ج
جدو سامى 🕊️ 𓁈
عنتيل زائر
غير متصل
نبذة عن مسرحية فى انتظار جودو Waiting for Godot
مسرحية "فى انتظار جودو" هى أولى مسرحيات الكاتب الطليعى، الأيرلندى "الأصل" الإنجليزى "النشأة" الفرنسى بحكم إقامته شبه الدائمة وانتمائه إلى الحركة الثقافية فى فرنسا. صامويل بيكيت هى أولى مسرحياته وهى ايضاً أكثرها رواجاً على المسرح وفى النشر وفى الترجمة إذ ترجمت إلى قرابة عشرين لغة فى أعقاب صدورها. فلماذا حققت المسرحية هذه الاستجابة المباشرة السريعة...؟
لقد عرضت مسرحية فى انتظار جودو لأول مرة فى باريس سنة 1953 فى السنوات الحرجة التى أعقبت الحرب والتى مازلنا نعيشها على نحو ما، كتبت المسرحية فى جو عدم الثقة والخوف، وخيبة الأمل التى عاشتها أوروبا، وقد عادت الأمور إلى التأزم حتى قبل أن ينجلى غبار المعركة. تلك كانت السنوات العاصفة:
حصار برلين وكوريا والخطر الرهيب الذى عرف عندئذ لأول مرة، خطر الإبادة الشاملة : القنبلة الذرية. وتلك أيضاً سنوات ازدهار الفكر الوجودى – فالإنسان فى محنته قد لجأ إلى الفلسفة التى تجعل من محنة الإنسان محورها – السنوات التى كان الناس يقرءون فيها ويكتبون بحماس عن سارتر وعن كامى وعن سيمون دى بوفوار - سنوات "الابواب الموصدة" وحالة الحضارة و"المثقفون" – تلك الأعمال التى يجمعها على تباينها منطلق واحد هو إدراك عبث الحياة ومسايرة الوضع الإنسانى.
فى هذه الظروف ظهرت مسرحية "فى انتظار جودو" ولسوف نشعر فى المسرحية أن بيكيت قد تأثر بمعاصريه من الوجوديين حتى أن الناقد المسرحى الكبير "اريك بنتلى" يقول إنها مسرحية تتضمن خلاصة الفكر الوجودى. لقد كان يمكن أن يكتبها سارتر."ولسوف تشعر فى مسرحية فى "انتظار جودو" أن كثيراً من الافكار المـسيحية أصداؤها فى ثنايا العمل، وإن كان يجب أيضاً منذ البدء أن نحذر من أى تفسيرات شاملة للنص مبنية على أفكار مسبقة تفقد هذا العمل كثيراً من جوانبه الثرية آن لنا أن ننشد فهمه من خلال وجهة نظرنا – ولكن ليس لنا أن نقيده فى أسار تفسيرات ميكانيكية قد نطمئن إليها ولكن من شأنها أن تحرمنا من رؤية أوسع مدى . والحق أن الاطمئنان ليس هو بالذات طبيعة الشعور الذى يسعى مثل هذا العمل إلى أن يخلقه فى نفوسنا بل أنه القلق، والجهد الذاتى من المتفرج أو القارئ ليلتقى مع الكاتب التقاء مباشراً على محاولة استجلاء النص من خلال النص ذاته دون أن نقحم أية أفكار مسبقة...
وليس فى مسرحية "فى انتظار جودو" ثمة أحداث تروى. فلقد ضحى صامويل بيكيت بالعنصر الدرامى، وبالقاعدة الأرسطوطالية قاعدة البداية والوسط والنهاية – وهذا يتفق مع الهدف الذى يرمى إليه والذى يكرره مرات عديدة على لسان شخصياته إذ يقول "لا شىء يحدث" ومن ثم فليست هناك بداية أو نهاية. ولقد استعاض بيكيت عن هذا العنصر الدرامى بما يمكن أن نسميه بالصياغة المسرحية البارعة: بالبانتوميم أو الأداء الصامت، وبالطاقة الشاعرية للحوار ثم أساساً بالمواقف الكوميدية البارعة وبيكيت هنا يحمل أمانة التراث الأيرلندى العريق – تراث وايلد، وشو، وسينج، وأوكيزى، فهو كاتب كوميدى من الطراز الأول يشيع فى حواره الفكاهة والتهكم وحتى النكتة اللفظية وهو يسمى مسرحيته "ملهاة مفجعة" (تراجيكوميدى) فيشير بذلك إلى أن حياة الإنسان هى مأساة مفجعة أو إن كانت المهزلة فى باطن المأساة.
وتدور المسرحية فى فصلين لا يتغير فيهما المنظر والمنظر هو طريق مفقر ليس فيه سوى شجرة جرداء وهكذا فإننا منذ اللحظة الأولى لارتفاع الستار نواجه فكرة الإجداب التى ترادف عند معظم الكتاب – وكتاب المسرح بوجه خاص – فكرة عقم الحياة وعذاب الإنسان فى منفاه على الأرض. ونلتقى فى هذه البقعة الجرداء باثنين من المتشردين هما استراجون وفلاديمير، وهما يذكران المرء بثنائى التهريج المعروف فى السيرك، أو بلوريل وهاردى وأضرابهما.
