمم على ذلك استدعى بالسياف وأمره أن يضرب رقبة كان ما كان من وقته وساعته وإذا بداية الملك قد أقبلت في تلك الساعة فقالت له: أيها الملك السعيد على ماذا عولت؟ فقال لها: عولت على قتل هؤلاء الأسارى الذين في قبضتي، وبعد ذلك أرمي رؤوسهم إلى أصحابهم، ثم أحمل أنا وأصحابي عليهم حملة واحدة فنقتل الذي نقتله ونهزم الباقي وتكون هذه وقعة الانفصال وأرجع إلى بلادي عن قريب قبل أن يحدث بعد الأمور أمور في مملكتي، فعندما سمعت منه دايته هذا الكلام أقبلت عليه وقالت له بلسان الإفرنج: كيف يطيب عليك أن تقتل ابن أخيك وأختك وابنة أختك.

فلما سمع الملك من دايته هذا الكلام اغتاظ غيظاً شديداً، وقال لها: يا ملعونة ألم تعلمي أن أمي قد قتلت وأن أبي قد مات مسموماً وأعطيتني خرزة وقلت لي إن هذه الخرزة كانت لأبيك فلم لا تصدقيني في الحديث؟ فقالت له: كل ما أخبرتك به صدق، ولكن شأني وشأنك عجيب وأمري وأمرك غريب فأنني أنا اسمي مرجانة واسم أمك إبريزه وكانت ذات حسن وجمال وشجاعتها تضرب بها الأمثال واشتهرت بالشجاعة بين الأبطال وأما أبوك فإنه الملك عمر النعمان صاحب بغداد وخراسان من غير شك ولا ريب ولا زحم بالغيب وكان قد أرسل ولده شركان إلى بعض غزواته صحبة هذا الوزير دندان وكان منهم الذي كان، وكان أخوك الملك شركان تقدم على الجيوش وانفرد وحده عن عسكر ه فوقع عند أمك الملكة إبريزه في قصرها ونزلنا وإياها في خلوة للصراع فصادفنا ونحن في تلك الحالة فتصارع مع أمك فغلبته لباهر حسنها وشجاعتها ثم استضافته أمك مدة خمسة أيام في قصرها فبلغ أباها ذلك الخبر من العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي وكانت أمك قد أسلمت على يد شركان أخيك فأخذها وتوجه بها إلى مدينة بغداد سراً وكنت أنا وريحانة وعشرون جارية معها وكنا قد أسلمنا كلنا على يد الملك شركان، فلما دخلنا على أبيك الملك عمر النعمان ورأى أمك الملكة إبريزه وقع في قلبه محبتها فدخل عليها ليلة واختلى بها فحملت بك وكان مع أمك ثلاث خرزات فأعطتها لأبيك فأعطى خرزة لابنته نزهة الزمان، وأعطى الثانية لأخيك ضوء المكان وأعطى الثالثة لأخيك الملك شركان فأخذته منه الملكة إبريزه وحفظتها لك فلما قربت ولادتها اشتاقت أمك إلى أهلها واطلعتني على سرها فاجتمعت بعبد أسود يقال له الغضبان وأخبرته بالخبر سراً ورغبته في أن يسافر معنا فأخذنا العبد وطلع بنا من المدينة وهرب بنا وكانت أمك قربت ولادتها. فلما دخلنا على أوائل بلادنا في مكان منقطع أخذ أمك الطلق بولادتها، فحدث العبد نفسه بالخنا فأتى أمك فلما قرب منها راودها على الفاحشة فصرخت عليه صرخة عظيمة وانزعجت منه فمن عظم انزعاجها، وضعتك حالاً وكان في تلك الساعة قد طلع علينا في البر من ناحية بلادنا غبار قد علا وطار حتى سد الأقطار فخشي العبد على نفسه من الهلاك فضرب الملكة إبريزه بسيفها فقتلها من شدة غيظه وركب جواده وتوجه إلى حال سبيله وبعدما راح العبد انكشف الغبار عن جدك الملك حردوب ملك الروم فرأى أمك ابنته وهي في ذلك المكان قتيلة على الأرض جديلة فصعب ذلك عليه، وكبر لديه وسألني عن سبب قتلها وعن سبب خروجها خفية عن بلاد أبيها فحكيت له جميع ذلك من الأول إلى الآخر وهذا هو سبب العداوة بين أهل الروم وبين أهل بغداد. فعند ذلك احتملنا أمك وهي قتيلة ودفناها في قصرها وقد احتملتك أنا وربيتك وعلقت لك الخرزة التي كانت مع أمك الملكة إبريزه، ولما كبرت وبلغت مبلغ الرجال لم يمكنني أن أخبرك بحقيقة الأمر لأنني لو أخبرتك بذلك لثارت بينكم الحروب وقد أمرني جدك بالكتمان ولا قدرة لي على مخالفة أمر جدك حردوب ملك الروم فهذا سبب كتمان الخبر عنك وعدم إعلامك بأن أباك الملك عمر النعمان.

