ص
صبرى فخرى
عنتيل زائر
غير متصل
مذكرات مراهقة تدخل عالم الكبار
بقلم
انطلق بنا مركب الصيد الكبير في جولة ليلية. كنا وحدنا. "أسماء" ابنة خالي وصديقها "علال" ابن صاحب المركب وأنا...
غابت الشمس مخلفة وراءها في الأفق الغربي سماء مشتعلة حمراء، تتحول كلما ارتفع البصر إلى ظلام بنفسجي داكن. يترنح بنا المركب مبتعدا عن الشاطئ، يخترق العتمة. يرتفع عاليا كلما عانق موجة فإذا مرت انخفض بسرعة خارقة محدثا صوتا شبيها بصوت ارتطام الموج بصخور الشاطئ الهارب خلفنا. تغوص المقدمة تحت الماء لحظة ثم تطفو من جديد فوق الماء.
أتمايل مذعورة فتهمس أسماء في أذني مهدئة من روعي، بعد أن رأت علي علامات الخوف والارتباك:
= لا تخافي، بعد قليل نبتعد عن منطقة الأمواج. سوف تملين عندئذ من الركود والهدوء القاتل"...تدريجيا بدأ المركب يهدأ سابحا في صمت ثقيل لولا هدير المحرك. أطل "علال" من قمرة القيادة مناديا "أسماء" لتلحق به. تركتني لحظة فاغتنمت الفرصة لأنعزل عند المقدمة بعيدا عن القمرة حتى لا أكدر خلوة العاشقين. كانت المدينة تبدو في الأفق البعيد وسط ضباب كثيف مزركش بنقط الإنارة كأنها سحب مرصعة بدرر لامعة. بعد قليل عادت أسماء تسحب خلفها "علال"، كان يحمل فوق كتفه صندوقا بلاستيكيا على شكل ثلاجة. عندما فتحه أطلت منه زجاجات البيرة غارقة تتزاحم بين قطع الثلج. اغلق الغطاء ثم جلس فوقه بعد أن سحب ثلاثة قنينات.
فتح الأولى ومدها لأسماء فتلقفتها مستعجلة. فتح الثانية وقدمها لي فاعتذرت له بلباقة وأدب. تدخلت أسماء ضاحكة تحاول إقناعي بكل الطرق لأقبل الهدية. قالت إنها لم تفهم مطلقا كيف يكون بيتنا دائما مملوءا بكل أنواع المشروبات الكحولية ومع هذا لا يغريني الوضع كي اسرق بعضها، خصوصا حين تسوء الأحوال ويضطرب المزاج وتختفي الرقابة.
تناولت القنينة لأضعها جانبا. تسلل "علال" عائدا للقمرة ليرجع منها محملا ببعض الطعام. وضعه فوق منديل أبيض مفروش على أرضية المركب. أنواع من السمك المقلي، زيتون وخس وطماطم وفلفل أحمر. في وقت وجيز تراكمت أمامنا قنينات فارغة، كان التنافس بين العاشقين مركزا حول الاستهلاك في انتظار اشتعال الحواس الخمس. رشفت من زجاجتي رشفة سريعة فلم تعجبني. وجدت طعمها مرا، غير أن إحساس اللسان ببرودة السائل ووخز الفقاعات تنفجر عند ملامسته، وانسيابها البارد نحو الحلق مخلفة بعض التنويم غطى على المرارة وأضفى على المشروب جاذبية ساحرة. جربت من جديد...مع الجرعة الخامسة وأنا مغمضة العينين صار الطعم عاديا ولذيذا. ابتلعت نصف الزجاجة للتجريب بين الرغبة والنفور. أتردد لحظة أفكر محاذرة مخافة أن يهاجمني التخدير، إلى أن كبرت الجرعة تدريجيا. أحسست بلذعة لذيذة متبوعة بخدر خفيف يداعب لساني وحلقي ولساني. بعد الابتلاع يفيض على حواف اللسان دبيب ممتع...انتبهت لأسماء وعلال فوجدتهما يضحكان وينظران إلي وهما متعانقان.
مدت لي أسماء زجاجة أخرى فتناولتها بلا تردد. كان علال يلبس سروالا قصيرا يصل إلى أعلى الركبتين. نزع قميصه فبدا صدره عاريا يغطيه شعر كثيف. بدأت أسماء تغمز بأناملها حلمتيه. تنهد الرجل مركزا بصره علي ثم هب واقفا. تمطط قليلا قبل أن يحيط بذراعيه أسماء ويحملها مثل عصفور. سار بها مسرعا نحو قمرة القيادة...تركاني وحيدة أمام الصندوق أتأمل السماء والنجوم وأبحث في الأفق عن شبح المدينة المتراقص خلف الضباب. رؤية الأشياء على بعد مترين تعذرت منذ فترة. تعجبت للوضوح الذي يجعل النجوم حاضرة في هذا الصمت السافر البارد، تلوح كأنها معلقة في صفحة خيمة هائلة. الخدر يزداد بينما أعصابي ترتخي وأحس لأول مرة أني كبرت وصرت قادرة على التحليق وركوب الأمواج العاتية.
فجأة تناهى إلى سمعي صرخة حادة كالرعد. شقت هدوء البحر والليل. خيل لي بعد التنصت أنها قادمة من القمرة. تكررت الصرخة متبوعة بما يشبه البكاء والأنين. كما لو أن أسماء تطلب النجدة. اقتربت من القمرة وأصخت السمع. تحولت كل حواسي إلى زعانف تلتقط أدنى هفيف أو حركة. دوت الصرخة ثانيا وثالثا ورابعا، تلتها سلسلة من التأوهات بددت تخيلي وقلقي...تجرأت ورفعت راسي أطل من نافذة جانبية لأرى ما يحدث. كانا عاريين تماما في الداخل وهي تدير ظهرها إليه. يداه تحيطان تارة بخصرها وتارة تنغمس الأصابع بين خصلات شعرها لتجذبها بعنق نحو صدره، وتارة أخرى تحيط نهدها لتدعكه بقوة تزيد من صراخ أسماء. يلتصقان ثم يتسع الفضاء ما بينهما قبل أن يجرها بعنف ثانية حتى يتحد ظهرها بصدره. مع كل انجذاب واندفاع تصرخ أسماء بشبق وانفعال ملتاعة كأنها تتلقى طعنة سيف تبدد صمت الظلام. كان أير علال يظهر ويختفي بين الردفين المكتنزتين. تحول الصراخ إلى توسلات متسارعة متواصلة وأنين. كان علال يلهث فاغرا فاه ويداه تلفان خصلات شعرها وتجدبه بقوة. تدفع نهديها أماما نحو المجهول بينما رأسها وعجيزتها عائدان إليه مشدودان بسحره. صدرها مقوس نافر يتأرجح نهداه وعيناها جاحظتان معلقتان بنقطة لا ترى في الفراغ والظلام. لم أفكر أبدا أن للغرام رقصات عنيفة كهذه. كانت أطرافها كلها ترتعش كأنها مفصولة عن الجسد، تكاد ركبتاها تخونها لتسقط لولا خبرة علال الذي يمد ذراعه اليمين محيطا صرتها من الأمام ليرفعها نحو وسطه. كان ما يزال في حاجة إليها لأن حركته المتوازنة لم تتوقف. تحاول أن تنفر منه قليلا لكنه يجرها بعنف.