ونحن نعلم مما يدور بينهما من حوار، إنهما مرتبطان ببعضهما ارتباطاً دام زمناً طويلاً، وأنهما يفكران دائماً فى الانفصال عن بعضهما ولكنهما لا يستطيعان كما يقول فلاديمير : (البشرية هى نحن فى هذا المكان، وفى هذه اللحظة من الزمان) فهما مأسوران إلى بعضهما بحتمية الاجتماع البشرى الذى قد يتوق الانسان الى الخلاص منه، ولكنه لا يستطيع منه فكاكاً وفلاديمير هو أعقل الاثنين منذ اللحظة الأولى. فاستراجون كما نعلم يقع دائماً ضحية عدوان فى الليل – إذ يضربه معتدون مجهولون – وقدمه دائماً تولمه بسبب حذائه الضيق واهتماماته قاصرة على آلامه، وعلى طعامه، وعلى نومه – وهو كما يصف نفسه (شاعراً) يدرك الأمور بوجدانه- أما فلاديمير فهو رجل مفكر وعقله مشغول دائماً بمناقشة الآراء.
ولككنه لا يخلو من الآلام الجسدية أيضاً. فهو يعانى من اضطرابات فى أمعائه تضطره دائماً إلى أن يهرول خارج المسرح. يلتقى فلاديمير واستراجون فى عصر كل يوم فى تلك البقعة القحلة لينتظرا من يدعى "جودو".
وهو شخص ما نعرف أن فى يده خلاصيهما مما يعانيان من ألوان الشقاء . وقد وعد جازماً أن يأتى ولكنه لم يحدد الوقت، ولذا فإن وصوله متوقع فى أية لحظة. وفى خلا انتظار استراجون وفلاديمير نجد أن المشكلة الرئيسية التى تواجههما هى: كيف يقضيان الوقت؟ كيف يعيشان إلى أن يحين وقت خلاصهما، وفلاديمير يحاول فى أول مسرحية أن يجذب انتباه زميله الى قصة استلفتت نظره فى الأناجيل – هى قصة اللصين المصلوبين اللذين وعد السيد المـسيح أحدهما بالخلاص؛ لأنه آمن وأدان الآخر؛ لأنه رفض أن يؤمن – ويحاول فلاديمير أن يستخرج من هذه القصة معنى عاماً وهو أن أمل البشرية فى الخلاص مساو لمصير اللصين: خمسون فى المائة. ويرفض استراجون أن يجارى فلاديمير فى اهتمامه بهذه الفكره ويذهب لينام،ولكن فلاديمير لا يحتمل الوحدة فيوقظه وإن كان يرفض بعد ذلك أن يستمع إلى حمله المزعج ؛ فإن تكن الوحدة مستحيلة فإن المشاركة الكاملة أيضاً مستحيلة وعلى كل إنسان أن يحتمل كابوسه الخاص . ويقترح استراجون كالعادة أن ينفصلا – ثم يعدلا عن ذلك ويواجهان من جديد مشكلة الانتظار والملل . ويقترح استراجون – كحل – ان ينتحرا ولكنهما لا يستطيعان ذلك ايضاً ولا يبقى أمامهما الا ان ينتظرا جودو الذى تخليا له عن جميع حقوقهما – حتى حق البهجة والضحك – فى مقابل وعد منه بالمعونة.
وبينما ينتظران جودو على المسرح شخصيتان جديدتان:
بوزو، وهو شخصية رهيبة متسلطة، يسوق أمامه تابعه " لاكى الذى يحمل متاعه، بواسطة حبل مربوط فى عنقه .. ويختلف النقاد المسرحيون اختلافاً شديداً فى تفسير هاتين الشخصيتين – فهما عند البعض "السيد" و "العبد" وعند البعض الآخر "المضحى" و"المضحى فى سبيله" وعند آخرين "القوة" و "العقل" ونكتفى نحن بأننشير إلى أن شخصيات المسرحية هى تعبير عن مواقف الحياة أكثر منها رموزاً – فنحن أن التقينا بفلاديمير واستراجون المرتكنين على وعد الخلاص نلتقى ببوزو، وهو الرجل القوى الذى لا تشغله فكرة الخلاص، والذى يعلن أن الأرض ملكه، ويستنكر أن ينتظر أحد جودو فوق أرضه – أما لاكى التابع الذليل للرجل القوى – فهو لم ينطق بكلمة واحدة منذ أن ظهر على المسرح إلا عندما وضعت القبعة فوق رأسه، وطلب إليه أن يفكر فهو إذاً رجل الفكر الخالص الذى يسعى إلى أن يفسر كل شىء بالعقل وحده – صحيح أنه يفشل فى ذلك، وأن كلامه يبدو لنا متناقضاً ومضحكاً، ولكن هذا يتفق وما يريد بيكيت أن يذهب إليه من انهيار سلطان العقل كما سنرى فيما بعد.
إن بوزو، وإن كان يظهر لنا عند دخوله فى الفصل الاول قوياً مرهوب الجانب إلا أنه يحمل هو أيضاً بوادر انهياره – وأول هذه البوادر هو اعتماده على عبده لاكى فى كل شئون حياته – وثانيهما حاجته الدائمة إلى صحبة الآخرين والتى تجعله بعد دخوله العاصف يرجو ويلح على استراجون وفلاديمير أن يبقيا معه، وثالث هذه البوادر حاجته المستمرة إلى أن يبرز نفسه وإلى أن يؤكد ذاته – ويتمثل ذلك عنده فى رغبته فى أن يكون بليغاً وشاعرياً. ويخبرنا بوزو أن كل الأفكار التى لديه إنما علمها إياه لاكى مفكره أو عقله إذاً فقد دخلته أيضاً جرثومة الفكر بالإضافة إلى كل ذلك. وهو يخبرنا بأنه قد ضاق ذرعاً بتابعه وأنه يريد التخلص منه ولكننا نشك فى أنه سيفعل.