فلما استقللت بالمملكة أخبرتك وما أمكنني أن أعلمك إلا في هذا الوقت يا ملك الزمان وقد كشفت السر والبرهان وهذا ما عندي من الخبر وأنت برأيك أخبر، وكان الأسارى قد سمعوا من الجارية مرجانة داية الملك هذا الملك جميعه فصاحت نزهة الزمان من وقتها وساعتها صيحة عظيمة وقالت هذا الملك رومزان أخي من أبي عمر النعمان وأمه الملكة ابريزة بنت الملك حردوب ملك الروم وأنا أعرف هذه الجارية حق المعرفة.

فلما سمع الملك رومزان هذا الكلام أخذته الحدة وصار متحيراً في أمره وأحضر من وقته وساعته نزهة الزمان بين يديه، فلما رآها حن الدم للدم واستخبرها عن قصته فحكت له فوافق كلامها كلام دايته فصح عند الملك أنه من غير شك ولا ارتياب وأن أباه الملك عمر النعمان فقام من تلك الساعة وحل كتاف أخته نزهة الزمان فتقدمت إليه وقبلت يديه ودمعت عيناها فبكى الملك لبكائها وأخذه حنو الأخوة ومال قلبه إلى ابن أخيه السلطان كان ما كان وقام ناهضاً على قدميه وأخذ السيف من السياف فأيقن الأسارى بالهلاك لما رأوا منه ذلك فأمر بإحضارهم بين يديه وفك وثاقهم وقال لدايته مرجانة: اشرحي حديثك الذي شرحتيه إلى هؤلاء الجماعة. فقالت دايته مرجانة: اعلم أيها الملك أن هذا الشيخ هو الوزير دندان وهو لي أكبر شاهد لأنه يعرف حقيقة الأمر، ثم إنها أقبلت عليهم من وقتها وساعتها وعلى من حضرهم من ملوك الروم وملوك الإفرنج وحدثتهم بذلك الحديث والملكة نزهة الزمان والوزير دندان ومن معها من الأسارى يصدقونها على ذلك، وفي آخر الحديث لاحت من الجارية مرجانة التفاتة فرأت الخرزة الثالثة بعينها رفيقة الخرزتين اللتين كانتا مع الملكة إبريزه في رقبة السلطان كان ما كان فعرفتها فصاحت صيحة عظيمة دوى لها الفضاء وقالت للملك: يا ولدي اعلم أنه قد زاد في ذلك صدق يقيني لأن هذه الخرزة التي في رقبة هذا الأسير نظير الخرزة التي وضعتها في عنقك وهذا الأسير هو ابن أخيك وهو كان ما كان، ثم إن الجارية التفت إلى كان ما كان وقالت له: أرني هذه الخرزة يا ملك الزمان فنزعها من عنقه وناولها لتلك الجارية داية الملك رومزان فأخذتها منه ثم سألت نزهة الزمان عن الخرزة الثالثة فأعطتها لها. فلما صارت الخرزتان في يد الجارية ناولتهما للملك رومزان فظهر له الحق والبرهان وتحقق أنه عم السلطان كان ما كان وأن أباه الملك عمر النعمان، فقام من وقته وساعته إلى الوزير دندان وعانقه ثم عانق الملك كان ما كان وعلا الصياح بكثرة الأفراح، وفي تلك الساعة انتشرت البشائر ودقت الكاسات والطبول وزمرت الزمور وزادت الأفراح وسمع عساكر العراق والشام ضجيج الروم بالأفراح فركبوا عن آخرهم وركب الملك الزبلكان وقل في نفسه: يا ترى ما سبب هذا الصياح والسرور الذي في عسكر الإفرنج والروم؟ وأما عساكر العراق فإنهم قد أقبلوا وعلى القتال عولوا وصاروا في الميدان ومقام الحرب والطعان.

فالتفت الملك رومزان فرأى العساكر مقبلين للحرب متهيئين فسأل عن سبب ذلك فأخبروه بالخبر فأمر قضي فكان ابنة أخيه شركان أن تسير من وقتها وساعتها إلى عسكر الشام والعراق وتعلمهم بحصول الاتفاق وأن الملك رومزان ظهر أنه عم السلطان كان ما كان فسارت قضي فكان بنفسها ونفت عنها الشرور والأحزان حتى ولت الملك الزبلكان وسلمت عليه وأعلمته بما جرى من الاتفاق وأن الملك رومزان ظهر أنه عمها وعم كان ما كان وحين أقبلت عليه وجدته باكي العين خائفاً على الأمراء والأعيان فشرحت له القصة من أولها إلى آخرها فزادت أفراحهم وزالت أتراحهم وركب الملك الزبلكان هو وجميع الأكابر والأعيان وسارت قدامهم الملكة قضي فكان حتى أوصلتهم إلى سرادق الملك رومزان، فلما دخلوا عليه وجدوه جالساً مع ابن أخيه السلطان كان ما كان وقد استشاره هو والوزير دندان في أمر الملك الزبلكان فاتفقوا على أنهم يسلمون إليه مدينة دمشق الشام ويتركونه ملكاً عليها كما كان مثل العادة وهم يدخلون إلى العراق فجعلوا الملك الزبلكان عاملاً على دمشق الشام، ثم أمروه بالتوجه إليها فتوجه بعساكره إليها ومشوا معه ساعة لأجل الوداع واجتمع العسكران مع بعضهم، ثم إن الملوك قالوا لبعضهم: ما بقيت قلوبنا تستريح ولا يشفي غيظنا إلا بأخذ الثأر وكشف العار بالانتقام من العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي.

