مكتملة واقعية المرأة ذات الندبة - من كتابتي الشخصية (1 مشاهد)

ق

قيصر ميلفات

عنتيل زائر
غير متصل


كانت الندبة كبيرة، تمتد في خط مستقيم يشق بطن مريم إلى نصفين من الردف إلى الردف، أشبه بالدرب الذي شق البحر لبني إسرائيل.
طوت مريم بنطالها الجينز ووضعته على كرسي خشبي بجوار طاولة الفحص، ثم خلعت سروالها الداخلي ووضعته فوق البنطال. استدارت سريعاً إلى الممرضة لتتجنب النظر إلى انعكاس صورتها على مرآة كبيرة قبالتها. أعطتها الممرضة ثوباً يشبه المئزر، ربطته حول خصرها.
تذكرت أن لا أحداً يستطيع رؤية الندبة، واستغربت ذلك.
"كله من صنع خيالك"، كان يقال لها في بعض الأحيان، أو "توقفي عن التفكير في الأمر ولن تريها"، أو "أية ندبة؟"
إما أن الناس عميان أو يتظاهرون بالعمى. حتى دون النظر إليها، كان من الصعب تجاهل الندبة، ناهيك أنها كانت أحيانا تؤلم لدرجة تجعل معها التنفس صعباً والنوم مستحيلاً.
صعدت مريم فوق طاولة الفحص. فرجت ساقيها كما أمرتها الممرضة أن تفعل، وانتظرت.
دخل الطبيب إلى الغرفة يمشي بخطوات سريعة وآلية. جلس قبالة مريم دون النظر إلى وجهها. في تلك اللحظة، انعدم وجودها، إذ أن اهتمامه انصب بالكامل على المساحة الضيقة المظلمة بين فخذيها، تلك البوابة السحرية إلى العالم الذي يأتي منه الأطفال، والذي بدا الطبيب متلهفاً لاستكشافه وسبره أغواره حتى تتكشف له جميع أسراره. كان وجهه أشبه بقناع حجري، وخلف النظارات عيناه باردتان كالزجاج. كانت حركاته وكل شيء فيه يشي بأن أمامه عملا يتطلب الانجاز، وانه الشخص المناسب لذلك العمل. نظرت مريم إلى السقف وأبقت نظرها مثبتا عليه.
شعرت ببرودة منظار المهبل وهو يلامس بجلدها ويدفع بعضلاتها. أبقت بصرها مركزا على السقف. شعرت بشيء ما ينزلق بداخلها، شيء بارد وأملس كثعبان، باستثناء أنه كان صلباً. لم يؤلمها، لكنها لم تستطع أن تتجاهله. حاولت ألا يلاحظ الطبيب أو ممرضته انزعاجها. كان عليها فقط التركيز على شيء آخر وستنتهي هذه المحنة في لمح البصر.
قال الطبيب: "أنت متوترة، حاولي أن تسترخي".
لكنها تحاول، ألا ترى؟!، صرخ صوت من داخل مريم. تجاهلت مريم الصوت وحاولت الاسترخاء. لكنها كلما حاولت أكثر، ازدادت توتراً. أفلتت تنهيدة متعبة من الطبيب، واستمر في أداء عمله بصمت.
ماذا كانت دادا لتقول؟ كانت دادا قابلة. لم تكن أبداً لتسمح لطبيب ذكر بوضع سماعة طبية على صدرها، ناهيك عن تركه يرى مكمن أنوثتها. ماذا كانت ستقول إذا رأت مريم، إحدى حفيداتها، مستلقية على ظهرها أمام رجل يحدق بين فخذيها؟
حين يتعلق الأمر بالإنجاب، لم تكن دادا تثق أبداً بالأطباء أو حتى بالطب. أنجبت تسعة ***** - ستة منهم بقوا على قيد الحياة - وساعدت مئات النسوة على إنجاب مئات الأطفال خلال أربعين سنة قضتها في غرف الولادة. كانت تؤمن بواجب اعمار الأرض، كما أمر **** آدم أن يفعل، وكما فعل آدم تنفيذا منه لأمر ****. اليوم وقد عمرت الأرض، كان رأس مريم لا يخلو من أسئلة لا جواب لها.
