مكتملة واقعية بورنوغرافيا الفقر والظلم الإنجابيّ - من كتابتي الشخصية (1 مشاهد)

ق

قيصر ميلفات

عنتيل زائر
غير متصل


"هذا ما يخبرونني به حين أحادثهم، كنت أسألهم هل أنتم سعداء بكونكم على قيد الحياة؟ وكان أغلبهم يقول لي لا، لماذا أنا هنا؟ أنا لم أطلب أن أكون هنا".
نادين لبكي، في مقابلة على هامر تو نايل


لم تكن هناك حاجة إلى الكثير من الوقت قبل أن يصبح فيلم نادين لبكي، كفرناحوم، ظاهرة دوليّة تعتبر نسويّة ورائدة. فلا يمكن إنكار كون المخرجة اللبنانية الموهوبة واحدة من قلّة من النساء اللواتي استطعن التسرب من خلال شقوق نخبويّة وتنافسيّة المجال السينمائي إلى عالم الترشيحات والجوائز المرموقة. ربما حصل ذلك لكون لبكي واحدة من نفس النخبة التي يلبّيها النظام. ربما مُنح عملها حقّ الوصول النّادر لاتّخاذها كعلامة رمزيّة لكدح النّساء. أو ربّما تمثّل المخرجة "قصة نجاح" استثنائية تؤكد قاعدة الاستبعاد الأبوي. ولكن بغضّ النظر عن أسباب ريادة هذا العمل، تكون كتابة هذه المراجعة النقديّة ضاجّة بالعديد من الاعتبارات. إذ أنّ انتقاد عمل النّساء في عالم لا يعترف بكدحنا وعبقريتنا يجعلنا أكثر عرضة لهياكله المصمّتة. فيمكن لانتقاد حالة واحدة من مظاهر الليبرالية أن يعرّض جهودًا أخرى أكثر راديكاليّة إلى الخطر، طالما يتمّ تكديسها معًا تحت ما تحوّل إليه مفهوم النسويّة بسبب جهود المناهج التعميمية: مؤشّر ضحل لمشاركة النّساء في الحياة العامة. إنّ أيّ نوع من الإدانة لمحتوى "كفرناحوم" معرّض إلى الاستحواذ من طرف المتصيّ*** وكارهي النساء، الذين يمكنهم، بسهولة، تسليح هذا النقد ضد القضايا النّسوية. ولكنّ هذه المراجعة النقدية ليست لهؤلاء. بل هي لنا نحن، لكي نتخيّل النقاش المحتمل الذي كان يُمكن للفيلم أن يطرحه إن لم يسأل "هل أنتم سعداء بكونكم على قيد الحياة؟" وركّز بدلاً من ذلك على "من هم المسؤولون عن كلّ هذا البؤس؟" إذ لدى الأسئلة التي نطرحها أهمّية كبرى في تحديد الفعل الذي نتّخذه لمعالجة القضايا المطروحة.

يلقي "كفرناحوم" الضوء على من كانت المخرجة "مهووسة بهم في الوقت الراهن"،2 ألا وهم الفقراء والفقيرات ومنعدمات/و الأوراق الثبوتيّة. مصرّحة عن طبيعة اهتماماتها، تنغمس لبكي في تبييض العنصرية والطبقية والتمييز على أساس الجندر والمواطنة، معفية اللبنانيين من تواطئهم مع الحواجز الهيكلية التي تواجهها النساء والمهاجرات/ون واللاجئات/ون في طريق العدالة. فتروي حكاية عن جميع "المعذّبات/ين في الأرض" مجرّدة من التباينات فيما بينهنّ/هم، خالقة بذلك فئة واحدة من "الفقراء". يتمّ تصوير زين، الشخصية الرئيسية، على أنّه واعٍ اجتماعياً من خلال تحميله لخطاب منفصل عن الآثار المترتّبة على انتماءاته العائليّة والطبقيّة والمجتمعيّة، التّي يرسمها الفيلم بطريقة متجانسة كأنّها واحدة. على هذا المنوال، يختصّ زين برفضه لزواج أخته الطّفلة، لأنها "ليست فاكهة يمكن لها أن تنضج". يبدأ الفيلم مع مقاضاة زين لوالديه المعدومين بسبب إنجابهما له. وقد مُنح الصبيّ حقّ الوصول إلى المحكمة بتحوّل سرياليّ في الأحداث عند اتّصاله ببرنامج تلفزيونيّ لبنانيّ من سجن الأحداث في رومية، حيث يقضي عقوبة بالسجن لطعنه صهره. وبالتالي، فإن الصراع المركزيّ في الفيلم يحصل بين المهمّشين أنفسهم: زين وعائلته.3 يصبح البرنامج التلفزيوني تذكرة تحريره، حيث تطّلع محامية، تلعب دورها المخرجة شخصيّا، على قضيته وتساعده في تحقيق جزء من العدالة من خلال إصدار وثائق ثبوتيّة له.