فعند ذلك سار الملك رومزان مع خواصه وأرباب دولته وفرح السلطان كان ما كان بعمه الملك رومزان ودعا للجارية مرجانة حيث عرفتهم ببعضهم ثم ساروا ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى أرضهم فسمع الحاجب الكبير سلسان فطلع وقبل يد الملك رومزان فخلع عليه، ثم إن الملك رومزان جلس وأجلس ابن أخيه السلطان كان ما كان إلى جانبه، فقال كان ما كان لعمه الملك رومزان: يا عم ما يصلح هذا الملك إلا لك، فقال له: معاذ **** أن أعارضك في ملكك فعند ذلك أشار إليهما الوزير دندان أن يكون الاثنان في الملك سواء وكل واحد يحكم يوماً فارتضيا بذلك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أنهما اتفقا على أن كل واحد يحكم يوماً واحداً، ثم أولموا الولائم وذبحوا الذبائح وزادت بهم الأفراح وأقاموا على ذلك مدة من الزمان كل ذلك والسلطان كان ما كان يقطع ليله مع بنت عمه قضي فكان، وبعد تلك المدة بينما وهم قاعدون فرحون بهذا الأمر وانصلاح الشأن إذ ظهر لهم غبار قد علا وطار حتى سد الأقطار وقد أتى إليهم من التجار صارخ يستغيث وهو يصيح ويقول: يا ملوك الزمان كيف أسلم في بلاد الكفار وأنهب في بلادكم وهي بلاد العدل والأمان؟ فأقبل عليه الملك رومزان وسأله عن حاله فقال له: أنا تاجر من التجار ولي غائب عن الأوطان مدة مديدة من الزمان واستغرقت في البلاد نحو عشرين سنة من الأعوام وأن معي كتاباً من مدينة دمشق كان قد كتبه إلي المرحوم الملك شركان وسبب ذلك أنني أهديت له جارية، فلما قربت من تلك البلاد وكان معي مائة حمل من تحف الهند وأتيت بها إلى بغداد التي هي حرمكم ومحل أمنكم وعدلكم خرجت علينا عربان ومعهم أكراد مجتمعة من جميع البلاد فقتلوا رجالي ونهبوا أموالي وهذا شرح حالي، ثم إن التاجر بكى بين الملك رومزان وحوقل واشتكى فرحمه الملك ورق إليه وكذلك رحمه ابن أخيه الملك كان ما كان وحلفوا أنهم يخرجون إليه فخرجوا إليه في مائة فارس كل فارس يعد بين الرجال بألوف وذلك التاجر سار أمامهم يدلهم على الطريق، ولم يزالوا سائرين ذلك النهار وطول الليل إلى السحر حتى أشرفوا على واد غزير الأنهار كثير الأشجار فوجد القوم قد تفرقوا في ذلك وقسموا بينهم أحمال ذلك التاجر وبقي البعض فأطبق عليهم المائة فارس وأحاطوا بهم من كل مكان وصاح عليهم الملك رومزان وابن أخيه كان ما كان، فما كان غير ساعة حتى أسروا الجميع وكانوا ثلاثمائة فارس مجتمعين من أوباش العربان فلما أسروهم أخذوا ما معهم من مال التاجر وشدوا وثاقهم وطلعوا بهم إلى مدينة بغداد، فعند ذلك جلس الملك رومزان هو وابن أخيه الملك كان ما كان على تخت واحد مع بعضهما ثم عرضوا الجميع بين أيديهما وسألاهم عن حالهم وعن كبارهم فقالوا: ما لنا كبار سوى ثلاثة أشخاص وهم الذين جمعونا من سائر النواحي والأقطار فقالا لهم: ميزونا بأعيانهم فميزوهم لهما فأمر بالقبض عليهم وإطلاق بقية أصحابهم بعد أخذ جميع ما معهم من الأموال وتسليمه للتاجر، فتفقد التاجر قماشه وماله فوجده قد هلك ربعه فوعدوه أنهم يعوضون له جميع ما ضاع منه، فعند ذلك أخرج التاجر كتابين أحدهما بخط شركان والآخر بخط نزهة الزمان وقد كان التاجر اشترى نزهة الزمان من البدوي وهي بكر وقدمها لأخيها شركان وجرى بينهما ما جرى، ثم سمع أن الملك كان ما كان وقف على الكتابين وعرف خط عمه شركان وسمع حكاية عمته نزهة الزمان فدخل بذلك الكتاب الثاني الذي كانت كتبته للتاجر الذي ضاع منه المال وأخبرها كان ما كان بقصة التاجر من أولها إلى آخرها فعرفته نزهو الزمان وعرفت خطها. وأخرجت للتاجر الضيافات وأوصت عليه أخاها الملك رومزان وابن أخيها الملك كان ما كان فأمر له بأموال وعبيد وغلمان من أجل خدمته وأرسلت إليه نزهة الزمان مائة ألف درهم من المال وخمسين حملاً من البضائع وقد أتحفته بهدايا وأرسلت إليه تطلبه. فلما حضر طلعت وسلمت عليه وأعلمته أنها بنت الملك عمر النعمان وأن أخاها الملك رومزان وابن أخيها الملك كان ما كان ففرح التاجر بذلك فرحاً شديداً وهنأها بسلامتها واجتماعها بأخيها وابن أخيها وقبل يديها وشكرها على فعلها وقال لها: و**** ما ضاع الجميل معك، ثم دخلت إلى خدرها وأقام التاجر عندهم ثلاثة أيام، ثم ودعهم ورحل إلى الشام وبعد ذلك أحضر الملوك الثلاثة أشخاً اللصوص الذين كانوا رؤساء قطاع الطريق وسألوهم عن حالهم فتقدم واحد منهم وقال: اعلموا أني رجل بدوي أقف في الطريق لأخطف الصغار والبنات البكار وأبيعهم للتجار ودمت على ذلك مدة من الزمان إلى هذه الأيام وأغراني الشيطان فاتفقت مع هذين الشقيين على جمع الأوباش من الأغراب والبلدان لأجل نهب الأموال وقطع طريق التجار، فقلوا له: احك لنا على أعجب ما رأيت في خطفك الصغار والبنات، فقال لهم: أعجب ماجرى لي يا ملوك الزمان أنني من مدة اثنتين وعشرين سنة خطفت بنتاً من بيت المقدس، ذات يوم من الأيام وكانت تلك البنت ذات حسن وجمال غير أنها كانت خدامة وعليها أثواب خلقة وعلى رأسها قطعة عباءة فرأيتها قد خرجت من الخان فخطفتها بحيلة في تلك الساعة، وحملتها على جمل وسقت بها، وكان أملي في أنني أذهب بها إلى أهلي في لبرية وأجعلها عندي ترعى الجمال وتجمع البعر من الوادي فبكت بكاءً شديداً فدنوت منها وضربتها ضرباً وجيعاً وأخذتها إلى مدينة دمشق فرآها معي تاجر فتحير عقله لما رآها وأعجبته فصاحتها وأراد اشتراءها مني ولم يزل يزيدني في ثمنها حتى بعتها له بمائة ألف درهم، فعندما طلبتها له رأيت منها فصاحة عظيمة وبلغني أن التاجر كساها كسوة مليحة وقدمها إلى صاحب دمشق فأعطاه قدر المبلغ الذي دفعه إلي مرتين وهذا يا ملوك الزمان أعجب ما جرى، ولعمري إن ذلك الثمن قليل في تلك البنت.