تقابلت نظراتنا فأحسست بالعرق يتصبب من جسمي وبخجل مباغت كاد يخنقني. خفت أن يتهماني بالتجسس فعدت مسرعة مستغربة ما رأيت نحو الصندوق. فتحته وتناولت جعة ثالثة تجرعتها بسرعة لعل برودتها تطفئ نار الغيرة والمباغتة والخوف. راودتني مشاعر غريبة شعرت بها لأول مرة في حياتي. هل تكون هذه هي الشهوة التي يحذرونني منها؟ هل من الضروري أن نصرخ ونبكي لنحس ونشبع ونهيم؟
أطلت أسماء قادمة نحوي تتهادى ضاحكة المحيا. شعرها مشتت وعيناها ناعستان. تمددت على أرضية المركب عارية ومتعبة. تعلقت عيناي بحركة نهديها المستديرين النافرين. زاد جمالهما عندما استدارت بجذعها صوبي. وقفت من جديد لتفتح الصندوق. تناولت منه جعتين وعادت مسرعة إلى القمرة. ظلت عيناي مشدوهتين معلقتين بعجيزتها وهي تنسحب متهادية كأنها ترقص مدفوعة بموسيقى نابعة من داخلها. قبل أن تلج القمرة نظرت إلي مرفوعة وهي تبتسم كأنها تعتذر عن عريها. جسد أسماء فتنة تتجسد في حركاتها ونظراتها الجريئة الجذابة والسخية.
تكرر المشهد ذاته بتفاصيله بعد لحظات. فهمت ساعتها لماذا يهربان إلى صمت الأعماق الهادئة. هنا يمكن لمجانين الحب والجنس أن يتحولوا لوحوش بحرية تطرد ما تحمله صارخة كالذئاب دون أن يحتج عليها حراس الفضيلة أو الحساد والغيورين.
عدنا إلى الشط بعد منتصف الليل. انزويت أنا في ركن قصي بينما ظل العاشقان متعانقين في القمرة. في السيارة تغلب الصمت والتعب على الكلام المتقطع. باستثناء بعض التعليقات الساخرة حول إقبالي غير المتوقع على البيرة. قصدت غرفتي مباشرة وقد اختلطت أفكاري بين التعجب والدهشة والتساؤل عن طبيعة الشهوة. ترتفع نبضات قلبي وحرارة جسدي، وينتابني دبيب مكهرب مثل موجات كهربائية تتنقل في دمي كلما تذكرت مشاهد القمرة إلى أن غلبني النوم.
في الصباح هاتفتني أسماء لتسأل عن أحوالي. كيف نمت وماذا رأيت في أحلامي. أجبتها ببرودة غير عادية فقطعت الخط. التقينا بعد ذلك في مساء اليوم الموالي عند خروجنا من الدراسة. تمشينا قليلا نحو بيت خالي. كانت تتحدث وحدها، فجأة توقفت عن السير لأودعها لكنها تمسكت بذراعي وترجتني أن أرافقها...طردت ترددي وسألتها معاتبة:
= لماذا كل تلك الخلاعة والصراخ يا أسماء؟ فردت علي مبتسمة:
= آآآه، فهمت الآن سبب سخطك. اعتقدت أن البيرة هي السبب.
عادت لي مشاهد تلك الليلة. تذكرت خاصة منظر علال وهو يلوي شعر رأسها حول كفه وذراعه ليتحكم فيها ويجرها نحو وسطه بعنف. خفضت بصري وسألتها:
لماذا تعذبين نفسك بهذا الشكل. لقد جعلت علال يركبك ويعاملك كفرسة جامحة.
= ها قد بدأت تفهمين. هنا بالضبط يكمن سر المتعة وسحرها...وعلى عكس ما تتصورين، فليس علال هو المتحكم بل أنا. ففي تلك اللحظة يمكنني أن أفعل به ما شئت ولن يرفض لي أي طلب.
= ولم تصرخين كالذئاب؟
= الصراخ يا عبيطة مسألة ثانية. الصراخ أمر خارج عن الإرادة. به نؤكد المتعة. هو مكنسة نشطب بواسطتها كل همومنا وأحلامنا المدفونة في أعماقنا. الكهرباء التي يجمعها توتر الأيام ومشاكلها تجد الفرصة سانحة لتغني وتسبح وتطير في فراغ البحر باحثة عن سماء لا يبلغها إلا ذوو الطموح والأحلام الشبقة. كلما تعدد الصراخ وارتفع نلت المنى، وتخلص جسمك من الأدران والمتاعب المتراكمة فيه. تصبحين حرة خفيفة هادئة. لولا الصراخ بكل حرية ما كنت أغامر ليلا بركوب ظلمات البحر الحالكة. ولولاه ما كنت لا أنا ولا أنت موجودتين في هذا العالم.
= إذا كان الأمر كما تدعين لماذا لا يصرخ علال؟
= أيتها الحمقاء، نحن جسدان مختلفان متكاملان. تحس الأنثى بما يجري في الداخل أما الرجل فيركز على الاختراق. صراخنا سبيله إليه، كأنه مجرور يسعى بكل جهوده أن يبلغ غايته الأخيرة التي تمكنه بدوره من الصراخ. حين يصلها يفقد السيطرة ويحس بأشياء داخلية تتسرب منه قبل نهاية العراك. من أجل تلك الأشياء تتهادى النساء وتتغنج وتصبر وتضحي وتغير وتموت.