وعندما تنقضى فترة على وجود بوزو ويشغل استراجون وفلاديمير لفترة يفقدان اهتمامهما به ويعود الملل يستبد بهما – وعندئذ يقترح عليهما بوزو أن يرد إليهما صنيعهما بأن يستمعا إلى لاكى وهو يفكر ويستهويهما الاقتراح ، وتوضع القبعة فوق رأسه، ويفكر لاكى بصوت عال تفكيراً غريباً – يقول خطبة طويلة مفككة لا معنى لأية عبارة منها على حدة، ويرفض أن يكف عن الكلام رغم استنكار فلاديمير واستراجون واحتجاجهما على كلامه غير المفهوم أنه ليبدو وكأن العقل – وقد شاخ – اختلطت فيه كل الأفكار ببعضها دون ترتيب أو تنسيق. ولكننا رغم ذلك نستطيع أن نستشف من خطاب لاكى سخرية مريرة من الفكر الأوروبى، ومنهاجه – ومن منجزات هذا الفكر فى الفلسفة واللاهوت والعلم، وهو لا يوحى إلينا بإفلاس هذا الفكر فحسب بل إنه ليوشك أن يتنبأ فى نهاية خطابه بانهيار حضارة هذا الفكر، ويخبرنا وسط عباراته المضطربة بأن الإنسان "يضمر ويضمحل" ثم يوشك أن يلمح فى نهاية حديثه إلى خطر فناء شامل بتكراره لكلمة "الجمجمة".
ولا يكف لاكي عن سيل أفكاره التى تشبه ألحاناً تتكرر آلياً فى أسطوانة قديمة مشروخة إلا عندما تنزع القبعة من فوق رأسه فى عراك يشتبك فيه الجميع ... وفى خلال هذا العراك يفقد بوزو ساعته – ويوحى إلينا بيكيت بهذا أنه بانهيار العقل والفكر يفقد الزمن مدلوله.
وعندما يخرج بوزو أخيراً بعد تردد طويل وهو يسوق أمامه لاكى يبقى استراجون وفلاديمير ويدخل غلام نعرف أنهما قد رأياه من قبل يتوقعان وصوله – بل وإنهما يعرفان مضمون رسالته. أما رسالته فهى أن جودو لن يصل اليوم، ولكنه سيأتى فى اليوم التالى بالتأكيد. و لا يبقى أمام استراجون وفلاديمير إلا أن ينصرفا ويعلنا أنهما ذاهبان ولكن الستار يسدل وهما فى مكانهما – لا يتحركان.
ويبدأ الفصل الثانى فى اليوم التالى فى نفس الموعد والمكان . يبدأ بفلاديمير وحده يحاول أن يسرى عن نفسه بأغنيته عن كلب سرق قطعة من الخبز فضربه الطباخ حتى مات. وتدور معانى هذه الأغنية حول الحرمان والقوة والموت – وهى أفكار تتكرر بصورة أو بأخرى فى خلال المسرحية كلها. ثم يدخل استراجون المسرح بعد قليل وهو فى حالة نفسية سيئة، لقد ضربه معتدون مجهولون كالمعتاد، ولقد نسى كل شىء عن الأمس كالمعتاد. إنها نفس الأشياء القديمة. إنها نفس الحياة المملة. دورة الأشياء المألوفة التى تتعاقب يوماً بعد يوم دون معنى أو هدف وتثور ثائرة استراجون عندما ينبه فلاديمير إلى أن الشجرة قد أنبتت بضع أوراق ويقول لصاحبه "لقد عشت طوال حياتى القذرة زاحفاً فى الطين وأنت تتحدث إلى عن المناظر الجميلة. أنت ومناظرك. حدثنى عن الديدان..".
وهنا يذكر المرء على الفور ما يقوم به بعض الوجوديين الذين يضعون فى مقابل فكرة عبث الحياة فكرة قيمة "الحياة فى ذاتها"أو فكرة الجمال والبهجة الحسية – ثم يبدو لنا أن بيكيت يرفض هذا الاتجاه فى جملة ما يرفض.
وتمضى المسرحية بعد ذلك فى جزء من أهم أجزائها، إذ يحاول استراجون وفلاديمير أن يفعلا شيئاً ما، أى شىء ولكنهما يفشلان. يفشلان فى تبادل الحديث وفى ممارسة هوايتهما المفضلة بتكرار المصادفات التى توحى بإفلاس اللغة كوسيط للفكر – ويفشلان فى أن يمزحا معا، ويفشلان فى أن يلعبا الرياضة – إنهما يدكان سخف ما يفعلان، ويجعل هذا الوعى من كل نشاط عبثاً لا معنى له ويصف فلاديمير هذا إذ بعد حين يقول لصديقه "إننا ننتظر ونحس بالملل .. كلا لا تحتج، نحن نحس بالملل حتى الموت وليس هناك مجال لإنكار هذا، ويقول إن الساعات طويلة فى مثل هذه الظروف، وإنها تضطرنا إلى قضائها فى أمال قد تبدو للوهلة الاولى اعمالاً معقولة إلى أن تصبح عادة من العادات. ونحن عندما نتأمل هذه العادات التى يتكلم عنها فلاديمير – عندما نتأمل العادات عموماً – نكتشف العبث وانعدام المعنى الكامنين فيها.