في الواقع، لا تأتي العدالة مجزّءة في قطع أو إرب، وهذه حقيقة رئيسية يتغاضى عنها الفيلم. يُغرق عدم الاستقرار حياة الشخصيات، فالظلم الاجتماعي والاقتصادي حاضر بشكل صريح ولكنّه لاسياقيّ، مجرّد، وثابت في الزّمكان: ليس بالامكان نسبه إلى أيّ جهة غير الفقراء أنفسهم. تكاد بورنوغرافيا الفقر تجاهرنا بمحتوياتها الصريحة من تهميش واضطهاد وقمع من أجل تحفيز أعضاء المتعة لدى البرجوازية ومؤسسات الدولة وتزويدهم بنوع من المتنفّس العلاجي. فيغادرون صالات السينما طاهرين ومغسولين من ذنوبهم وتواطئهم ومسؤوليّتهم الاجتماعية، بعد أن اختبروا "المعاناة" من مشاهدتهم لمظاهر البؤس.

تُجرّد الخطوط الضبابيّة بين الخيال والتوثيق الشخصيات من المصداقية وتحمي المخرجة من النّقد. من المؤكد أنّ النّاس الرّازحين تحت وطأة الفقر والظلم ليسوا نتاجاً للخيال. ومع ذلك، فإنّ الادّعاء بأنّ حبكة الفيلم تعكس "قصّة حقيقية" خالية من أفعال التخييل يعفي لبكي من المساءلة فيما يتعلق بالرّسالة المنتجة. مثّلت المخرجة، أمّا "كلّ الآخرين فقد لعبوا أدوارهم".4 هكذا يتمّ إنشاء خلط مقصود: نظرا لعدم كون الشخصيات ممثّلين ولكن أشخاص حقيقيّين، فإنّ الفقراء يُحمّلون مسؤولية الرسالة العامّة للفيلم. وبالتّالي، فإنّه زين الذي يدعو إلى سياسات ديموغرافية مجتمعه من التّكاثر، وإنّهم ***** الشّوارع الذّين يمنّون لو لم يولدوا. جميعهم مسؤولون عن هذا الخطاب، إلّا نظرة التّحديق الطبقية لشريحة المجتمع العليا والراغبة في حلّ الفقر عن طريق القضاء على الفقراء.