= ولماذا لم أسمع صرخته إذن؟
= لأن صرختي كانت طاغية غطت عليه. بالمناسبة أخبرك بأنها آخر مرة اسمح لك فيها بمرافقتنا. فقد لاحظت أن علال يثني عليك كثيرا، وخاصة إليتيك في أوج انصهارنا. أخاف أن يطمع فيك لو تكررت الدعوة. أعرف غلمته جيدا، لن يتورع عن فعلها.
الجزء الثاني
لم أكتشف في تلك الجولة الليلية أعماق البحر فقط. في نفسي أيضا أبحرت. ظهرت أمامي حقائق كنت إلى حدود تلك الليلة أجهلها. صورة الرجل البالغ ليست دائما وقورة كما نتصوره. كل رجل يحمل ألف سر يفضي به إلى الضعف أو يرميه في متاهة الشهوات. لا تبقى هناك أيه علاقة بمظهر الناس مع حقيقتهم حين ينعزلون عنا. كل الناس يعيشون في حالة انفصام مستمر. وجه للناس ووجه لأنفسهم. لكل واحد أسراره العجيبة التي ترفع شأنه أو تخفضه. ضعفه وقوته لا يفصل بينهما إلا نظرة فاتنة حسناء تبحث في عينيه عن فحولة نادرة الوجود. اكتشفت أيضا سحر الأنثى الذي به تكون أو تنمحي تماما من الحياة الحقيقية. قوة ضعيفة كالقوارير تمسك بخناق وحش. تناقضات العالم الخفي التي تصنع الظاهر منا والخفي البئيس. بدأت المشاهد الغريبة تتحول في خيالي إلى محرك ودافع. أتساءل كل يوم هل سيكون علي بدوري أن أمر من هذه القناة لأصبح امرأة محسوسة الوجود. امرأة على شكل أمي وجدتي. من المضحك فعلا أن أفكر في جدتي الآن تحت تأثير ما رأيت. أما والدتي فقد تفهمت الآن لماذا تصر كثيرا على التغنج والتهادي وشحن نظراتها بأنوثة فتاكة، كنت أحكم عليها بالمبالغة. لعلها لا تتصنع بقدر ما تسعى ليفرز جسدها بشكل عفوي حمولته الداخلية. هو سعي برئ ممزوج بالتشهي والاستعراض المرغوب فيه.
حلت نهاية الموسم الدراسي بعد أسابيع قليلة من جولتي البحرية. نجحت صحبة "سعيد" الابن الأصغر لعمتي. كنت وإياه في نفس المستوى ونفس القسم. ربما سيرافقني أيضا خلال السنة الموالية لمواصلة رحلتنا الثانوية وإلى حدود التخرج والحصول على الشهادة. أما أخوه "سفيان" وأخي "رامي" وهما معا أكبر مني بعامين، فقد انتقلا إلى القسم الأخير من المرحلة الثانوية. بينما كان "جمال" وهو الابن الأكبر لعمتي غارقا تمتصه دراسة الطب في نهاية سنتها الأولى حتى لم نعد نسمع أو نعرف عنه شيئا.
كنا عادة، حين يأتي موسم الصيف، إن لم يكن لوالدي أي مهمة أو برنامج ينشغل به عنا خارج الوطن، يصبح من حقنا أن نرافق أمي لقضاء فترة العطلة في بيت الأسرة بمراكش. كانت لنا فيه فوائد منها المسبح والقرب من قلب المدينة النابض. منه يسهل علينا التسكع بعد أن تتناقص حرارة الصيف في المساء. نتزاحم مع الناس حول مرقصي القرود والحواة والحكائين، نتلذذ بسماع الروايات الساحرة عن أبطال الأساطير القادرين على قهر جيوش الدنيا بضربة سيف واحدة. هناك تشبعنا بمغامرات سيف ابن ذي يزن وعنترة والأميرة ذات الهمة ومعجزات سيدنا الجيلاني قاهر الأسود، وغيرهم.
كان أخي يصر على مصاحبة سفيان في سفره العائلي، ولم يكن أحد يعترض عليه. حين لا اصحبهما في التسكع أبقى وحيدة أتأسف لأن خالي، غير الشقيق، كان يمنع ابنته "أسماء" من مرافقتي. تقول أمي أنه يتعلل بكون بيتنا مملوء بالغرباء والضيوف ولا يطمئن عليها من دون رقيب. يمضي معه أسبوعا أو أكثر قليلا ريثما يملان من المدينة فيجدان حججا كثيرة للعودة لمدينة آسفي. لهما بلا شك هناك أسرار ومغامرات يفتقدان جوها وفوضاها بمراكش.
هنا الجو العائلي شئ مفقود في الواقع. لكل واحد همومه وانشغالاته ومهامه التي تستأثر بكل كيانه ووجدانه. يعيش الصغار في ضياعهم حول المسبح أو في أركان الحديقة والغرف ريثما يحين المساء، بينما يغرق الكبار في تحضير أمسياتهم وسهراتهم الخاصة. عندما تحل نهاية شهر يوليوز يغتنم أبي فرصة حلول مناسبة الاحتفال بتقاليد عيد العرش الملكي. ينظم لقاء لقادة الحزب فترتمي أمي بدورها على الفرصة لتنظم حفلة كبيرة تليق بثقل وعظمة المناسبة. تقول للتبرير إنها كذلك تحتفي بنجاحي أنا وأخي. هكذا كنت أظن دائما قبل أن أكبر أكثر. لاحقا، سوف أعرف أشياء أخرى عن هذا النوع من الحفلات التي تستمر عادة من صباح اليوم إلى آخر الليل الموالي. كل المدعوين يتهافتون لحضور اللقاء لحاجات في نفوسهم لا يعرفها سواهم. تأكدت من ذلك فيما بعد عندما بلغت الجامعة. فجأة يمتلئ بيتنا بالمدعوين...شخصيات معروفة، منهم وزراء ومنتخبون وإعلاميون ورجال سلطات محلية ومقامرون أو وسطاء مختصون في تشمم الفرص للبحث عن مشاريع أو أسواق وعلاقات تجارية أو غرامية جديدة.. قليلون منهم يصطحبون زوجاتهم وأبناءهم. أوصتني أمي أن أكون لطيفة مع بعضهم لو تقربوا مني أو استلطفوني. كان بعضهم مدعوا للمبيت عندنا، بينما سيرحل معظمهم في نهاية السهرة للغرف التي حجزها والدي خصيصا لإرضائهم في فنادق فخمة كالمعتاد، كما لو أنه يشكرهم على الحضور.