ووسط هذا الملل القاسى يدخل بوزو مرة أخرى وهو يسوق أمامه لاكى – بوزو أعمى وضعيف كما أن لاكى الآن أصم وأبكم – والحبل الذى يسوق ب بوزو لاكى قد صار أقصر من ذى قبل – إن قبل الرجل المفكر. وهو هنا ينهار انهياراً مادياً فهو يتعثر ويسقط على المسرح مع تابعه، ويعجزان عن النهوض ويصرخ بوزو طالباً النجدة .. ويقترح استراجون أن يعيناه على النهوض لقاء أجر معين ويرفض فلاديمير هذا ويقترح أن يعيناه بلا مقابل "فنمر الغابة يهب لمساعدة أقرانه بلا تردد" ولكن فلاديمير يمضى فى تبرير وجهة نظره الإنسانية زمناً طويلاً حتى ينسى فى النهاية ماذا كان يريد أن يفعل بينما بوزو ما زال يصرخ طالباً النجدة وأخيراً يتقدم فلاديمير واستراجون لمساعدة بوزو ولاكى فيسقطان هما أيضاً ويعجزان عن النهوض: إنهما حتى حينما اقتنعا بقيمة المساعدة وحاولا أن يساعدا عجزا عن ذلك. هو سقوط رمزى عجز الإنسان فيه أن يمد يده بالمعونة للإنسان، وبرزت الحاجة إلى عون خارجى تلمسه استراجون فى سحابة عابرة، ولكن هذا العون لم يصل. وأخيراً يرفض فلاديمير واستراجون إلا أن ينهضا بمجهودهما الخاص ويساعدان بوزو على النهوض ...
ويسال فلاديمير بوزو متى فقد بصره فتثور ثائرة بوزو ويقول لسانه "متى .. متى فى يوم ما .. أليس هذا كافياً بالنسبة إليك؟ فى يوم ما مثل غيره من الأيام . فى يوم ما أصبح لاكى أبكم، فى يوم ما أصبحت كفيفاً، فى يومما ستصير اسماً، فى يوم ما ولدنا، فى يوم ما سنموت.. ألا يكفيك هذا! إنهن يلدننا إلى جانب القبر فيومض الفجر للحظة من الزمان ثم يهبط الليل من جديد ...
إذا فقد فقد الزمن معناه عندما جرد من تتابعه الآلى، وأصبحنا نعى أن هناك خلف التغير الدائم للأشكال لوناً من الجمود المطلق والثبات حيث لا شىء يحدث.
وهكذا فإنه عندما يخرج لاكى يبقى فلاديمير واستراجون فى نقطة البدء . فى نفس النقطة، فى انتظار جودو، ويغفو استراجون بينما يستبد القلق بفلاديمير وتعذبه هذه الفكرة التى عرضها بوزو فيقول لنفسه: "عندما استيقظ مع صديقى استراجون وننتظر جودو هل نقول إن بوزو قد مر من هنا وتحدث إلينا؟ ربما .. ولكن أى حقيقة ستكمن فى هذا القول .. إن "استراجون" لن يعرف شيئاً سوف يحدثنى عن الضربات التى تلقاها وسوف أعطيه جزرة وسيستمر كل شىء كما كان.
ويستمر كل شىء كما كان بالفعل فيأتى الغلام **** جودو ويبلغ نفس الرسالة أن جودو لن يأتى ولكنه سيأتى فى الغد ولن يخلف موعده ... نفس الرسالة ونفس ردود الفعل، أسئلة للغلام،وتفكير فى الانتحار. وعجز عن الانتحار.
وتنتهى المسرحية بفلاديمير وهو يطلب من استراجون أن يشد سرواله الذى تهدل، وبعبارة أخرى أن يواصل الحياة..
إن مسرحية فى انتظار جودو كما نرى عمل طموح فى نطاقها المحدود وبشخصياتها القليلة تسعى إلى أن تصور محنة الإنسان الشاملة فى أبعادها المختلفة، وينجح صامويل بيكيت بمقدرة فائقة على التركيز – شأن الكاتب المسرحى الموهوب، فى تحقيق هذا الغرض. ويبدو أن هذا هو اليقين الوحيد الذى يمكن الوصول إليه فيما يتعلق بالمسرحية. ولا يستطيع المرء أن يجزم بمثل هذه السهولة بما يشير إليه بيكيت فتجاوز هذا الوضع المأسوى – إن كان هذا يشير إلى أى طريق على الإطلاق – يترك الباب مفتوحاً عن عمد فيرى البعض فى موقفه رفضاً مطلقاً للحياة، ويرى آخرون أنه موقف شك وتردد، ويرى غيرهم أن المسرحية دعاء حار من أجل الخلاص ... حسناً؟ ...
لير كل ما يريد أن يراه – ولكن اللقاء المباشر بين الكاتب والقارىء كما ذكرنا – هو السبيل الوحيد إلى رؤيا أبعد مدى.
المصدر / كتاب - بهاء طاهر ناقداً مسرحياً
إعداد وتقديم / شعبان يوسف
ويمكننى أنا جدو سامى هنا أن أقول أن اسم جدو هو لقب تشريفى بالأساس بمعنى الحكمة لا بمعنى السن فأنا بالأربعين، وأظن ذلك لا يجعل منى عجوزا. وإن كان من بمثل عمرى بعضهم بالفعل لهم أحفاد. لكنه بالنسبة لى لقب تشريفى للدلالة على الحكمة كالشيخ أو الأب.
ويمكن أن يصبح جُدُو مثل البطل الذى ينتظره أبطال المسرحية ولكننى أتيت ولم أخلف الموعد. وبمعنى ومفهوم آخر أيضا لجودو أو جودوت يراه البعض...