عن الجنس والأمومة والبذاءة

في منتصف غرفتهم الصغيرة والمتّسخة على السطح والشبيهة بحظيرة دجاج، يمارس والدا زين الجنس وراء ستارة تفصلهما عن خمسة ***** يحاولون النوم على فراش واحد. زين مستيقظ، يراقب أشقائه وشقيقاته وهم/نّ نيام غير متنبهين/ات للصّفاقة التّي تحصل على بعد بضعة سنتيمترات. يقوم الصبيّ المعجزة بدور الوصيّ على إخوته وأخواته بينما يُصوَّر الجنس على أنّه يُلهي والديه عن واجباتهما. يعرف زين تمامًا ما يحصل حذوه ويبدو متضايقًا، إذ يبدو الجنس في عالم كفرناحوم رفاهيّة تقتصر على أولئك القادرين على تحمّل تكاليف غرفة خاصّة. يخبرنا الفيلم أن المتعة الجنسيّة ليست شيئا يستحقّه الفقراء، وأنه لا ينبغي أن تكون متاحة بسهولة، وإلّا ستكون أمرًا مقرفًا وخاطئًا. فبدلاً من أن يُفهَم الجنس على أنه "شكل من أشكال الترفيه" متاح للجميع إذا أرادوا/ن ذلك، "يُنظر إلى المتعة الجنسية على أنها ترفٌ".5 بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر استياء الفيلم من فعل الجنس في حدّ ذاته، ولكنّه يطال نوعيّته الباعثة على الاغتراب أيضا. فالجنس الذّي نسمعه ليس من النّوع الذّي قد نرغب في ممارسته. وبصرف النظر عن "الجراءة المنحرفة" لوالدي زين والتّي مكّنتهما من التّضاجع في غرفة مليئة بالأطفال، فإن الجنس الذّي نتنصّت عليه يبدو ميكانيكيّا وغير ممتع. فنسمع همهمات الرجل ورهزاته، في حين أن صوت زوجته غائب. يخبرنا كفرناحوم أنّ الجنس الذي تُمارسه هذه الفئة العامّة من "الفقراء" لا يليق بأن يكون مطلبًا من مطالب العدالة الاجتماعية، إذ أنّه لا يشبه القصص التّحررية عن تبنّي الرغبة والحميمية. على العكس تماما، يكون هذا الجنس فرضًا تقنيًّا وبذيئًا.




لدى ممارسته في هذا الفيلم، لا يؤدّي الجنس سوى إلى إزعاج نوم الأطفال الأبرياء وجلب أفواه إضافية للإطعام ومجرمين إضافيين للسّجن، كما أنّه يُعطي الحياة لهجائن غير موثّقة. أحدها هو يوناس، وهو نتيجة "خطأ" راحيل، عاملة منزلية مهاجرة من أثيوبيا، وبوّاب نراه بشكل عابر. ما يُعبّر عنه الفيلم كخطأ ليس ممارسة متأخّرة لسحب القضيب من المهبل أو القذف دون موافقة. إنّما هي العلاقة في حدّ ذاتها. تشرح راحيل للقاضي أنها اكتشفت حملها وهربت من صاحب عملها، مُدينة نفسها لقدر غاشم في حياة العار ورقّة الحال. بصفتها عاملة مهاجرة تُسجّل حركاتها على مدار الساعة منذ وصولها إلى لبنان، لا يحقّ لها أيّ شكل من أشكال العلاقة أو التّفاعل البشريّ. وظيفتها واحدة – هي عاملة متدنيّة القيمة وطوع للاستغلال. من غير المسموح لجسدها ووقتها أن يخدما أيّ شيء غير العمل المنزلي منخفض الأجر. لا يوجد نقاش حول العنف المنهجي والحواجز البنيويّة التّي تواجهها عاملات المنازل المهاجرات – بل يوجد مجرّد ذكر لـ"خطأ" فرديّ. وتقول راحيل: "مدام كانت منيحة معي"، لأنّ بؤسها ليس خطأ أحد سواها. يتمّ تجسيد هذا الخطأ في يوناس الذّي يوفّر سواد بشرته المحتوى "الهزليّ الإغاثيّ" في الحبكة المليئة بالعذاب. في محاولة لتفسير لون يوناس لدى التّظاهر بالأخوّة، ينغمس زين في التعاليق العنصريّة التّي يتمّ "تجاوزها" نظرا لطفولته وبراءته. فتقدّم أعذار على غرار تناول القهوة المفرط أثناء الحمل ووقتيّة الحالة وزوالها مع التّقدم في العمر لتفسير هذه القرابة المتخيّلة. يبدو أن "العرق" اللبناني المتفوّق لا يختلط، لذلك لا يمكن لأذهان البشر البسطاء تخيل شقيق أسود لطفل أسمر. إذ أنّ الأمر على حدود الخيال العلمي.