تشتغل أمي طيلة اليوم كخلية نحل نشيطة تعد شهدها وعسلها للحاضرين. تحصل من والدي على توصيات دقيقة محددة فتطبقها بأكملها ببراعتها المشهودة، مع زيادات تتطلبها ظروف الاحتفاء والاستقبال. تقدم لكل واحد حسب أهميته ومقامه. تبتسم لهذا وتعانق الثاني بحفاوة مبالغ فيها توحي بأنها تعرفه من قبل عن قرب. كلما زادت القيمة الشخصية زاد الترحيب. تقف مع هذا وتتودد لذاك مبتسمة سعيدة بردود الأفعال. بعض النساء الحاضرات ينظرن إليها بنوع من الغيرة والحسد باد عليهن. تبدل لباسها بين حين وحين وتستحم مرارا وتستعمل من العطور والروائح ما قل مثيله. تبدو سعيدة بنشاطها راضية عن معجبيها وحاسديها. كان الطعام يأتي من خارج البيت من مطاعم ذات سمعة مشهود لجودتها بالإتقان، مما يترك لأمي كل الوقت لتلعب دورها كما تجب بلا توتر.
بعضهم لم يتردد عن استعمال المسبح مع أهل البيت هروبا من حرارة الصيف. غرف عديدة تم تخصيصها لبعض الوزراء من قادة الحزب. هؤلاء لهم معاملة خاصة تكاد تكون عائلية. كلهم يمازح أمي ويضحكون معها. منهم من يعاملني بالمثل وإن حذرتني أمي من العيون الزائغة.
صار أبي عضوا في قيادة الحزب قبل عامين من ذلك اللقاء الذي صادف نجاحي. في نفس الوقت دخلت أمي قيادة مجلسه الوطني. لم يبق سواي أنا وأخي، ولا يستبعد أن نستدعى قريبا لعضوية الشبيبة. بالنسبة لي لا يعني لي ذلك شيئا. طز على سياسة أحزابنا ومن فيها وما يأتينا منها. لا أرى أي فائدة من تضييع وقتي مهما كانت وضعيتي في سياستهم. لم أكن أومن أو أتخيل نفسي عضوة في أي حزب. لو كان الأمر بيدي لشكلت حزبا يطرد منه كل الذين تجاوزوا الثلاثين. حزب يكون له أهداف لا تخطر ببال هؤلاء. ربما لذلك كلما حاورت أحدا من المقربين عن فكرتي يعتبرني مارقة متفلسفة، أبحث لنفسي عن تحرر زائد. حتى أسماء المستهترة، سخرت مني واعتبرتني حالمة. قالت لي مازحة:
= كيف تنجحين في السياسة والأحزاب وأنت لم تفلحي حتى في العثور على ذكر لدبرك؟ ... تقول هذا وتطلق ضحكة عالية.
عندما سألت أمي، كيف ينفق أبي أمواله هكذا بلا حساب على الغرباء؟ أجابتني باقتضاب دون أن تنظر إلي أو تتوقف عن الحركة:
= لا تخافي... أبوك يتقن الحساب ويعرف دوما كيف يخدم مصالحه.
أذكر أني التصقت ذلك اليوم بأمي لا أفارقها. كلما قابلنا ضيفا مهما تقدمني إليه. كما لو أنني كنت أعرف كل من قدموا لي. بدوري، تصنعت السذاجة وأطلقت العنان لأسئلتي كدليل على الفهم والاهتمام. أسأل بعضهم فيبتسم ويطلق لسانه بتفسيرات لا أستوعبها. آخرون أبدي استغرابا لكثرة الصعوبات التي يعانون منها وخاصة منهم أعضاء البرلمان. أشكر بعضهم باسم شباب لم يكلفني منهم أحد بالمهمة. صنابير عديدة مقرفة تنفجر في وجهي بالشرح والتوضيح وأنا أبتسم وأحيانا لا أهتم ولا أفهم. فقط أطلق السؤال كرصاصة وأتقوقع داخلي حتى تمضي العاصفة. أحرك رأسي فقط ثم أختلق حركة كي أنزلق بعيدا عن الهذيان.
*******************
أخيرا، أثناء انتقالنا للسنة الدراسية الموالية. بدأ سعيد يشعر أنه بلغ قدرا من النضج يستحق معه أن يظهر للعالم أنه موجود كرجل. أن تكون له صديقة حقيقية بالمعنى الكامل للصديقة. بدت عليه جرأة طارئة. في التصرفات والنظرات ومخاصمة الأقران. بدأ يدخن أحيانا إلى أن فاجأته عمتي ذات يوم فاشتكته لأخيه الأكبر جمال. ما كادت الدراسة تنطلق حتى اقترح علي أن نسرق زيارة خفيفة لبيتهم. كانت أمه مشغولة في بيتنا تساعد أمي في أمور البيت. فكرة عبقرية، قلت في نفسي، فبيتهم دائما فارغ في مثل هذه الظروف. أمي لن تسمح برجوع عمتي لبيتها قبل أن تجمع صحون طعام العشاء وتغسلها. وسفيان أخوه مشغول صحبة أخي في أمورهم الخاصة ببيتنا أو في بعض المقاهي يتفرجان في مقابلة أو يلعبان الورق. أما جمال، فهو في مراكش. لذلك وافقت على الفور.
في هذا اللقاء الجديد، كان من المفروض علينا معا أن نتجاوز ما تعودنا عليه. توقعت أن يمر الانتقال بين الحالتين بيسر وسهولة. الشروط كلها توفرت أمامنا. انتظرت منه أخذ المبادرة. طفقت أنتظر إليه كقطة جائعة. لكنه ظل تائها يدور حول نفسه. يقبل ويتحسس صدري وظهري. يتوقف، مثل عصفور يتوخى الحذر أمام فخ منصوب أمامه. أصيبت يداه ولسانه بالشلل. قلت في نفسي، ها هو على أحسن ما يرام فلماذا يتردد؟ هناك فرق كبير بين تصور الفعل والإقدام عليه. بين حب الظهور والتجسيد الملموس. تمددت أمامه فوق الفراش مديرة له نصف ظهري. توقعت أنه سينقض علي حين يرى الأكمة تواجه صدره وتستفز عينيه. سعيد الذي كان يزهو في الخارج صار مثل جرو يلعق خيبته وخجله. وجدت نفسي حائرة حتى كدت أطوي الصفحة إلى أجل غير معلوم. كان يقف بئيسا بملامح يائسة لا هو راغب في التراجع ولا هو قادر على الهجوم. تنازلت عن كرامتي وبدأت أستميله بنزع ملابسي. استحضرت بعض نصائح أسماء علني أحفزه. حتى النظر في وجهي صار ثقيلا عليه. يحني هامته ويكاد يرتعد. هل هو الخوف أم العجز؟ لا شيء فيه يعكس حماسه، خيمته المفترضة في ذلك المكان منهدمة ولا دليل على وجودها. خفت أن ينتهي بنا اللقاء إلى فراغ.