تناهى الى سمعها طنين لم تعرف مأتاه. ربما كانت ذبابة، أو صوتا يأتى من داخل رأسها.
لمحت بطرف بصرها الممرضة وهي تغالب التثاؤب وتنظر إلى ساعتها. فوق رأس الممرضة، كانت ثمة صورة في إطار لطفل صغير ذي بشرة بيضاء كالحليب وعينين زرقاوين وابتسامة كبيرة بلا أسنان. صور الأطفال في عيادات أطباء أمراض النساء في أغلبها تضم أطفالاً بيضاً وزرق العيون، وهو لغز لطالما حيّر مريم. بجانب الصورة إطار كبير آخر يضم آية من سورة مريم، خطّت بلون ذهبي: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}. حاولت مريم التفكير في العلاقة بين الآية وصورة الطفل، دون جدوى.
سحب الطبيب المنظار، ثم خلع قفازاته ومضى إلى مكتبه. أطلقت مريم زفرة ارتياح، ثم ارتدت ملابسها وتبعت الطبيب.
"كل شيء على ما يرام"، قال. "لقد تعافيت بالكامل من الحمل الأخير، ويمكنك أن تحملي مرة أخرى بأمان".
كتب بضع كلمات على ورقة صغيرة وأعطاها لمريم.
"مبايضك بطيئة، ولكن هذا طبيعي لامرأة في سنك. هذه الأدوية ستساعد على تحفيز خصوبتك".
طوت مريم الورقة ودستها في حقيبتها بحركة ميكانيكية سريعة. لم تطلب من الطبيب وصفة تحفز الخصوبة، لكنها شكرته على كل حال. دأبت على زيارة هذا الطبيب لتسع سنوات على أمل الحمل، ولكن خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت تأتيه لمتابعة صحتها بعد الولادة القيصرية. اليوم، نظر الطبيب إلى ساعتها البيولوجية وقرر أن الأوان قد آن لكي تحمل.
سارت مريم إلى الباب بتثاقل، إذ لم تكن راغبة تماما في الرحيل. أرادت أن تقول شيئاً، لكنها شعرت بأن الكلمات كانت عالقة في حلقها وتتلهف للخروج.
لحظة فتحت الباب، غمر ضجيج غرفة الانتظار مكتب الطبيب. تسمرت مريم لبضع ثوان، وأطلقت العنان لكلماتها أخيراً .بالأحرى، تدفقت الكلمات من فمها تدفقاً.
"لا أريد طفلاً"، قال الصوت. شعرت مريم بالذهول، وكذلك الطبيب والممرضة. ضجيج المرضى في غرفة الانتظار توقف فجأة.
التفت الطبيب نحوها. تفحصتها عيناه باهتمام كما لو كانت المرة الأولى التي تراها فيها. مريم، التي قالت للتو ما لا يجوز قوله، شعرت بانزعاج شديد، وتأهبت للهروب من الموقف المحرج بأسرع وقت ممكن، لكن صوت الطبيب استوقفها.
"انتظري يا مريم".
كانت تلك المرة الأولى التي يناديها باسمها، بدلاً من أن يناديها "مدام شلبي" كما اعتاد أن يفعل. لوهلة، رفرف الأمل في قلب مريم.
أغلق الطبيب الباب الذي يفصل مكتبه عن غرفة الانتظار، حاجباً الضوضاء وعشرين زوجاً من العيون الفضولية. كان وجهه قاتماً، كما لو أنه على وشك كشف سر مهم. على الجانب الآخر من الغرفة، توقفت الممرضة عن الحركة وتركز اهتمامها على سماع ما كان الطبيب على وشك قوله.