وعلى غرار راحيل التّي تتلقّى اللّوم على العنف المنهجي الذّي تختبره مع ابنها، توجد تمريرات حرّة تسمح بالانتقاد الأبديّ لوالدة زين. فهي تخضع للمساءلة من قبل كلّ من نظام الـ(لا)ـعدالة القضائي ومن ابنها البالغ من العمر 11 عاما. يحاكم زين والدته حرفيّا ومجازيّا، فقد جرّ كِلا والديه إلى قاعة المحكمة، ولكنّ والدته تنفرد بتحمّلها مسؤوليّة الحمل. الأب، على العكس من ذلك، يُصوّر كضحيّة، فهو لم يكن يريد أيًا من هذا ولكن لم تكن لديه خيارات أفضل. قيل له أن الرجولة تعني عائلة كبيرة وهو الآن يتحمّل ثقل حمل أعباء العائلة. قيل له كذلك إنّ الطفل يجلب رزقه، وهو قول يذكّرنا بـ "**** يساعدك" الذّي نرفض به بـ"أدب" تقديم المال للمتسولين. إذ يفوّض الشخص الأغنى المسؤوليّة إلى **** رغم كون المتسوّل يطلب معونة حينيّة غير لاهوتيّة. فيبدو الوالد رجلًا بسيطًا صدّق الوعد الروحانيّ، أمّا الوالدة فقد أخذت الجزء الأكبر من اللّوم. فهي خبيثة، تستخدم أطفالها للوصول إلى الموارد المادّيّة على حساب صحتهم وطفولتهم. فترى أطفالها مسجونين وأمواتًا، ومع ذلك تستمرّ في الحمل.

لا يوجد مفّر في هذه الحفرة المليئة بأوبئة الأولياء غير المسؤولين والجوع الجنسي غيرالمشبع والإنجاب المُهمِل، حيث تتواصل العائلة من خلال العنف اللفظي والجسديّ، حتّى بالنّسبة لـ "أذكى" أطفالها، إذ أنّه يستخدم لغة نابيّة في تعابيره اليوميّة ولعبه. زين منفصل عن عادات عائلته من كلّ ناحية ممكنة تقريبًا. ومع ذلك، وبغضّ النظر عن مدى تمرّده، يجد نفسه يستنسخ لغتها ويكشف بفعله ذاك عن طبقته الاجتماعيّة، إذ لا يستطيع إكمال جملة دون استخدام المسبّات. يجعل الفيلم "انحطاط" عائلته مسموعًا وغير قابل للتّفادي، إذ لا مهرب منه. لذا، وفي ذات آن تصويير التّنافر بين مُثُل زين ومجتمعه، يُعزّز كفرناحوم استثنائيّة التواصل "اللّائق" لطبقة اجتماعية غير شعبيّة. لا يزال زين سجين اللّغة: مغسولا من الأوساخ التّي ترافق وجهه طوال الفيلم ومرتديًا ثيابًا جديدة في قاعة المحكمة، يخونه لسانه. فعلى غرار نظرة التّحديق الفوقية السّاجنة للهجة المنطوقة على الألسنة السّوداء في الأبنوسيّة،6 لا يمكن لنظرة التّحديق البرجوازية أن تتخيّل عالمًا يمكن لِزين أن يتحدّث فيه دون مسبّات.






عن الحلول الكمّية للمسائل الإنجابيّة

يقترح الفيلم حلّاً كمّيًا لـ "الأطفال غير الحاملين للوثائق الثبوتيّة" والذّي "ينمو عددهم بالملايين الآن".7 فتقول لبكي: "لا توجد إحصائيّات محدّدة [...] لأنّهم لا يريدون الاعتراف بالمشكلة، لكنّ المشكلة كبيرة". تُصرّ بقولها على تناسب نسبة المشكلة المذكورة مع عدد الأطفال الفقراء في هذا البلد. في حين أنّ الفيلم لا يدافع عن التعقيم القسري للفقراء، قد يخرج الجمهور الليبرالي منه محتارًا: متى يصير عدد الأطفال الفقراء أكثر من اللّازم؟ بيد أنّ إنكار الأمومة بشكل كامل ليس أمراً جذاباً للعقول الليبرالية، إلّا أنّ تحديد نسل الفقراء يبدو معقولاً ومستساغًا. فيتوجّه زين إلى القاضي، صادِحًا بصوت البرجوازية المتنكّرة في ملابس البروليتاريا، ويسأله عمّا إذا كان إيقاف حمل أمّه ممكنًا. وليس الأمر مسعى مطلبيًّا للوصول إلى خدمة الإجهاض، بل هو مجرّد تعبير عن الأفق المسدود الذّي وصلت إليه عائلته: فالأمّ حامل بالفعل وليس هناك ما تفعله حيال ذلك. أمّا إن كان هناك مخرج من هذا المأزق، فإنّ القرار يوضع في يد القاضي أو الحكومة اللبنانية لأنّ أجسادنا ليست لنا ولأنّ الحقّ في الحصول على الخدمات موجود تحت تصرّف الرّجال في مراتب السلطة. حتى لو قدّم كفرناحوم حجّة صريحة لصالح تشريع الإجهاض، فإن المسلّمة الضمنيّة تبقى كما هي: يجب على الفقراء ألا يتكاثروا.8