مددت يدي إليه أزيح عنه القميص. استسلم لي مثل تلميذ خجول. نزعت سروالي. عيناي تخفقان بعد أن رأيت شبه حركة خفيفة تحت حزامه. نزعت التبان فتحرك الشئ الذي تحت صرته أكثر. أحد ما يحاول أن يبني الخيمة الحائرة. تشجعت ونزعت سرواله أيضا. أمسكت شيأه العجيب في كفي وأحطته بأصابعي. لأول مرة في حياتي أفعل ذلك. غمرتني رعشة مباغتة وارتفعت حرارة وجهي. تحرك الشئ في كفي وبدأ ينتفض ويتمطط. دعكته لتزداد صلابته. يستغرب سعيد من جرأتي ويحملق في وجهي مشدوها. ضممته بقوة ليحتك الجسدان. حين بدأت أقبل الشئ محنية رأسي نحوه، تراجع حجمه ووزنه. في لحظة سريعة تحول في يدي مثل قطعة لحم رخوة وباردة. لم أياس. بدأت أستحثه وأستفزه. الصقته بشفتي. مسدته ودعكته وقبلته. وضعته على صدري، ثم صرتي. مررته على ردفي وجعلته يطل في الأخدود على جوهرتي. كان يزداد انكماشا مثل زعنفة بحرية أو حلزون. أخيرا نطق سعيد خافضا رأسه من الخجل والخوف. جاءني صوته من وراء ألف **** كأنه أنين أو حلم. بضع كلمات يتذرع بها من الحشمة وقلة الخبرة. أحسست برغبة في البكاء. صمت دهرا وفطرت على جرادة ميتة. تعلل سعيد بأن المرة الأولى تكون هكذا دائما. زاد اقتناعي السابق بأن الرجولة سر غامض، أما الفحولة فستظل دائما كنزا مفقودا وحلما لا سبيل إليه إلا للمحظوظين والمحظوظات من أهل الاختصاص. استحضرت المشهد المعلوم وصورة علال وهو يحفر ظهر أسماء بعنفه اللذيذ. ارتعشت أطرافي وأنا ألملم ثيابي وأستجمع طموحي كأني قوقعة تنغلق على ثورتها وشهواتها. قال وهو يفعل مثلي بأنه متأسف، لا شك أن المرة القادمة ستكون أفضل. تركته يرغي ويكذب كما يحلو له. نعم، لعل الصدمة بالنسبة إليه أقوى لكنه لا يبدي ذلك، ربما سيبكي بعد أن أودعه.
صفقت الباب بقوة ورائي وانسحبت غاضبة من حظي التعيس. في الشارع شهقت وتنفست بعمق ملء رئتي كأني خارجة من كابوس ثقيل. قررت ألا أخبر أسماء بما حصل حتى لا تشمت أو تسخر مني ومن سعيد... مر أسبوع بعد ذلك قبل أن يتجرأ سعيد على توجيه التحية لي من جديد.
**************************
بعد أقل من شهر، تشجع سعيد وعاد يقترح علي أن نعيد التجربة. حاول بكل جهده أن يطمئنني ويقنعني أنها ستنجح وأنه أصبح قادرا وعلى أتم الاستعداد... أقسم لي أن النهاية ستكون مغايرة ومضمونة. أعرف أن الحب والجنس أمران لا يلتقيان مع القسم والحلفان. قبلت دعوته على مضض، من باب المغامرة لا غير، وإن بغير اقتناع.
في نهاية المطاف، لم تكن لا ناجحة ولا فاشلة. كانت طموحاتي أعمق وأكبر مما جنيت. كل منا كون انطباعه الخاص حسب ما يتخيله. من جهة المظهر والحركات والأوضاع توفر كل شيء. هذه المرة احتفظت بكرامتي سليمة وتركته يجاهد قدر استطاعته. تلك الطاقة التي ضاق بها صدري شهورا لم تجد سبيلا للخروج منه. الإحساس الغريب الذي طالما روت لي عنه أسماء لم يتحقق. لم يتجاوز ما شعرت به ذلك القدر من المشاعر التي عرفتها من خلال اللمس والتقبيل. بل شعرت معها بألم فظيع على مستوى البطن والعجيزة. أما سعيد فتخيل نفسه بطلا بمجرد أن صب رغوته البيضاء بين فخذي. قفز نشيطا وغنى من قلبه يكاد يطير من السعادة. وكيف لا يسعد وقد أثبت لنفسه أنه رجل؟ لا يهم أي نوع من الرجال، فالرجولة حسب ما يسمع من أقرانه تقف عند حد الاختراق والقذف. ليس غريبا ما دام الأمر هكذا على العموم في سائر المغامرات. لم يكلف نفسه حتى عناء الاستفسار عن مشاعري، أو تشطيب ما تركه بين فخذي.
قفزت بدوري نحو الحمام بنصف خيبة. في داخلي صوت يلعن حظي، ويتساءل عن مصير أنوثتي. فيما بعد، تساءلت لماذا لا يشبه الرجال بعضهم، ولماذا كتب على النساء أن تضيع مشاعرهن بين الأقدام، في غابة يحرسها ويعبث فيها رجال. علال ينسى أنه إنسان كلما ملكته الرغبة وأغرقت الفحولة نظراته الجائعة. تحسبه قادرا على المستحيل من أجل طرد نيرانها من داخله. يتحول على وحش حافر يتحكم في الأنثى بشهوته ويجرها لميدانه. يقتل كبرياءها ويستخرج منها جنون الشياطين النائمة. أما سعيد وأمثاله فهم عاجزون عن تحمل الحرارة التي يعملون على التخلص منها بأقصى سرعة ممكنة. بعض الرجال لا حظ لهم مع السحر الذي يحيل الأنثى بين أيديهم إلى خادمة مطيعة متنازلة عن حاضرها ومستقبلها. لماذا تصبح أسماء أنثى فاتنة ترفع عاشقها إلى أبعد الأجرام، لا يعود منها إلا بإرادتها؟ هل لثقافة سعيد وتكوينه النفسي والجسدي دورا في عجزه النسبي عن السمو بنفسه وبجسدي معه إلى تلك السماوات؟ حتى في الانتقال حيث يطير علال يحتاج سعيد لتأشيرة العبور. ستبقى أنوثتي مهما فعلت معلبة على هامش الفتنة في انتظار حظ قد يأتي أو لا يأتي. فشل سعيد يتسرب منه إلي ويجعلني أشك وأفقد كل ثقة في ذاتي مهما وصفوني بالروعة والجمال.