ويمكن أن يصبح جَدُو من الجدية وكونى جاداً. ويمكن اعتبارى أيضا جورو Guru.
مسرحية "فى انتظار جودو" هى أولى مسرحيات الكاتب الطليعى، الأيرلندى "الأصل" الإنجليزى "النشأة" الفرنسى بحكم إقامته شبه الدائمة وانتمائه إلى الحركة الثقافية فى فرنسا. صامويل بيكيت هى أولى مسرحياته وهى ايضاً أكثرها رواجاً على المسرح وفى النشر وفى الترجمة إذ ترجمت إلى قرابة عشرين لغة فى أعقاب صدورها. فلماذا حققت المسرحية هذه الاستجابة المباشرة السريعة...؟
لقد عرضت مسرحية فى انتظار جودو لأول مرة فى باريس سنة 1953 فى السنوات الحرجة التى أعقبت الحرب والتى مازلنا نعيشها على نحو ما، كتبت المسرحية فى جو عدم الثقة والخوف، وخيبة الأمل التى عاشتها أوروبا، وقد عادت الأمور إلى التأزم حتى قبل أن ينجلى غبار المعركة. تلك كانت السنوات العاصفة:
حصار برلين وكوريا والخطر الرهيب الذى عرف عندئذ لأول مرة، خطر الإبادة الشاملة : القنبلة الذرية. وتلك أيضاً سنوات ازدهار الفكر الوجودى – فالإنسان فى محنته قد لجأ إلى الفلسفة التى تجعل من محنة الإنسان محورها – السنوات التى كان الناس يقرءون فيها ويكتبون بحماس عن سارتر وعن كامى وعن سيمون دى بوفوار - سنوات "الابواب الموصدة" وحالة الحضارة و"المثقفون" – تلك الأعمال التى يجمعها على تباينها منطلق واحد هو إدراك عبث الحياة ومسايرة الوضع الإنسانى.
فى هذه الظروف ظهرت مسرحية "فى انتظار جودو" ولسوف نشعر فى المسرحية أن بيكيت قد تأثر بمعاصريه من الوجوديين حتى أن الناقد المسرحى الكبير "اريك بنتلى" يقول إنها مسرحية تتضمن خلاصة الفكر الوجودى. لقد كان يمكن أن يكتبها سارتر."ولسوف تشعر فى مسرحية فى "انتظار جودو" أن كثيراً من الافكار المـسيحية أصداؤها فى ثنايا العمل، وإن كان يجب أيضاً منذ البدء أن نحذر من أى تفسيرات شاملة للنص مبنية على أفكار مسبقة تفقد هذا العمل كثيراً من جوانبه الثرية آن لنا أن ننشد فهمه من خلال وجهة نظرنا – ولكن ليس لنا أن نقيده فى أسار تفسيرات ميكانيكية قد نطمئن إليها ولكن من شأنها أن تحرمنا من رؤية أوسع مدى . والحق أن الاطمئنان ليس هو بالذات طبيعة الشعور الذى يسعى مثل هذا العمل إلى أن يخلقه فى نفوسنا بل أنه القلق، والجهد الذاتى من المتفرج أو القارئ ليلتقى مع الكاتب التقاء مباشراً على محاولة استجلاء النص من خلال النص ذاته دون أن نقحم أية أفكار مسبقة...
وليس فى مسرحية "فى انتظار جودو" ثمة أحداث تروى. فلقد ضحى صامويل بيكيت بالعنصر الدرامى، وبالقاعدة الأرسطوطالية قاعدة البداية والوسط والنهاية – وهذا يتفق مع الهدف الذى يرمى إليه والذى يكرره مرات عديدة على لسان شخصياته إذ يقول "لا شىء يحدث" ومن ثم فليست هناك بداية أو نهاية. ولقد استعاض بيكيت عن هذا العنصر الدرامى بما يمكن أن نسميه بالصياغة المسرحية البارعة: بالبانتوميم أو الأداء الصامت، وبالطاقة الشاعرية للحوار ثم أساساً بالمواقف الكوميدية البارعة وبيكيت هنا يحمل أمانة التراث الأيرلندى العريق – تراث وايلد، وشو، وسينج، وأوكيزى، فهو كاتب كوميدى من الطراز الأول يشيع فى حواره الفكاهة والتهكم وحتى النكتة اللفظية وهو يسمى مسرحيته "ملهاة مفجعة" (تراجيكوميدى) فيشير بذلك إلى أن حياة الإنسان هى مأساة مفجعة أو إن كانت المهزلة فى باطن المأساة.
وتدور المسرحية فى فصلين لا يتغير فيهما المنظر والمنظر هو طريق مفقر ليس فيه سوى شجرة جرداء وهكذا فإننا منذ اللحظة الأولى لارتفاع الستار نواجه فكرة الإجداب التى ترادف عند معظم الكتاب – وكتاب المسرح بوجه خاص – فكرة عقم الحياة وعذاب الإنسان فى منفاه على الأرض. ونلتقى فى هذه البقعة الجرداء باثنين من المتشردين هما استراجون وفلاديمير، وهما يذكران المرء بثنائى التهريج المعروف فى السيرك، أو بلوريل وهاردى وأضرابهما.