مال الطبيب برأسه نحو مريم. شعرت بأنفاسه على وجهها، أنفاس معقّمة وتعبق برائحة أشبه بالنعناع.
"ما سأقوله الآن، لن أقوله كطبيب، ولكن كأب أو أخ".
اكفهر وجه مريم على الفور، إذ أن كلمات الطبيب لم تكن تبشر بالخير.
"أعلم أنك ما زلت تحت تأثير صدمة الحمل الأول، لكني رأيت نساء كثيرات مثلك، نساء عانين من حمل صعب، ثم ولادة أصعب، لينتهي بهن الأمر بفقدان الطفل في النهاية. هذا أمر شائع، أكثر شيوعاً مما تظنين".
أخذ الطبيب نفساً ووضع يده على كتف مريم. شعرت بثقل يده وتراجعت بحركة غريزية، لكنه لم يلاحظ ردة فعلها.
"لكن بمجرد أن يأتي الطفل الثاني، سوف يختلف الأمر، ثقي في ما أقول". تابع الطبيب. "امنحي نفسك الفرصة لإنجاب *** آخر، وامنحي زوجك فرصة".
*****
توقفت الحافلة وأطلقت الأبواب الهيدروليكية صوتاً حاداً وهي تتفتح. سارع عشرات الركاب نحو الباب الخلفي، وبدؤوا في شق طريقهم إلى الداخل. أوقعت امرأة حقيبتها وسط الحشد وصرخت، وتمتم بعض الرجال شاتمين. دفعت مريم بجسدها دفعا إلى الداخل، ووقفت في مؤخرة الحافلة. منظر المباني والناس والسيارات وهي تمر مسرعة عبر زجاج النافذة ثم تتوارى جعلها تشعر بشيء من الارتياح. كانت السماء ملبدة بغيوم رمادية داكنة. تذكرت مريم كلمات الطبيب.
"امنحي نفسك الفرصة لإنجاب *** آخر".
"امنحي زوجك فرصة".
"ثقي في ما أقول".
لكن لماذا تثق به مريم؟ ما الذي يعرفه هذا الطبيب عن لوعة فقدان الولد أو عن الندبة؟ ما الذي يعرفه باستثناء ما تعلمه أثناء سنوات دراسته؟
داس سائق الحافلة فجأة على الفرامل وارتجّت الحافلة رجة عنيفة. فقد بعض الركاب توازنهم وسقطوا. أحدهم أفلت كيساً من البرتقال والمندرين، فتدحرجت الفواكه على أرضية الحافلة في كل إتجاه. بعض حبات المندرين سحقت تحت أقدام الركاب، فملأت رائحتها المنعشة فضاء الحافلة المغلق.
غص قلب مريم بحزن مبهم ما إن اشتمت تلك الرائحة وشعرت بمرارة الغضب والحنق في حلقها. أكانت حانقة على الطبيب أم على نفسها؟ ما أدراها، لكن ما الذي كان بإمكانها فعله؟ كانت، مثلها مثل حبات المندرين، عاجزة أمام المرأة الأخرى. مريم تهابها، فالمرأة الأخرى جريئة ولا تهتم بالعواقب. يجب أن أتعلم كيف أتحكم بها، همست مريم لنفسها، لكن المرأة الأخرى قهقهت ما إن راودت مريم تلك الفكرة.
ربما كانت الفرصة سانحة في الماضي لاقتلاعها والقضاء عليها في المهد. لكن المرأة الأخرى دخلت حياة مريم بدون إستئذان وهي في أشد حالات عزلتها، مثل الضاري الذي يهجم على فريسته في لحظة وهن. أول مرة سمعت مريم همساتها، كانت في قسم التوليد في المشفى، ترقد إلى جانب عشرات النساء الأخريات اللاتي كن في مخاض الولادة. جميعهن كن يترقبن وصول المعجزة الإلهية، كما كان يحلو لدادا أن تسميها. كانت مريم هي الأخرى تترقب، ولم تلق إهتماما للهمسات التي كانت تأتيها من حين إلى حين.