سعيد شخص مهذب، ذو تربية لا تقبل الشك أو الطعن. تمت تربيته على أسس تميز بين الخير والشر. بين الجميل والقبيح. بين الحلال والحرام. بين احترام الكبير وحماية الشرف والعطف على الضعيف والضرير ومن هو محتاج للشفقة. كل الخرافات والأساطير حشروها في رأسه منذ ولد إلى أن مكنته من جسدي. ربما رغبتي في منحه ما أقدر عليه مما لا يجعلني نادمة يزيد من عجزه على عكس ما تصورت من قبل. الاقتراب من الدبر ولو كان لأنثى حرام في ثقافته. لذلك لا عجب في أن يكون حظه مع المغامرة والعنف بلا معنى. ظلت أمه وإخوته يحذرونه من معاشرة البنات، لا سيما بنات العائلة، فلا عجب إذن حتى لو توفرت له أجمل الفرص، سيكون تصرفه مقتصرا على الخطف والاستعجال كأنه يفر من إحساسه ومشاعره، أو يخاتل المعتقدات والأخلاق التي تربك جسمه وتقلل من طاقته. لا يكاد يصدق أنه هو المعني بما يفعل. يفعل شيئا يراه حراما وهو على الأرجح لا يعيش فعلته. يسرق الفعلة في غفلة من عقله فحسب. لعله يحس كما لو أنه مجرد صورة لنفسه تغامر وتنهي ما تحب عمله في غيبة من أفكاره وتربيته. مغامراته كلها مجرد سرقات مستعجلة، يدخل مجالها بشكل سطحي على عجل، بدون رغبة صريحة بعيشها. يخاتلها ويخدعها كما يخدع نفسه وجسده. لكل هذا لست حاقدة ولا لائمة. نحن كلنا في الهم سواء.
هكذا فسرت الأمر وتركت الاستطراد والأسئلة تغلبني. نسيت نفسي. لاحظت بعد التجربتين أني صرت أقل افتتانا وتعلقا بحكايات أسماء. اعتبرت الموضوع مسألة حظوظ. وحدها مشاهد تلك الليلة في وسط البحر ظلت تهدد استقامتي. أصبح ما رأيت المثال الوحيد الذي يستحق ما يقال عن الحب والممارسة. يوقظني من النوم أحيانا وأنا غارقة في الهم والعرق. جسدي يتلوى من الانبهار ويحلم بالسماء والنجوم والضباب. أنبهر وأحتمي بالخيال وأبكي في صمت. كأنه مزرعة تنبت العواصف في نفسي. صرت أرى كل التفاصيل حتى تلك التي لم أشاهدها فعلا.. يداي تطاوع أحلامي بدون علمي. تعبثان بجسدي باحثتان عن تعبي وشفائي. أندفع وراءهما إلى المجهول. تشدني المشاعر الخفية إليها بلا ملل، أجري خلفها لاهثة كل مساء ناسية ألف مرة مشاعري مع سعيد. ذلك الولد الذي يسعى جاهدا إلى الرجولة قبل الأوان. كل صباح أندم على ما يحدث لي في الليل. بالنهار تراودني فكرة الإقلاع والتوقف عن سكة الإجهاد المجاني. أغرق في الندم وتأنيب الضمير. أكره نفسي وأمقتها. أبكي ابتعاد روحي عن عالمها ومحيطها الهادئ الرزين. لكني في الليل ألتمس لها ألف عذر كي تمارس جنونها الطارئ. تمضي طائرة بي حيث لا وجود للأساطير والتقاليد والأخلاق. أفيض عرقا وتحمر أطرافي ووجداني يحترق. أنسى بسرعة عزيمة النهار وأنبطح تائهة في صحراء الشهوة الغامرة، في كل خاتمة ألعن حقيقتي وأقسم أن تكون هذه نهاية العذاب.
في ساحة المدرسة التقيت أسماء. لم نتقابل منذ مدة. كنت في الواقع أتحاشى لقاءها. بادرتني بسؤال خبيث مبتسمة:
= أين غيابك أيتها المجنونة. تهربين مني لتحتفظي بالأخبار السعيدة وحدك
= كيف ذلك...سألتها. أية أخبار تعنين؟
= لن ينفعك الكتمان. تصرين على الكذب دائما. لقد أخبرني سعيد بأن التجربة بينكما قد نجحت هذه المرة.
أجبتها بانفعال شديد:
= نجحت؟ ربما هي كذلك بالنسبة لمن أخبرك فقط. أما أنا فلم أجد فيها ما يستحق أن يحكى.
= ولماذا؟ ألم تبلغي هدفك ولو مرة واحدة؟
= لا لم يقع شيء مما تتصورين.
= أأأه...هذا ما يسمى عدم التفاعل أو عدم التكافؤ...أحدكما لم يتقن دوره كما يجب، لا بد من تكرار التجربة مرارا كي تنجح.
= التكرار؟ لا... لن أحتمل، أفكر في التوقف والانقطاع، سأنتظر يوم الزواج.
أطلقت ضحكة ساخرة عالية قبل أن ترد:
= كيف؟ ومتى بالسلامة سيأتي زمن الزواج؟ أراك تفكرين مثل جدتنا. من يضمن لك في الزواج أن ما تبحثين عنه سيتحقق؟ هذا علاوة على ما وراء الزواج من متاعب وبرامج يطول شرحها.
= لكني أكاد أجن، لا يمكن أن أستمر مع سعيد، مع احترامي له كشخص ظريف. كل ليلة أجد نفسي في حالة يرثى لها.. إن كان لا بد من تكرار التجربة فليكن مع رجل حقيقي.
= ومن هو هذا البطل المحظوظ؟
= لم أستقر بعد على قرار. المهم أن يكون من نوع علال....