ونحن نعلم مما يدور بينهما من حوار، إنهما مرتبطان ببعضهما ارتباطاً دام زمناً طويلاً، وأنهما يفكران دائماً فى الانفصال عن بعضهما ولكنهما لا يستطيعان كما يقول فلاديمير : (البشرية هى نحن فى هذا المكان، وفى هذه اللحظة من الزمان) فهما مأسوران إلى بعضهما بحتمية الاجتماع البشرى الذى قد يتوق الانسان الى الخلاص منه، ولكنه لا يستطيع منه فكاكاً وفلاديمير هو أعقل الاثنين منذ اللحظة الأولى. فاستراجون كما نعلم يقع دائماً ضحية عدوان فى الليل – إذ يضربه معتدون مجهولون – وقدمه دائماً تولمه بسبب حذائه الضيق واهتماماته قاصرة على آلامه، وعلى طعامه، وعلى نومه – وهو كما يصف نفسه (شاعراً) يدرك الأمور بوجدانه- أما فلاديمير فهو رجل مفكر وعقله مشغول دائماً بمناقشة الآراء.
ولككنه لا يخلو من الآلام الجسدية أيضاً. فهو يعانى من اضطرابات فى أمعائه تضطره دائماً إلى أن يهرول خارج المسرح. يلتقى فلاديمير واستراجون فى عصر كل يوم فى تلك البقعة القحلة لينتظرا من يدعى "جودو".
وهو شخص ما نعرف أن فى يده خلاصيهما مما يعانيان من ألوان الشقاء . وقد وعد جازماً أن يأتى ولكنه لم يحدد الوقت، ولذا فإن وصوله متوقع فى أية لحظة. وفى خلا انتظار استراجون وفلاديمير نجد أن المشكلة الرئيسية التى تواجههما هى: كيف يقضيان الوقت؟ كيف يعيشان إلى أن يحين وقت خلاصهما، وفلاديمير يحاول فى أول مسرحية أن يجذب انتباه زميله الى قصة استلفتت نظره فى الأناجيل – هى قصة اللصين المصلوبين اللذين وعد السيد المـسيح أحدهما بالخلاص؛ لأنه آمن وأدان الآخر؛ لأنه رفض أن يؤمن – ويحاول فلاديمير أن يستخرج من هذه القصة معنى عاماً وهو أن أمل البشرية فى الخلاص مساو لمصير اللصين: خمسون فى المائة. ويرفض استراجون أن يجارى فلاديمير فى اهتمامه بهذه الفكره ويذهب لينام،ولكن فلاديمير لا يحتمل الوحدة فيوقظه وإن كان يرفض بعد ذلك أن يستمع إلى حمله المزعج ؛ فإن تكن الوحدة مستحيلة فإن المشاركة الكاملة أيضاً مستحيلة وعلى كل إنسان أن يحتمل كابوسه الخاص . ويقترح استراجون كالعادة أن ينفصلا – ثم يعدلا عن ذلك ويواجهان من جديد مشكلة الانتظار والملل . ويقترح استراجون – كحل – ان ينتحرا ولكنهما لا يستطيعان ذلك ايضاً ولا يبقى أمامهما الا ان ينتظرا جودو الذى تخليا له عن جميع حقوقهما – حتى حق البهجة والضحك – فى مقابل وعد منه بالمعونة.
وبينما ينتظران جودو على المسرح شخصيتان جديدتان:
بوزو، وهو شخصية رهيبة متسلطة، يسوق أمامه تابعه " لاكى الذى يحمل متاعه، بواسطة حبل مربوط فى عنقه .. ويختلف النقاد المسرحيون اختلافاً شديداً فى تفسير هاتين الشخصيتين – فهما عند البعض "السيد" و "العبد" وعند البعض الآخر "المضحى" و"المضحى فى سبيله" وعند آخرين "القوة" و "العقل" ونكتفى نحن بأننشير إلى أن شخصيات المسرحية هى تعبير عن مواقف الحياة أكثر منها رموزاً – فنحن أن التقينا بفلاديمير واستراجون المرتكنين على وعد الخلاص نلتقى ببوزو، وهو الرجل القوى الذى لا تشغله فكرة الخلاص، والذى يعلن أن الأرض ملكه، ويستنكر أن ينتظر أحد جودو فوق أرضه – أما لاكى التابع الذليل للرجل القوى – فهو لم ينطق بكلمة واحدة منذ أن ظهر على المسرح إلا عندما وضعت القبعة فوق رأسه، وطلب إليه أن يفكر فهو إذاً رجل الفكر الخالص الذى يسعى إلى أن يفسر كل شىء بالعقل وحده – صحيح أنه يفشل فى ذلك، وأن كلامه يبدو لنا متناقضاً ومضحكاً، ولكن هذا يتفق وما يريد بيكيت أن يذهب إليه من انهيار سلطان العقل كما سنرى فيما بعد.
إن بوزو، وإن كان يظهر لنا عند دخوله فى الفصل الاول قوياً مرهوب الجانب إلا أنه يحمل هو أيضاً بوادر انهياره – وأول هذه البوادر هو اعتماده على عبده لاكى فى كل شئون حياته – وثانيهما حاجته الدائمة إلى صحبة الآخرين والتى تجعله بعد دخوله العاصف يرجو ويلح على استراجون وفلاديمير أن يبقيا معه، وثالث هذه البوادر حاجته المستمرة إلى أن يبرز نفسه وإلى أن يؤكد ذاته – ويتمثل ذلك عنده فى رغبته فى أن يكون بليغاً وشاعرياً. ويخبرنا بوزو أن كل الأفكار التى لديه إنما علمها إياه لاكى مفكره أو عقله إذاً فقد دخلته أيضاً جرثومة الفكر بالإضافة إلى كل ذلك. وهو يخبرنا بأنه قد ضاق ذرعاً بتابعه وأنه يريد التخلص منه ولكننا نشك فى أنه سيفعل.