أعلنت معجزة **** عن وصولها مرات ومرات. خرج الأطفال واحداً تلو الآخر، أطرافهم الصغيرة تتخبط، يملئون الغرفة صياحاً حاداً، بينما واصلت مريم الانتظار. في ذلك اليوم، توافدت إلى الغرفة مجموعة من الأطباء الشباب بدوا متدربين. فحصوا كل امرأة على حدة، وعندما وصلوا إلى مريم، حدقوا بين ساقيها طويلاً بوجوه خالية من التعبير. شعرت أنهم مكثوا أطول مما ينبغي، لكنها لم تنزعج رغم ذلك. كانت عاجزة عن الشعور بالعار أو الذلّ في ذلك اليوم، كما لو أن الألم قد طمس أي إحساس بالكرامة بداخلها.
تخيلت زوجها يدخن بعصبية في الخارج، يفتعل شجاراً مع الممرضات، ويسأل الأطباء إذا كان الطفل على ما يرام. كان موظفو الإطار الطبي يدخلون ويغادرون الغرفة بسرعة كبيرة، ولم يكن لديهم وقت لقول جملة كاملة. بدا أن هناك لغة من الإيماءات السرية والأصوات المكتومة والعبارات المشفرة بين الأطباء والممرضات تستعصي على فهم مريم. تمنت لو أن أياً منهم يقول لها شيئا، أي شيء يكن. فحصها طبيب بسرعة وقال: "هذه لم يحن وقت مخاضها بعد"، ثم مضى دون حتى النظر إلى وجهها.
في بداية المساء، خفت حدة الألم قليلا، واستطاعت مريم أن تغط في سبات خفيف. حين استيقظت، سمعت الهمسات مجدداً، لكن بوضوح أكبر هذه المرة. كلما فتحت مريم عينيها، اختفت الهمسات، ثم تعود ما إن تغلق عينيها مرة أخرى، حتى أنها ظنت أن احدهم كان يمازحها.
أحيانا، كانت الأحلام تراود مريم. حلمت بذلك اليوم في المنتجع الساحلي، قبل عدة سنوات، عندما أطبقتا يدا زوجها على رقبتها، وظلت تطبقان أكثر وأكثر إلى أن جاء أحدهم لنجدتها. ولكن في الحلم، لا أحد يأتي لنجدتها. في الحلم، تظل اليدان قابضتين على رقبتها، تعصران أنفاسها بلا هوادة، حتى تستيقظ مبللة بالعرق.
شعرت مريم بأيد ترفع جسدها من على السرير ثم تنقلها على عجل خارج تلك الغرفة الصاخبة المزدحمة. عندما فتحت عينيها، فاجأتها أضواء ساطعة فوق رأسها، وروائح كيماوية نفاذة، وإبر تخترق ذراعها.
"أين أنا؟" سألت بصوت متعب أجشّ.
"صه"، اجابتها ممرضة. "سيجرون لك عملية قيصرية".
****
مات الطفل.
ما عادت مريم تذكر من نقل لها الخبر. كل ما تذكرته أنها عندما استيقظت في الصباح بعد الجراحة، كان كل شيء قد انتهى.
أرادت أن تقابل شخصاً يمكنها التحدث إليه وطرح الأسئلة عليه، ولكنها لم يكن هناك أي شخص تعرفه في غرفة المستشفى، ولم يكن هناك أي أثر لزوجها. زارتها طبيبة شابة لطيفة المحيا بعد الظهر لتفحصها. وأعطتها إجابة.
"طفلك كان في وضعية مغلاق، وكان الحبل السري ملتفاً حول رقبته. حاولوا إنقاذه، لكن الأوان كان قد فات. *** يعوض عليك".