فلما سمع الملوك هذه الحكاية ولما سمعت نزهة الزمان من البدوي ما حكاه صار الضياء في وجهها ظلاماً وصاحت وقالت لأخيها رومزان: إن هذا البدوي الذي خطفني من بيت المقدس بعينه من غير شك، ثم إن نزهة الزمان حكت لهم جميع ما جرى لها معه في غربتها من الشدائد والضرب والجوع والذل والهوان، ثم قالت لهم: الآن حل لي قتله، ثم جذبت السيف وقامت إلى البدوي لقتله وإذا هو صاح وقال: يا ملوك الزمان لا تدعوها تقتلني حتى احكي لكم ما جرى لي من العجائب فقال لها ابن أخيها كان ما كان: يا عمتي دعيه يحكي لنا حكاية وبعد ذلك افعلي ما تريدين، فرجعت عنه فقال له الملوك: الآن احك لنا حكاية.

فقال: يا ملوك الزمان إن حكيت لكم حكاية عجيبة تعفوا عني قالوا: نعم، فابتدأ البدوي يحدثهم بأعجب ما وقع له وقال: اعلموا أني من مدة يسيرة أرقت ليلة أرقاً شديداً وما صدقت أن الصباح طلعت حتى قمت من وقتي وساعتي وتقلدت بسيفي وركبت جوادي واعتقلت رمحي وخرجت أريد الصيد والقنص، فواجهتني جماعة في الطريق فسألوني عن قصدي فأخبرتهم به فقالوا: ونحن رفقاؤك فنزلنا كلنا مع بعضنا فبينما نحن سائرون وإذا بنعامة ظهرت لنا فقصدناها ففرت من بين أيدينا وهي فاتحة أجنحتها ولم تزل شاردة ونحن خلفها إلى الظهر حتى رمتنا في برية لا نبات فيها ولا ماء ولا نسمع فيها غير صفير الحيات وزعيق الجان وصريخ الغيلان. فلما وصلنا إلى ذلك المكان غابت عنا فلم ندر أفي سماء طارت أم في الأرض غارت فرددنا رؤوس الخيل وأردنا الرواح، ثم رأيت أن الرجوع في هذا الوقت الشديد الحر لا خير فيه ولا إصلاح وقد اشتد علينا الحر وعطشنا عطشاً شديداً ووقفت خيولنا فأيقنا بالموت. فبينما نحن كذلك إذ نظرنا من بعيد مرجاً أفيح فيه غزلان تمرح وهناك خيمة مضروبة وفي جابن الخيمة حصان مربوط وسنان يلمع على رمح مركوز فانتعشت نفوسنا من بعد اليأس ورددنا رؤوس خيلنا نحو تلك الخيمة نطلب ذلك المرج والماء وتوجه إليه جميع أصحابي وأنا في أولهم ولم نزل سائرين حتى وصلنا إلى ذلك المرج فوقفنا على عين فشربنا وسقينا خيلنا فأخذتني حمية الجاهلية وقصدت باب ذلك الخباء فرأيت فيه شاباً لا نبات بعارضيه وهو كأنه هلال وعن يمينه جارية هيفاء كأنها قضيب بان، فلما نظرت إليها وقعت محبتها في قلبي فسلمت على ذلك الشاب فرد علي السلام فقلت: يا أخا العرب أخبرني من أنت وما تكون لك تلك الجارية التي عندك؟ فأطرق الشاب رأسه إلى الأرض برهة ثم رفع رأسه وقال: أخبرني من أنت وما الخيل التي معك؟ فقلت: أنا حماد بن الفزاري الفارس الموصوف الذي أعد بين العرب بخمسمائة فارس ونحن خرجنا من محلنا نريد الصيد والقنص فأدركنا العطش فقصدت أنا باب تلك الخيمة لعلي أجد عندكم شربة ماء.

فلما سمع مني ذلك الكلام التفت إلى جارية مليحة وقال: ائتني إلى هذا الرجل بالماء وما حصل من الطعام فقامت الجارية تسحب أذيالها والحجال الذهب تخشخش في رجليها وهي تتعثر في شعرها وغابت قليلاً ثم أقبلت وفي يدها اليمنى إناء من فضة مملوء ماء بارد وفي يدها اليسرى قدح ملآن تمراً ولبناً وما حضر من لحم الوحوش فما استطعت أن آخذ من الجارية طعاماً ولا شراباً من شدة محبتي لها فتمثلت بهذين البيتين وقلت:


كأن الخضاب على كـفـهـا
غراب على ثـلـجة واقـف
ترى الشمس والبدر من وجهها
قريبـين خـاف وذا خـائف

ثم قلت للشاب بعد أن أكلت وشربت: يا وجه العرب اعلم أني أوقفك على حقيقة خبري وأريد أن تخبرني بحالك وتوقفني على حقيقة خبرك، فقال الشاب: أما هذه الجارية فهي أختي فقلت: أريد أن تزوجني بها طوعاً وإلا أقتلك وآخذها غصباً، فعند ذلك أطرق الشاب رأسه إلى الأرض ساعة ثم رفع بصره إلي وقال لي: لقد صدقت في دعواك أنك فارس معروف وبطل موصوف وأنك أسد البيداء ولكن إن هجمتم علي غدراً وقتلتموني قهراً وأخذتم أختي فإن هذا يكون عاراً عليكم، وإن كنتم على ما ذكرتم من أنكم فرسان تعدون من الأبطال ولا تبالون بالحرب والنزال فأمهلوني قليلاً حتى ألبس آلة حربي وأتقلد سيفي وأعتقل برمحي وأركب فرسي وأصير وإياكم في ميدان الحرب فإن ظفرتم بي وقتلتموني فهذه الجارية أختي لكم.

فلما سمعت منه هذا الكلام قلت له: إن هذا هو الإنصاف وما عندنا خلاف، ثم رددت رأس جوادي إلى خلفي وقد زاد بي الجنون في محبة تلك الجارية ورجعت إلى أصحابي ووصفت لهم حسنها وجمالها وحسن الشاب الذي عندها وشجاعته وقوة جنانه وكيف أنه يصادم ألف فارس، ثم أعلمت أصحابي بجميع ما في الخباء من الأموال والتحف وقلت لهم: اعلموا أن هذا الشاب ما هو منقطع في تلك الأرض إلا لكونه ذا شجاعة عظيمة وأنا أوصيكم أن كل من يقتل هذا الغلام يأخذ أخته، فقالوا: رضينا بذلك، ثم إن أصحابي لبسوا آلة حربهم وركبوا خيولهم وقصدوا الغلام فوجدوه قد لبس آلة حربه وركب جواده ووثبت إليه أخته وتعلقت بركابه وبلت برقعها بدموعها وهي تنادي بالويل والثبور من خوفها على أخيها وتنشد هذه الأبيات:


إلى **** أشكـو مـحـنة وكـآبة
لعل إله العرش يرهقهم رعبـا
يريدون قتلاً يا أخـي تـعـمـدا
ولا شيء من قبل القتال ولا ذنبا
وقد عرف الأبطال أنـك فـارس
وأشجع من حل المشارق والغربا
تحامي من الأخت التي قل عزمها
فأنت أخوها وهي لك تدعو الربّا
فلا تترك الأعداء تملك مهجتـي
وتأخذني قهراً وتأسرني غصبـا
ولست وحق **** أبقـى بـبـلـدة
وأسكن لحداً فيه أفترش التربـا