وعندما تنقضى فترة على وجود بوزو ويشغل استراجون وفلاديمير لفترة يفقدان اهتمامهما به ويعود الملل يستبد بهما – وعندئذ يقترح عليهما بوزو أن يرد إليهما صنيعهما بأن يستمعا إلى لاكى وهو يفكر ويستهويهما الاقتراح ، وتوضع القبعة فوق رأسه، ويفكر لاكى بصوت عال تفكيراً غريباً – يقول خطبة طويلة مفككة لا معنى لأية عبارة منها على حدة، ويرفض أن يكف عن الكلام رغم استنكار فلاديمير واستراجون واحتجاجهما على كلامه غير المفهوم أنه ليبدو وكأن العقل – وقد شاخ – اختلطت فيه كل الأفكار ببعضها دون ترتيب أو تنسيق. ولكننا رغم ذلك نستطيع أن نستشف من خطاب لاكى سخرية مريرة من الفكر الأوروبى، ومنهاجه – ومن منجزات هذا الفكر فى الفلسفة واللاهوت والعلم، وهو لا يوحى إلينا بإفلاس هذا الفكر فحسب بل إنه ليوشك أن يتنبأ فى نهاية خطابه بانهيار حضارة هذا الفكر، ويخبرنا وسط عباراته المضطربة بأن الإنسان "يضمر ويضمحل" ثم يوشك أن يلمح فى نهاية حديثه إلى خطر فناء شامل بتكراره لكلمة "الجمجمة".
ولا يكف لاكي عن سيل أفكاره التى تشبه ألحاناً تتكرر آلياً فى أسطوانة قديمة مشروخة إلا عندما تنزع القبعة من فوق رأسه فى عراك يشتبك فيه الجميع ... وفى خلال هذا العراك يفقد بوزو ساعته – ويوحى إلينا بيكيت بهذا أنه بانهيار العقل والفكر يفقد الزمن مدلوله.
وعندما يخرج بوزو أخيراً بعد تردد طويل وهو يسوق أمامه لاكى يبقى استراجون وفلاديمير ويدخل غلام نعرف أنهما قد رأياه من قبل يتوقعان وصوله – بل وإنهما يعرفان مضمون رسالته. أما رسالته فهى أن جودو لن يصل اليوم، ولكنه سيأتى فى اليوم التالى بالتأكيد. و لا يبقى أمام استراجون وفلاديمير إلا أن ينصرفا ويعلنا أنهما ذاهبان ولكن الستار يسدل وهما فى مكانهما – لا يتحركان.
ويبدأ الفصل الثانى فى اليوم التالى فى نفس الموعد والمكان . يبدأ بفلاديمير وحده يحاول أن يسرى عن نفسه بأغنيته عن كلب سرق قطعة من الخبز فضربه الطباخ حتى مات. وتدور معانى هذه الأغنية حول الحرمان والقوة والموت – وهى أفكار تتكرر بصورة أو بأخرى فى خلال المسرحية كلها. ثم يدخل استراجون المسرح بعد قليل وهو فى حالة نفسية سيئة، لقد ضربه معتدون مجهولون كالمعتاد، ولقد نسى كل شىء عن الأمس كالمعتاد. إنها نفس الأشياء القديمة. إنها نفس الحياة المملة. دورة الأشياء المألوفة التى تتعاقب يوماً بعد يوم دون معنى أو هدف وتثور ثائرة استراجون عندما ينبه فلاديمير إلى أن الشجرة قد أنبتت بضع أوراق ويقول لصاحبه "لقد عشت طوال حياتى القذرة زاحفاً فى الطين وأنت تتحدث إلى عن المناظر الجميلة. أنت ومناظرك. حدثنى عن الديدان..".
وهنا يذكر المرء على الفور ما يقوم به بعض الوجوديين الذين يضعون فى مقابل فكرة عبث الحياة فكرة قيمة "الحياة فى ذاتها"أو فكرة الجمال والبهجة الحسية – ثم يبدو لنا أن بيكيت يرفض هذا الاتجاه فى جملة ما يرفض.
وتمضى المسرحية بعد ذلك فى جزء من أهم أجزائها، إذ يحاول استراجون وفلاديمير أن يفعلا شيئاً ما، أى شىء ولكنهما يفشلان. يفشلان فى تبادل الحديث وفى ممارسة هوايتهما المفضلة بتكرار المصادفات التى توحى بإفلاس اللغة كوسيط للفكر – ويفشلان فى أن يمزحا معا، ويفشلان فى أن يلعبا الرياضة – إنهما يدكان سخف ما يفعلان، ويجعل هذا الوعى من كل نشاط عبثاً لا معنى له ويصف فلاديمير هذا إذ بعد حين يقول لصديقه "إننا ننتظر ونحس بالملل .. كلا لا تحتج، نحن نحس بالملل حتى الموت وليس هناك مجال لإنكار هذا، ويقول إن الساعات طويلة فى مثل هذه الظروف، وإنها تضطرنا إلى قضائها فى أمال قد تبدو للوهلة الاولى اعمالاً معقولة إلى أن تصبح عادة من العادات. ونحن عندما نتأمل هذه العادات التى يتكلم عنها فلاديمير – عندما نتأمل العادات عموماً – نكتشف العبث وانعدام المعنى الكامنين فيها.