لمدة يومين، لبثت مريم طريحة الفراش تتعافى في تلك الغرفة مع امرأتين أخريين. أمل، ذات الـ19 عاماً، ولدت جنينا ميتا. كانت نشيطة، خفيفة الظل، ونحيفة مثل قصب الخيزران، وكانت تتحدث عن الأطفال الذين ستنجبهم في المستقبل دون كلل. نجوى ذات الـ32 عاماً، أيضا ولدت جنينا ميتا. هي أم لثلاثة *****، بيضاء البشرة، لها عينان رماديتان صغيرتان، وجسمها الممتلئ ينضح خصوبة. شعرت مريم أنها والمرأتان وضعن معاً في غرفة واحدة عن قصد، لتمييزهن عن غيرهن. أمهات منبوذات، أخفقن في واجبهن تجاه المجتمع.
زارها أخوها بعد يومين. سألها عن حالها بإيجاز، ثم طلب منها التوقيع على مذكرة تسمح له بتسلم جثة الطفل. علمت أن زوجها ضرب طبيباً وكسر أنفه في تلك الليلة المشؤومة، وأنه موقوف وينتظر المحاكمة. نبهها قائلا: "كوني حذرة عندما يطلقون سراحه، فهو يتوعد بالانتقام منك".
ولكن الأسوأ قد مضى، وما يستطيع زوجه فعله هو أقل ما يقلقها. بعد مغادرة أخيها، أحست بفراغ ساحق يجثو على صدرها كجسم معدني. كل الأحاسيس التي رافقتها طوال أشهر الحمل، ذلك الشعور بالدفء والأمان اللذان تولدا عن إحساسها أنها والجنين اثنان في جسد واحد، والذي لم تختبره من قبل، كل ذلك صار من الماضي.
في تلك الليلة، استيقظت مريم في منتصف الليل وهي تشعر أن شيئاً ثقيلاً يقبع فوقها. رأت ظلاً داكناً يربض على بطنها. عيناه الحمراوان المتوهجتان مثل الجمر في الظلام كانتا ترمقانها مباشرة. تملكها الرعب وأغمضت عينيها بسرعة. حاولت تلاوة آية الكرسي لكنها لم تستطع إستحضار الكلمات. أبقت عينيها مغلقتين لفترة طويلة، على أمل أن يختفي هذا الشيء إن هي تجاهلته. عندما فتحت عينيها مرة أخرى، كان قد اختفى بالفعل. فقط الصمت وظلام خيما على الغرفة.
ثم سمعتها. كانت الضحكة مكتومة في البداية، ثم أصبحت أعلى فأعلى. منذ ذلك اليوم، دأبت المرأة الأخرىعلى الإعلان عن حضورها بقهقهتها المميزة.
مريم تجهل من أين أتت المرأة الأخرى. كانت وقحة وصاخبة وتعبر عن رأيها بإصرار مقيت. وكانت مريم تهابها لأنها تتحدث بوضوح وإصرار لم تعهدهما في أي امرأة أخرى. كذلك كانت مريم تجهل متى ستظهرالمرأة الأخرى، أو تتوقع ما ستقوله، أو ماذا تريده منها.
مع الوقت، تعلمت مريم أن تتجاهلها وتتظاهر أحياناً بأنها غير موجودة. مع ذلك، ورغم كل حذرها، كانت خائفة من أن يأتي يوم تمزق فيه المرأة الأخرى الستار الشفاف الذي كان حتى يفصلها عن الناس، وأن يصبح صوتها مسموعاً من الآخرين.
اليوم في عيادة الطبيب، رأت مريم ما تستطيع المرأة الأخرى فعله، فقد شاهدت الصدمة على وجه الطبيب، وتذكرت كيف نظرت إليها كل تلك بالنساء الحوامل أو الراغبات في الحمل. أدركت أنها في لحظة واحدة، قد تصبح امرأة منبوذة ووحيدة في مواجهة الطبيب والممرضة والنساء في غرفة انتظار والعالم كله. كانت المرأة الأخرى خطيرة إلى هذا الحد.