فلما سمع أخوها شعرها بكى بكاءً شديداً ورد جواده إلى أخته وأجابها على شعرها بقوله:


قفي وانظري مني وقوع عجائب
إذا ما التقينا حين أثخنهم صربا
وإن برز الليث المقـدم فـيهـم
وأشجعهم قلباً وأثبتـهـم لـبـا
سأسقيه مني ضربة ثعـلـبـية
وأترك الرمح يستغرق الكعبـا
وإن لم أقاتل عنك أختي فليتني
قتيل وليت الطير تنهبني نهبا
أقاتل عنك ما استطعت تكرما
هذا حديث بعدنا يملأ الكتبـا

فلما فرغ من شعره قال: يا أختي اسمعي ما أقول لك وما أوصيك به، فقالت له: سمعاً وطاعة، فقال لها: إن هلكت فلا تمكني أحداً من نفسك، فعند ذلك لطمت على وجهها وقالت: معاذ **** أن أراك صريعاً وأمكن الأعداء مني، فعند ذلك مد الغلام يده إليها وكشف برقعها عن وجهها فلاحت لنا صورتها كالشمس من تحت الغمام فقبلها بين عينيها وودعها وبعد ذلك التفت وقال لنا: يا فرسان هل أنتم ضيفان أو تريدون الضرب والطعان، فإن كنتم ضيفاناً فأبشروا بالقرى وإن كنتم تريدون القمر الزاهر فليبرز لي منكم فارس بعد فارس في هذا الميدان ومقام الحرب والطعان، فعند ذلك برز إليه شجاع فقال له الشاب: ما اسمك وما اسم أبيك فإني حالف أني ما أقتل من اسمه موافق لاسمي واسم أبيه موافق لاسم أبي، فإن كنت بهذا الوصف فقد سلمت إليك الجارية، فقال له الفارس: اسمي بلال فأجابه الشاب بقوله:


كذبت في قولك مـن بـلال
وجئت بالزور وبالمـحـال
إن كنت شهماً فاستمع مقالي
مجندل الأبطال في المجـال
وصارمي ماض كما الهلال
فاصبر لطعن مرجف الجبال
ثم حملا على بعضهما فطعنه الشاب في صدره فخرج السنان من ظهره ثم برز إليه واحد فقال الشاب:

يا أيها الكلب وخيم الرجـس
فأين عال سعره من بخـس
وإنما الليث الكريم الجنـس
من لم يبال في الوغى بنفس

ثم لم يمهله الشاب دون أن تركه غريقاً في دمه، ثم نادى الشاب هل من مبارز؟ فبرز إليه واحد فانطلق على الشاب وجعل يقول:


إليك أقبلت وفي قلبي لـهـب
منه أنادي عند صحبي بالحرب
لما قتلت اليوم سادات العـرب
فاليوم لا تلقى فكاكاً منطلب

فلما سمع الشاب كلامه أجاب بقوله:

كذبت بئس أنت من الشيطان
قد جئت بالزور والبهتـان
اليوم تلقى فاتك الـسـنـان
في موقف الحرب والطعان
ثم طعنه في صدره فطلع السنان من ظهره، ثم قال: هل من مبارز؟ فخرج إليه الرابع وسأله الشاب عن اسمه فقال له الفارس: اسمي هلال فأنشد يقول:

أخطأت إذا أردت خوض بحري
وجئت بالزور وكـل أمـري
أنا الذي تسمع مني شـعـري
أختلس النفس ولسـت تـدري

ثم حملا على بعضهما واختلف بينهما ضربتا فكانت ضربة الشاب هي السابقة إلى الفارس فقتله وصار كل من نزل إليه يقتله، فلما نظرت أصحابي قد قتلوا قلت في نفسي: إن نزلت إليه في الحرب لم أطقه وإن هربت أبقى معيرة بين العرب، فلم يمهلني الشاب دون أن انقض علي وجذبني بيده فأطاحني من سرجي فوقعت مغشياً علي ورفع سيفه وأراد أن يضرب عنقي فتعلقت باذياله فحملني بكفه فصرت معه كالعصفور، فلما رأت ذلك الجارية فرحت بفعل أخيها وأقبلت عليه وقبلته بين عينيه، ثم إنه سلمني إلى أخته وقال لها: دونك وإياه وأحسني مثواه لأنه دخل في زمامنا، فقبضت الجارية على أطواق درعي وصارت تقودني كما تقود الكلب وفكت عن أخيها لامة الحرب وألبسته بدلة ونصبت له كرسياً من العاج فجلس عليها وقالت له: بيض **** عرضك وجعلك عدة للنائبات فأجابها بهذه الأبيات:


تقول وقد رأت في الحرب أختي
لوامع غرتي مثل الـشـعـاع
ألا لـلـه درك مـن شـجـاع
تذل لحربـه أسـد الـبـقـاع
فقلت لها سلي الأبطال عـنـي
إذا ما فـر أربـاب الـقـراع
أنا المعروف في سعدي وجـدي
وعزمي قد علا أي ارتـفـاع
أيا حماد قد نـازلـت جـيشـاً
يريك الموت يسعى كالأفاعـي

فلما سمعت شعره حرت في أمري ونظرت إلى حالتي وما صرت إليه من الأسر وتصاغرت إلى نفسي، ثم نظرت إلى الجارية أخت الشاب وإلى حسنها فقلت في نفسي: هذه الفتنة وصرت أتعجب من جمالها، وأجريت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:


خليلي كف عن لومي وعذلي
فإنني للـمـلامة غـير واع
كلفت بـغـادة لـم تـبـد إلا
أن دعتني في محبتها الدواعي
أخوها في الهوى أمسى رقيبي
وصاحب همة وطويل بـاع
ثم إن الجارية أحضرت لأخيها الطعام فدعاني إلى الأكل معه ففرحت وأمنت على نفسي من القتل، ولما فرغ أخوها من الأكل أحضرت له آنية المدان، ثم إن الشاب أقبل على المدان وشرب حتى شعشع المدام في رأسه واحمر وجهه، فالتفت إلي وقال: أنا عابد بد تميم بن ثعلبة، إن **** وهب لك نفسك وأبقى عليك عرسك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أن البدوي حماد قال: ثم أن عابد بن تميم بن ثعلبة قال لي: إن **** وهب لك نفسك وأبقى عليك عرسك وحياني بقدح شربته وحياني بثان وثالث ورابع فشربت الجميع ونادمني وحلفني أني لا أخونه فحلفت له ألفاً وخمسمائة يمين أني لا أخونه قط بل أكون له معيناً. فعند ذلك أمر أخته أن تأتيني بعشر خلع من الحرير وهذه بدلة منها على جسدي وأمرها أن تأتيني بناقة من أحسن النياق فاتتني بناقة محملة من التحف والزاد وأمرها أن تحضر لي الحصان الأشقر فأحضرته لي ثم وهب لي جميع ذلك وقمت عندهم ثلاثة أيام قال لي: يا أخي حماد أريد أن أنام قليلاً لأريح نفسي وقد استأمنت على نفسي وإن رأيت خيلاً ثائرة فلا تفزع منها واعلم أنهم من ثعلبة يطلبون حربي، ثم توسد رأسه ونام.

فلما استغرق في النوم وسوس لي إبليس بقتله فقمت بسرعة وجذبت سيفه من تحت رأسه وضربته ضربة أطحت رأسه عن جثته فعلمت بي أخته فوثبت من جانب الخباء ورمت بنفسها على أخيها وشقت عليها الثياب وأنشدت هذه الأبيات:

إلى الأهل بلغ ذا الشآم الـخـبـر وما لامرئ مما الحكيم قضى مفر
وأنت صريع يا أخي متـجـنـدل ووجهك يحكي حسنه دورة القمر
لقد كان يوم الشؤم يوم لـقـبـتـه ورمحك بعد اطراد قد انكـسـر
وبعدك لا يرتاح للـخـيل راكـب ولا تلد الأنثى نظيرك مـن ذكـر
وأصبح حماد لـك الـيوم قـاتـلاً وقد خان أيماناً وبالعهد قد غـدر
يريد بـهـذا أن ينـال مــراده لقد كذب الشيطان في كل ماأمر

فلما فرغت من شعرها قالت: يا ملعون الجدين لماذا قتلت أخي وخنته وكان مراده أن يردك إلى بلادك بالزاد والهدايا وكان مراده أن يزوجني لك في أول الشهر، ثم جذبت سيفاً كان عندها وجعلت قائمه في الأرض وطرفه في صدرها وانحنت عليه حتى طلع من ظهرها فخرت على الأرض ميتة فحزنت عليها وندمت حيث لا ينفع الندم وبكيت، ثم قمت مسرعاً إلى الخباء وأخذت ما خف حمله وغلا ثمنه وسرت إلى حال سبيلي، ومن خوفي وعجلتي لم ألتفت إلى أحد من أصحابي ولا دفنت الصبية ولا الشاب، وهذه الحكاية أعجب من حكايتي الأولى مع البنت الخادمة التي خطفتها من بيت المقدس.