إن الحرية التّي أخذها الفيلم في الإشارة إلى مسألة تحديد نسل الطبقات المهمّشة أمر مروّع. هذا السؤال في حدّ ذاته تلاعب بالمنظور، فهو يردّد استحقاق البرجوازية للسيطرة على الأجساد المعرقنة والمجندرة والخاضعة للتحكّم العنصري والجنسانيّ. وفي نفس، يجب على الطبقة العاملة أن تتكاثر ويتكاثر معها التفاوت الاقتصادي. ولكن عليها أن تتكاثر بنسب وطرق تدعم هياكل الاضطهاد والأنظمة الاستغلاليّة الأخرى. فالأطفال "مختلطات/و الأعراق" يفعلون بالـ"نقاء الأبيض" نفس ما يفعله أولئك من خلفيات دينيّة مختلطة بالتوافق الطّائفي اللبنانيّ وأولئك من قومية عبر-وطنيّة بالمواطنة. ومن أجل ذلك ومن حيث سيطرة الدولة على التّناسل، فإن جميع الفقراء متساوون، ولكنّ بعضهم متساوٍ أكثر من بعضهم الآخر:9 فيُطلب من بعض النساء أن يُنجبن أطفالاً أقلّ ومن غيرهنّ ألّا يُنجبن على الإطلاق ما لم يفعلن ذلك سرّا ودون المطالبة بالحقوق والكرامة والوصول إلى المرافق والخدمات.




وكما يقتضي به هذا المنطق، لا ينبغي أن تكون راحيل أمًّا منجبة ولا امرأة تُمارس الجنس، إذ أنّ نظام الكفالة يسمح لها بِصفر من الأطفال. أمّا اللاجئات، فبإمكانهنّ الحصول على القليل منهم – شريطة أن يولدوا في مكان آخر ولا يزعجوا راحة بال المواطنين من خلال وجودهم في المدارس والوظائف وحتّى في الشوارع. عندما تنفّذ الدولة سياسة الإعادة القسرية للمهاجرين/ات واللاجئين/ات إلى بلدان المنشأ، وترفض، بسبق الاصرار والتّرصد، منحهم/نّ أرضيّة قانونية لكفاف عيشهم/نّ حتّى لا يستطيعوا الحياة ولا الموت، أو الحصول على العلاج ولا التعليم ولا العمل ولا العائلة، فلا خيار أمامهم/نّ سوى المغادرة. هكذا تموت الكثيرات على عتبة المستشفيات لأنهن لا يملكن وثائق مناسبة، ميتة تقابلها حيرة زائفة تصرخ: "ولكن لماذا استمرّين في الإنجاب المتعدّد؟!" فإنّ الدور الإنجابي ضمن غيريّة الميل الجنسي الحتميّة يكون وظيفة "طبيعيّة" للأثرياء فقط من اللبنانيّين، لكنّه يفقد طبيعته عندما يشعر المواطنون بأعدادهم "ضئيلة" مقارنة بغير اللبنانيين فـ"يشعرون وكأنهم لاجئون في بلادهم". ومن المثير للسّخرية إذن أن تكون الشخصية المختارة للموت على عتبة المستشفى بسبب نزيف متعلّق بالحمل لبنانيّة، وأن يكون موتها نتيجة انعدام الوثائق الثبوتيّة. تُقابل سحر، شقيقة زين، نهايتها البشعة هذه، لنفس سبب كلّ البؤس ألا وهو إهمال الوالدين.