*****
عندما فتحت باب شقتها؛ كانت الستائر مغلقة والظلام مخيما على المكان. احذري! هتفت المرأة الأخرى التي كانت في بعض الأحيان تتصرف كصديقة أو شريكة وتحذرها من المخاطر. كم كانت محقة.
في الغرفة حامت رائحة تعرفها مريم جيداً. ما إن خطت خطوة واحدة إلى داخل الشقة حتى تعثرت بشيء ما. أنارت الغرفة وحدقت في الجسم الأسطواني وهي لا تكاد تصدق عينيها. كانت علبة جعة. تناثرت بضع علب أخرى في جميع أنحاء الغرفة. وسرعان ما لمحته مستلقياً في زاوية الغرفة على الأريكة. دلك عينيه مستيقظاً من سبات قاطعته مريم قبل الأوان. كادت مريم أن تصرخ.
"أين كنت كل هذا الوقت؟" سألها وصوته مثقل بالنوم، كما لو لم يكن غائباً لعشرة أشهر.
"كنت في العمل"، أجابت مريم بصعوبة وهي تحاول أن تخفي اضطرابها.
"إلى هذه الساعة؟" سأل بامتعاض.
"لم تأت الحافلة"، كذبت. "كان هناك إضراب. اضطررت إلى المشي".
عندما خفت وطأة الصدمة، أخذت تتأمل زوجها المستلقي أمامها. كان قد خسر بضعة كيلوغرامات. كان وجهه شاحباً ونحيفا، وبدا أن شاربه الرفيع أصبح أكثر امتلاء.
أخذ علبة جعّة أخرى وفتحها. شرب رشفة طويلة، ثم ألقى بالعلبة في اتجاه الجدار بحركة مفاجئة. ارتج قلب مريم في صدرها.
"أرى أنك لم تضيعي وقتاً في غيابي! تعبثين كالعاهرة كعادتك".
صُعقت مريم. نسيت كيف كان عليها التصرف أو ما كان يفترض أن تقوله أمام هذه الهجمات.
نهض من على الأريكة ببطء وبدأ قلب مريم ينبض بعنف. احتاج لبضع لحظات ليستعيد توازنه. أدركت مريم أنه خسر الكثير من وزنه في السجن، وبدا كما لو أنه صار أكثر إنحناء، أو أصبح أقصر قامة.
"أمي كانت على حق فيما قالته عنك"، تابع كلامه وهو يمشي مترنحاً. تراجعت مريم بضع خطوات.
"قالت إنك مصدر شؤم، لا تصلحين لشيء، عاهرة من العاهرات المهتاجات طول أشهر السنة. يا ليتني صدقتها".
اصطدم ظهر مريم بالخزانة الخشبية القديمة. مدت يدها وراء ظهرها وفتشت عن شيء تمسك به، شيء ينقذها. أخيراً لامست أصابعها جسما صلبا وأملسا. كان أحادي قرن خزفياً اشترته من سوق الأحد منذ ثلاث سنوات. عرفته لأنه زوجها كان قد كسر كل تماثيل الحيوانات الخزفية في العام الماضي، ولم ينج شيء منها إلا أحادي القرن. تحسست القرن الحاد، وومضت فكرة في ذهنها.
"أترين ما حصل لي بسببك؟ خسرت ابني ووظيفتي وسنوات من حياتي. كله بسببك يا عاهرة!"
كانت أصابع مريم تمسك بثبات بالتمثال الصغير، وبالرغم من أن عيناها كانتا مثبتتان على الأرض، فقد كانت تحس بكل تحركاته. تخيلت وجهه المتورم غضبا وذراعيه ممتدتين تجاهها. انهال صوته عليها كالمطارق وهو يصرخ "عاهرة، عاهرة!" لو أنه فقط يصمت قليلا، لاستسلمت لضرباته وصفعاته دون شكوى. لماذا لا تزال الكلمات تؤلمها بعد كل هذه السنوات؟
لأنك لا زلت تنبضٍين حياةً! هتفت المرأة الأخرى.