فلما سمعت نزهة الزمان من البدوي هذا الكلام تبدل النور في عينيها بالظلام وقامت وجردت السيف وضربت به البدوي على عاتقه فأطلعته من علائقه فقال لها الحاضرون: لأي شيء استعجلت على قتله؟ فقالت: الحمد *** الذي فسح من أجلي حتى أخذت ثأري بيدي، ثم أنها أمرت العبيد أن يجروه من رجليه ويرموه للكلاب وبعد ذلك أقبلوا على الاثنين الباقيين من الثلاثة وكان أحدهم عبداً أسود فقالوا له: ما اسمك أنت فأصدقنا في حديثك قال: اسمي الغضبان وأخبرهم بما وقع له مع الملكة ابريزة بنت الملك حردوب ملك الروم وكيف قتلها وهرب، فلم يتم العبد كلامه حتى رمى الملك رومزان رقبته بالحسام وقال: الحمد *** الذي أحياني وأخذت ثأر أمي بيدي وأخبره أن دايته مرجانة حكت له عن هذا العبد الذي اسمه الغضبان، وبعد ذلك أقبلوا على الثالث وكان هو الجمال الذي اكتراه بيت المقدس إلى حمل ضوء المكان وتوصيله إلى المارستان الذي في دمشق الشام فذهب به وألقاه في المستوقد وذهب في حال سبيله، ثم قالوا له: أخبرنا أنت بخبرك وأصدق في حديثك فحكى لهم جميع ما وقع له مع السلطان ضوء المكان وكيف حمله من بيت المقدس بالدراهم وهو ضعيف على أن يوصله إلى الشام ويرميه بالمارستان وكيف جاء له أهل المقدس بالدراهم فأخذها وهرب بعد أن رماه في مستوقد الحمام.

فلما أتم كلامه أخذ السلطان كان ما كان السيف وضربه فرمى عنقه وقال: الحمد *** الذي أحياني حتى جازيت هذا الخائن بما فعل مع أبي، فإني قد سمعت هذه الحكاية بعينها من والدي السلطان ضوء المكان، فقال الملوك لبعضهم: ما بقي علينا إلا العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي فإنها سبب هذه البلايا حيث أوقعنا في الرزايا ومن لنا بها حتى نأخذ منها الثأر ونكشف العار، فقال لهم الملك رومزان عم كان ما كان: لا بد من حضورها ثم إن الملك رومزان كتب كتاباً من وقته وساعته وأرسله إلى جدته العجوز شواهي الملقبة بذات الدواهي وذكر لها فيه أنه غاب عن مملكته دمشق والموصل والعراق وكسر عسكر المسلمين وأسر ملوكهم وقال: أريد أن تحضري عندي من كل بد أنت والملكة صفية بنت الملك أفريدون ملك القسطنطينية ومن شئتم من أكابر النصارى من غير عسكر، فإن البلاد أمان لأنها صارت تحت أيدينا.

فلما وصل الكتاب إليها وقرأته وعرفت خط الملك رومزان فرحت فرحاً شديداً وتجهزت من وقتها وساعتها للسفر هي والملكة صفية أم نزهة الزمان ومن صحبتهم ولم يزالوا مسافرين حتى وصلوا إلى بغداد فتقدم الرسول وأخبرهم بحضورها فقال رومزان: إن المصلحة تقتضي أن نلبس اللبس الإفرنجي ونقابل العجوز حتى نأمن من خداعها وحيلها فقالوا سمعاً وطاعة ثم أنهم لبسوا لباس الإفرنج فلما رأت ذلك قضي فكان قالت: وحق الرب المعبود لولا أني أعرفكم لقلت أنكم إفرنج، ثم إن الملك رومزان تقدم أمامهم وخرجوا يقابلون العجوز في ألف فارس، فلما وقعت العين على العين ترجل رومزان عن جواده وسعى إليها فلما رأته وعرفته ترجلت إليه وعانقته ففرط بيده على أضلاعها حتى كاد أن يقصفها فقالت: ما هذا؟ فلم تتم كلامها حتى نزل إليها كان ما كان والوزير دندان وزعقت الفرسان على من معها من الجواري والغلمان وأخذوهم جميعهم ورجعوا إلى بغداد وأمرهم رومزان أن يزينوا بغداد فزينوها ثلاثة أيام، ثم أخرجوا شواهي الملقبة بذات الدواهي وعلى رأسها طرطور أحمر مكلل بروث الحمير وقدامها مناد ينادي: هذا جزاء من يتجارى على الملوك وعلى أولاد الملوك ثم صلبوها على باب بغداد.

ثم إن كان ما كان وعمه رومزان ونزهة الزمان والوزير دندان تعجبوا لهذه السيرة العجيبة وأمروا الكتاب أن يؤرخوها في الكتب حتى تقرأ من بعدهم وأقاموا بقية الزمان في ألذ عيش وأهنأه إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وهذا آخر ما انتهى إلينا من تصاريف الزمان بالملك عمر النعمان وولده شركان وولده ضوء المكان وولده كان ما كان ونزهة الزمان وقضي فكان، ثم إن الملك قال لشهرزاد: أشتهي أن تحكي لي شيئاً من حكاية الطيور، فقالت: حباً وكرامة فقالت لها أختها: لم أر الملك في طول هذه المدة انشرح صدره غير هذه الليلة وأرجو أن تكون عاقبتك معه محمودة.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

مواضيع متشابهه المنتدى التاريخ
ج قصص غير جنسية 0 207
ج قصص غير جنسية 0 95
ج قصص غير جنسية 0 144
ج قصص غير جنسية 0 80
ج قصص غير جنسية 0 134
ج قصص غير جنسية 0 100
ج قصص غير جنسية 0 112
ج قصص غير جنسية 0 330
ج قصص غير جنسية 0 113
ج قصص غير جنسية 0 118

مواضيع متشابهه

أعلى أسفل