ووسط هذا الملل القاسى يدخل بوزو مرة أخرى وهو يسوق أمامه لاكى – بوزو أعمى وضعيف كما أن لاكى الآن أصم وأبكم – والحبل الذى يسوق ب بوزو لاكى قد صار أقصر من ذى قبل – إن قبل الرجل المفكر. وهو هنا ينهار انهياراً مادياً فهو يتعثر ويسقط على المسرح مع تابعه، ويعجزان عن النهوض ويصرخ بوزو طالباً النجدة .. ويقترح استراجون أن يعيناه على النهوض لقاء أجر معين ويرفض فلاديمير هذا ويقترح أن يعيناه بلا مقابل "فنمر الغابة يهب لمساعدة أقرانه بلا تردد" ولكن فلاديمير يمضى فى تبرير وجهة نظره الإنسانية زمناً طويلاً حتى ينسى فى النهاية ماذا كان يريد أن يفعل بينما بوزو ما زال يصرخ طالباً النجدة وأخيراً يتقدم فلاديمير واستراجون لمساعدة بوزو ولاكى فيسقطان هما أيضاً ويعجزان عن النهوض: إنهما حتى حينما اقتنعا بقيمة المساعدة وحاولا أن يساعدا عجزا عن ذلك. هو سقوط رمزى عجز الإنسان فيه أن يمد يده بالمعونة للإنسان، وبرزت الحاجة إلى عون خارجى تلمسه استراجون فى سحابة عابرة، ولكن هذا العون لم يصل. وأخيراً يرفض فلاديمير واستراجون إلا أن ينهضا بمجهودهما الخاص ويساعدان بوزو على النهوض ...
ويسال فلاديمير بوزو متى فقد بصره فتثور ثائرة بوزو ويقول لسانه "متى .. متى فى يوم ما .. أليس هذا كافياً بالنسبة إليك؟ فى يوم ما مثل غيره من الأيام . فى يوم ما أصبح لاكى أبكم، فى يوم ما أصبحت كفيفاً، فى يومما ستصير اسماً، فى يوم ما ولدنا، فى يوم ما سنموت.. ألا يكفيك هذا! إنهن يلدننا إلى جانب القبر فيومض الفجر للحظة من الزمان ثم يهبط الليل من جديد ...
إذا فقد فقد الزمن معناه عندما جرد من تتابعه الآلى، وأصبحنا نعى أن هناك خلف التغير الدائم للأشكال لوناً من الجمود المطلق والثبات حيث لا شىء يحدث.
وهكذا فإنه عندما يخرج لاكى يبقى فلاديمير واستراجون فى نقطة البدء . فى نفس النقطة، فى انتظار جودو، ويغفو استراجون بينما يستبد القلق بفلاديمير وتعذبه هذه الفكرة التى عرضها بوزو فيقول لنفسه: "عندما استيقظ مع صديقى استراجون وننتظر جودو هل نقول إن بوزو قد مر من هنا وتحدث إلينا؟ ربما .. ولكن أى حقيقة ستكمن فى هذا القول .. إن "استراجون" لن يعرف شيئاً سوف يحدثنى عن الضربات التى تلقاها وسوف أعطيه جزرة وسيستمر كل شىء كما كان.
ويستمر كل شىء كما كان بالفعل فيأتى الغلام **** جودو ويبلغ نفس الرسالة أن جودو لن يأتى ولكنه سيأتى فى الغد ولن يخلف موعده ... نفس الرسالة ونفس ردود الفعل، أسئلة للغلام،وتفكير فى الانتحار. وعجز عن الانتحار.
وتنتهى المسرحية بفلاديمير وهو يطلب من استراجون أن يشد سرواله الذى تهدل، وبعبارة أخرى أن يواصل الحياة..
إن مسرحية فى انتظار جودو كما نرى عمل طموح فى نطاقها المحدود وبشخصياتها القليلة تسعى إلى أن تصور محنة الإنسان الشاملة فى أبعادها المختلفة، وينجح صامويل بيكيت بمقدرة فائقة على التركيز – شأن الكاتب المسرحى الموهوب، فى تحقيق هذا الغرض. ويبدو أن هذا هو اليقين الوحيد الذى يمكن الوصول إليه فيما يتعلق بالمسرحية. ولا يستطيع المرء أن يجزم بمثل هذه السهولة بما يشير إليه بيكيت فتجاوز هذا الوضع المأسوى – إن كان هذا يشير إلى أى طريق على الإطلاق – يترك الباب مفتوحاً عن عمد فيرى البعض فى موقفه رفضاً مطلقاً للحياة، ويرى آخرون أنه موقف شك وتردد، ويرى غيرهم أن المسرحية دعاء حار من أجل الخلاص ... حسناً؟ ...
لير كل ما يريد أن يراه – ولكن اللقاء المباشر بين الكاتب والقارىء كما ذكرنا – هو السبيل الوحيد إلى رؤيا أبعد مدى.
المصدر / كتاب - بهاء طاهر ناقداً مسرحياً
إعداد وتقديم / شعبان يوسف
ويمكننى أنا جدو سامى هنا أن أقول أن اسم جدو هو لقب تشريفى بالأساس بمعنى الحكمة لا بمعنى السن فأنا بالأربعين، وأظن ذلك لا يجعل منى عجوزا. وإن كان من بمثل عمرى بعضهم بالفعل لهم أحفاد. لكنه بالنسبة لى لقب تشريفى للدلالة على الحكمة كالشيخ أو الأب.
ويمكن أن يصبح جُدُو مثل البطل الذى ينتظره أبطال المسرحية ولكننى أتيت ولم أخلف الموعد. وبمعنى ومفهوم آخر أيضا لجودو أو جودوت يراه البعض...
ويمكن أن يصبح جَدُو من الجدية وكونى جاداً. ويمكن اعتبارى أيضا جورو Guru.