= هذا الاختيار ليس مستحيلا لكنه صعب التنفيذ. لعلمك، أحن كثيرا للزمن الذي أصبح فيه قادرة على الممارسة مع ذكرين في وقت واحد، لكن العكس لم أتخيله بعد. من جهتي لا يمكن أن أتخيل نفسي مع علال بحضور أنثى غيري.
= لكني لم أقل إني اخترت علال للتجريب، كل ما هناك أني أرى إن كان لا بد من الاستمرار، فليكن مع شخص من طينته ...هذا ما قلت.
= فهمت، لست غيورة وما يربطني به ليس حبا على أية حال.. إني أستعمله فقط لأغراض عديدة أهمها أحاسيسي وأنوثتي. لا أحتمل الإبقاء على جسدي مهمشا مثل جثة ميتة أو مومياء محنطة تنتظر من يزيل عنها الغبار في ليلة الدخلة المعروفة.. علال يمنحني فرصة العمر متى ما شئت. أليس هذا أفضل لي من تعزييب النفس كل مساء معزولة عن العالم.. دعي الموضوع لي حتى يختمر، ربما أدبر لك الحل الملائم
الجزء الثالث
لست أدري كيف تمكنا من النجاح في ظل هذا الاستهتار والتميع...أقول هذا عن أخي على الخصوص، أما أنا فقد كنت أعتمد عليه وعلى أسماء كقاطرتين تسحباني باستمرار. بالنسبة لي فإن أسماء، تعد نموذجا ما دامت تنجح دائما بتميز رغم ما تعيشه من لهو وزندقة. حين أستغرب نجاحها، تضحك وتعلق قائلة:
= من يشحن نفسه بطاقة مثل طاقة "علال" لا بد أن ينجح بكل سهولة. أنا لا أشغل نفسي مثلك طول الوقت بالتفكير الفارغ. ساعة الامتحانات أتفرغ بعد أن أستمد ما ينفعني وأطرد كل أنواع التوترات السلبية.
كنت أسألها عند اللزوم كلما اقتربت الامتحانات، فتساعدني بإخلاص.. الواقع أني لولاها مع أخي، لكنت اليوم خارج الدراسة في وقت مبكر من حياتي. يحدث هذا وأبي لا يسأل ولا يهتم. لم يخطر بباله يوما أن يستفسر عنا في المدارس أو يسأل أساتذتنا. كان يلتقي مديرين ومسؤولين وأساتذة في عدة مناسبات، إما بسبب اشغال البناء والترميم التي يباشرها طوعا أو بالطلب. كان مستعدا على الدوام لتقديم العون حبا في الظهور، لا سيما كلما اقترب موعد الحملات الانتخابية. أو في نطاق اجتماعاته وأنشطته الحزبية. أما في مجال الجد والمسؤوليات الأسرية فقد كنت وأخي نحتل عنده نهاية القائمة بامتياز. الأغرب أيضا أن أمي بدورها تسايره وتصر على الغياب. تنشغل بنفسها عن أحوالي وأحوال أخي. عمتي وحدها تدفعنا مع ولديها، تحتج أمام أمي أحيانا عند اللزوم.
حدثت المفاجأة لما بدأ والدي ينتبه لوجودي... كان ذلك إثر الحفل الذي صادف نجاحي في الانتقال من الإعدادي إلى الثانوي. رأيت اهتمامه في تحول نظراته. لا توجد أي صعوبة في اكتشاف الإعجاب من خلال النظرات، سيما حين بدأ يحرص شخصيا على تقديمي لعدد من زوار البيت من ألمقربين إليه. استمر هذا طيلة موسم الصيف. أمي بدورها زاد اهتمامها بي. صارت تسألني عن أمور وتوصيني بأخرى. تصحبني معها في نهاية الأسبوع إلى مراكش إن غابت عنها لأسباب عائلية أو تجارية تستدعي وجودها بآسفي. بالنسبة لي، أعجبني التحول وأراحني. عثرت فيه على ما يشغلني عن ضياعي وراء الهلوسات والأفكار الطائشة الأخرى. قلت في نفسي لعل ترحيبي بهذا التحول يرجع لكثرة الإطراء والإغراء التي أحصل عليها من والدي وأصدقائه، وشخصيات عديدة مشهورة. كل يعبر بطريقته مندهشا عن جمالي وذكائي. للأنوثة دور لأن العيون لا تخفي ما تسره الصدور. إعجاب الكبار والشخصيات يريح ويغري أكثر من إطراء الأقارب والأصدقاء المراهقين مثلي... بل أكثر حتى من محاولاتي اليائسة مع ابن عمتي سعيد. ورغم أن بعضهم يتجرأ ويبالغ في مدحه، إلا أني تقبلت الأمر واعتبرته تشجيعا دافعا ينقلني بسرعة من مرحلة لأخرى بدون خسائر... مغازلات كبار السن مثيرة ومحفزة تغري بحياة حقيقية. تعلمت التغنج والدلال وصرت لطيفة أكثر من المطلوب. أعجبت أمي باندماجي في ثقافتها وسرعة فهمي لما تسميه البروتوكول.. كانت تعلق على سلوكي مع الضيوف المعجبين بقولها:
= هذه الأميرة تذكرني بنفسي عندما كنت في سنها.
من حين لآخر كنت أسمعها تجود علي بمزيد من النصائح الثمينة كخبيرة لا يشق لها غبار. تعلمني كيف أرد إن لم ترقني مغازلة أحدهم... كيف أجيب إن حدثني آخر عن خصوصياتي. تقول لي، اعتبريه فضولا لا غير. ردي عليه بابتسامة ثم انصرفي. أما لو سألوني عنها وعن أبي فالصمت هو أحسن رد ممكن.. لا تغضبي أبدا، تقول، حتى لو اعتبرت السؤال خبيثا أو سبة أو تدخلا في شؤون الأسرة الداخلية... الحساد كثيرون، ومنهم من يهمه أن نتخالف ونسئ العلاقة ما بيننا.. أعجبني خاصة أنها بدأت تسمح لي باحتساء قدر محدود من زجاجات البيرة كلما شعرت بالمضايقة أو اشتد علي الحر، أو كثر من حولي الزوار. تقول لي :" البيرة جيدة لأمثالكن شرط ألا تدخني" هذا أفضل لك من مساحيق التجميل. ترتخي الأعصاب ويتبخر التزمت والانغلاق والتشنج وتذهب عنك الدهشة ويصبح كل شيء في نظرك سهلا قابلا للتنفيذ.. فضلا عن ذلك تحمر الوجنتان ويعلو بريق العينين...وتزداد الجرأة.