ضغطت أصابع مريم بشدة على أحادي القرن. ضربة واحدة وينتهي جلّادها. أغلقت عينيها، بيد أن كل عصب في جسمها كان في حالة من اليقظة الشديدة. أحست بألم حاد في الندبة، كما لو كانت على وشك الانفجار. فجأة، سمعت صوت ارتطام. فتحت عينيها وحدقت غير مصدّقة في زوجها الممدد في غيبوبة سكر.
بعد فترة وجيزة، بدأ يشخر كما لو كان في سبات هادئ، وقد إكتسى ملامح وجهه الهدوء. ذكرها وجهه في تلك اللحظة بما كان عليه في الماضي، حين كان يلقي النكات ويضحك الناس. كان إضحاك الناس أمرا هيناً بالنسبة إليه، كما لو أنها موهبة ولدت معه. لكنه فقدها شيئاً فشيئا. كم هو محزن أن يفقدالإنسان موهبة لا يعرف سواها.
أرخت قبضتها حول أحادي القرن، لكنها لم تتركه. مشت على رؤوس أصابعها خشية أن توقظزوجها، وذهبت إلى غرفة النوم. أغلقت الباب وراءها بهدوء، وجلست على سريرها مرهقة.
ماذا الآن؟
"أتركيني وشأني!" أجابت مريم بصوت خفيض مرتجف.
يا لك من حمقاء. هل ضننت حقاً أنك قادرة على قتل رجل بواسطة أحادي قرن خزفي صغير؟
نظرت مريم إلى التمثال الصغير في كف يدها، ثم رمته بقوة. اصطدم التمثال بإطار النافذة وتناثر إلى قطع صغيرة. حدّقت مريم في الشظايا البيضاء تحت النافذة مشدوهة. انتظرت أن يصدر صوت من غرفة المعيشة، لكن وحده الصمت خيم على المكان.
خلعت معطفها وحذاءها واستلقت على السرير.
أجل، نفّسي عن غضبك، ثم هدهدي نفسك، قالت المرأة الأخرى. كل الرجال يحبون المرأة التي ترفض أن تتذكر.
"أنت قاسية"، همست مريم.
وأنت جبانة، أجابت المرأة الأخرى.
أغمضت مريم عينيها في الظلام. تحسست بأصابعها أسفل بطنها ولامست الندبة الملتهبة. الطفل الذي لم تره قط لا يزال محفوراً في تلك الندبة. لم يكن له اسم، ولم يتسن لها أن ترثي فقدانه. قاموا بدفنه على عجل في قبر لا يحمل اسما، كما لو كان لقيطاً، أبن حرام. لقد أرادت ذلك الطفل أكثر من أي شيء آخر، لكنها أرادته للآخرين وليس لنفسها. وبمجرد أن رحل، وحدها من كان عليها تحمل الأسى. الآن بعد أن انقطاع الخيط الرفيع، أيقنت أنها لن تتعافى من هذا الصدع الحاد الذي يشق جسدها ويقسمها إلى امرأتين. لم يكن أحد يشاركها هذا الشعور بالانكسار أو محاولاتها لتجميع شتات نفسها، ولم يخبرها أحد كيف تتجاوز المحنة.
أحست بدموع حارة تسيل على خديها. داهمتها شهقات صامتة من البكاء، وأخذ صدرها يهتز بعنف.

في الخارج، كان المطر ينقر على النافذة بصوت هادئ ولطيف. وعلى الجانب الآخر من الغرفة، كانت المرأة الأخرى تجمع شظايا أحادي القرن المكسور وتغني.
 

الميلفاوية الذين يشاهدون هذا الموضوع

أعلى أسفل