لا تُعبّر الجنسيّة عن نفسها كمظهر اختلاف بين فقراء كفرناحوم، إلّا إذا كان ذلك في سبيل التّنافس على الامتيازات. هكذا، تُلقي ميسون، **** سورية، خطابا حاملا لانزعاج قوميّ لشعب لا تنتمي إليه، فتُخبر زين أنّه لا يمكنه طلب اللّجوء مثلها، لأنّه ليس سوريّا. فينبثق شعر كره غير المواطنين/ات إلى الضّوء: "لم يعد لبنان للّبنانيين!" فيُصبح تلقّي أيّ نوع من الدّعم أو اللّياقة الإنسانية أو حتّى التوظيف الاستغلالي غير القانونيّ بعد الفرار من حرب، موضوع تنافس. فبدلاً من مناقشة إلزاميّة الأمومة أوالحرمان القسريّ منها، أو الحقّ في تحديد عدد الأطفال الذّين ترغب إنجابهم امرأة ما، أو الحقّ في الحصول على وسائل منع الحمل والرّعاية الصحيّة بما في ذلك عمليّات الإجهاض الآمنة وغير المكلفة، يصرخ لسان حال الفيلم: ألا يمكنهنّ ببساطة إغلاق سيقانهنّ بدلاً من النّكاح كالأرانب؟



عن الإجرام والدّولة

تساهم أسماء الشخصيات الرئيسيّة المنتقاة بعناية من أجل التحييد المذهبيّ في محو السياق الطائفيّ من لبنان وإضفاء التّجانس على الفقراء. يبدو لنا لبنان لاتاريخيّا وخاليًا من الأسس الطائفية للتنظيم الاجتماعي والسياسي. تبدو البرجوازية رقيقة القلب على الفقراء، وغير خاضعة للمساءلة عن الفوارق الاجتماعية ومنفصلة عن شبكات المحسوبية والوساطة.

إنعدام المسؤولية والمحاسبة موجود في محتوى الفيلم وفي طريقة تقديمه: يقوم زين بإلقاء أعتى الإدّعاءات ضدّ والدته. إذ يرفض الفيلم مشاركة رسالته، ألا وهي محاكمة الفقراء على تناسلهم، على لسان أولئك الذين غالبا ما يحملونها. بدلاً من ذلك، عندما يتحدّث من لا صوت له، يقوم بتكرار خطاب الدّولة كالببّغاء. عندما تعلن والدته عن حملها، يُخبرها زين أنّ طفلها المستقبلي محكوم بحياة الفقر والجريمة، مثله تمامًا. فمفهوم الجريمة، في هذا الفيلم، يُستخدم حصرًا للدّلالة على ممارسات الفقراء. وعلى العكس، فإنّ تصرفات رجال السّلطة، مثل منعهم الوصول إلى الخدمات وتجريمهم لحقوق الرّعاية الصحية والحياة الكريمة ولحيوات بأكملها، تصوّر على أنّها تعابير القانون والنّظام.

إننا نشهد على جرائم متعدّدة في هذا الفيلم: مشاركة الأطفال المحرومين/ات في التجارة غير المشروعة، ووجود غير المواطنين/ات داخل الأراضي اللبنانية دون وثائق داعمة، والنّشاط الجنسيّ والإنجابيّ للعاملات المهاجرات، الخ. أمّا وصاية الدّولة ورقابتها على الموارد، ومساهمتها في تفشّي كره الأجانب والعنصرية، أو إعادة إنتاجها للشعب-الأمّة من خلال منعها قوانين الأحوال الشخصية وتجريمها للإجهاض ضمن سياسات ديموغرافية أخرى، فليسوا بجرائم.

يساهم "كفرناحوم" في مهمّة بناء الدّولة من خلال إنتاجه لـ"جسد اجتماعي" متجانس، بالإمكان التنبؤ بعملياته وبالتّالي التّحكم فيها. فيخلق فئة متفرّدة وأحاديّة البعد للـ"فقراء"، تحديدًا على التقاطع الجامع بين الفقر والنّساء. هكذا، يقوم بضبط أجسادهنّ من أجل دعم جسد الدولة: فيتمّ ترحيل راحيل وطفلها بينما تتمّ محاكمة والدة زين – التّي لم يطلق عليها الفيلم اسمًا كونها لا تستحقّه – على أمومتها وإنسانيّتها الفاشلتين. تتدخل الدّولة في حملها، مردّدة صدى السيطرة الإحيائية ـ السياسية، أو البيوسياسيّة، الأشمل على توقّعات الحياة وديمومتها وعلى إنتاج الثروة وتداولها. فيحدث بناء الشعب ـ الأمّة على جسدها ويصبح رحمها مصنعاً ومهبلها ساحة معركة. إذ أنّ أجساد النّساء ضرورية لبناء الدولة لأنّها المحور الذي ينقلنا من الفرد إلى النّوع البشري من خلال الجهازين الجنسي والإنجابي. طالما يحدث الإنجاب من خلال أجسادنا، نكون الطّرف المتلقّي للرّقابة الجماعيّة بحكم جندرنا المُعيّن لدى الولادة، واللّوم الفردي على فشلنا المتعدّد في الأمومة. كأجساد معنصرة ومجنّسة ومجندرة ومهمّشة، نصبح مسؤولات/ين عن بؤسنا، ويطلب منّا أن نشدّ همّتنا ونعين أنفسنا بأنفسنا.

تغيب الموقعيّة من كفرناحوم، ويتمّ فحص الفقراء مثل الطفيليات تحت المجهر. فيصوّرون على أنّهم يستفيدون بشكل انتهازي من أنظمة الدّعم الماليّ والمساعدات الخيريّة، ويرسلون أبنائهم إلى المدارس من أجل أكياس الأرزّ، لا من أجل التعليم، ويزوّجون بناتهم مقابل ثلاثة دجاجات وشعيريّة سريعة التحضير. يحرّر الفيلم الطبقات الميسورة من المسؤوليّة في الفوارق الاقتصادية التّي ترتكز عليها للازدهار، كما أنّه يعفي الدولة من أيّ نوع من النّقد. والأنكى من كلّ ذلك أنّ الدولة تظهر كمنقذ، فتستمع إلى محن الفقراء طالما أفادتها في تحديد تناسلهم، وتصدر الأوراق الثبوتيّة لزين بعد أن أهملها والداه، وتعيد يوناس إلى راحيل لكي يكونا أمًا وابنًا في مكان آخر بعيدٍ عن لبنان. في حين أنّ رسم الدّولة عموما وجهاز الأمن العامّ على وجه الخصوص بطريقة إيجابيّة يضمن مرور كفرناحوم السريع من خلال إجراءات الرقابة، فإنّه يساهم أيضا في استنساخ البروباغندا والرّقابة الحكومية، وإضفاء الشّرعية على الحصانة الليبراليّة وافلاتها من المحاسبة. ركّز الفيلم النقاش على "التربية الأسريّة السيئة" و"الأمومة السيئة" و"الجنس السيئ" الذّي ينخرط فيهم الفقراء، وابتلى بذلك نفس الفئات التّي أعلن نفسه ممثّلا لها. يصوّر المحتوى حقائق مهينة لحياة المهمشين/ات بطريقة فضائحيّة ووصوليّة، ممّا يجعلهم/نّ عرضة لنظرتنا المحدّقة. إنّه عنهم/نّ، ولكنّه ليس منهم/نّ أو لهم/نّ كما يريدنا الفيلم أن نصدق. على العكس، فهو يخدم الأوهام الليبرالية عن عالم خالٍ من الطبقات الاجتماعية والاقتصادية وخالٍ من الفوارق – عالم داروينيّ حيث لا يوجد فقر لأن الانتقاء الطبيعي ترك وراءه من لم يقدروا شدّ الهمّة وإعانة أنفسهم بأنفسم. "كفرناحوم" ليس كناية عن الفوضى، بل هو حلم استبداد ليبيراليّ.

 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

أعلى أسفل