كانت أمي تحرص على التسوق أسبوعيا... تخصص صباح يوم الثلاثاء للتجول في الأسواق القديمة المعروفة.. ثم تعود إلى متاجر حديثة في مركز المدينة. عرفتني على بعض الباعة، بعضهم يعرف جدي.. كانت تفضل الخروج صباحا قبل أن يشتد لهيب الشمس المراكشية... أرافقها كنوع من التدريب وملء الفراغ بدلا من البقاء وحيدة بالبيت. خيل لي من تقاربها معي، أني بدأت افهمها كما هي لا كما كنت أتخيل.. كنت مخطئة. اعتبرتها مجرد ظل لوالدي حتى عاشرتها يوميا، لما بدأ الكلام بيننا يتقوى ويحفر مساراته الطبيعية. أمي امرأة هيأتها السليقة الأنثوية، مع ما ورثته من جدتي، إلى الاندماج بسهولة مع أصعب الأمزجة وأكثرها تعقيدا وأنانية.. ومن ضمنها عقلية أبي. ربما لذلك أصبح يوكل لها شرح وتقديم ما يعجز هو عن فهمه وشرحه.. خاصة ما يتصل بعلاقاته المعقدة، ومواعيد لقاءاته حتى السياسة منها... خاصة ما يتصل بالتنظيم. توجه الدعوات بحرص شديد دون أن تغفل أي اسم يستحق الحضور.. تقترح قبل ذلك أسماء معينة فيستغرب، لكنها تلتمس منه عدم الاستعجال وتنصحه بالتفكير في ربط الصلة بين الاسم المقترح وبين الغايات التي يرمي تحقيقها. عندما يعثر على الخيط الناظم، يوافقها فورا... بعد أن تكررت الحالات لم يعد يتردد في الموافقة.
أصبحت أمي بجمالها وقوة شخصيتها، وحسن تدبيرها، مضرب الأمثال. لم تكن تعترض أو تسأل عن الجدوى من أي فكرة أو مشروع.. مما زادها قوة وقبولا لدى والدي. تساعد فقط في الخطوط الكبرى إذا طلب منها ذلك.. أو في اقتراح بعض الإضافات الضرورية، وهندسة الخطوات الأولى... استمدت هذه القدرة من جدتي، مهندسة الديكور التي يعرفها الجميع في مدينة آسفي. أمي ذات خبرة كذلك في إيجاد الوسائل والسبل والأمور اللوجستية. حتى تقدير الميزانيات حسب مستوى أي مشروع... تعرف النقط الحساسة ولا تغفل أي جانب، بما في ذلك متطلبات السفر والإقامة والأكل والسياحة.. تحضر كل شيء وتترك التطبيق لأبي ومساعديه الذين لا نعرف من بينهم إلا القليلين.
تدريجيا، أخذنا نتحدث عن الجوانب الحميمية دون رفع **** الحشمة بشكل كامل.. منذ البداية كانت خطتي هي أن التمسك بالإنكار يؤكد البراءة... مع ما في الإنكار من مخاطر فقدان الثقة التي بدأنا نرسخها بيننا بصعوبة. سألتني إن كان لدي صديق في المدرسة، أو من بين أبناء العائلة. فلما أنكرت، أعادت طرح سؤالها بطريقة لطيفة ومحتشمة:
= حبيبتي هذا أمر طبيعي. لقد أصبحت الآن في الثانوي، أنت فتاة جميلة ومثيرة.. منظرك يوحي بأنك أكبر من سنك الحقيقي. لا بد أن تجدي نفسك تحت المجهر.. صدقيني بعد قليل سيتكاثر حولك المعجبون. لهذا عليك أن تستعدي جيدا لما سيأتي من تغيير في حياتك. وأنا لا أرمي بالسؤال أن أحرجك أو أمنعك. كأم هدفي هو تحضيرك نفسيا وجسديا. بوسعك أن تكسبي أصدقاء، ولكن إياك أن تقعي في الحب.. أحذرك من التعاطي للجنس قبل الأوان... خاصة أن والدك بدأ يهتم بمستقبلك ويخطط لنجاحك. أنت تعرفين أنه لا يضع عينه على أمر إلا حين يتأكد من أهميته ويثق في نجاحه.
اكتفيت بالاستماع والشكر والإنكار طبعا... حرصت على عدم مناقشتها كي لا تستدرجني لحلبة لا أتقن النزال فيها. بدا عليها الاطمئنان رغم كونها لم تصدقني تماما ولم تطرد الشك. قالت لي إن عمتي أخبرتها بأني مؤخرا صرت أمضي وقتا أطول مع ابنها سعيد. قلت لها:
= هذا صحيح، لكنه كان في فترة التحضير والمراجعة قبيل الامتحانات فقط. ورغبة مني في كسب مزيد من ثقتها أضفت قائلة:
= لست حمقاء حتى أسمح لأحد أبناء العائلة أن يتجاوز حدود ما هو مسموح به.
لاحظت أن جوابي أقنعها وأفحم فضولها. فجأة، خطر ببالي أن اسألها عن جمال.. كنت أعلم أنها طالما استعانت به في بعض تمارينها الرياضية، أو للحصول منه على جلسات تدليك بالمجان.. لم تكن هذه ميزته الوحيدة، فقد كان منذ صغره متفوقا في مجموع المواد العلمية، كريما في مساعدة أبناء العائلة. يقدم دروسا في الرياضيات والفيزياء لأخي وأخيه سفيان وأسماء وآخرين مجانا، أو بمقابل رمزي.. أجابتني وهي تحدق في عيني كأنها تبحث فيهما عن سبب السؤال:
= أنت تعرفين أن والدك منعه من زيارة البيت، ومنعني أيضا حتى من مقابلته خارجه. غير أن عمتك حين سألتها عنه، قالت إنه تغير بعض الشئ عن المعتاد.. صار كئيبا محبا للانعزال. بل لم يعد يزورها في بيتها منذ انتقل لدراسة الطب بمراكش. هي التي تذهب لرؤيته عندما نطلب منها خدمة أو مساعدة هنا بمراكش. المهم أنه نجح في نهاية سنته الأولى بالكلية.. ما يثيرني، هو أنه بعث لي مع أمه يلتمس مساعدة مالية، مع أنه عادة ليس مسرفا.
= وكم تبلغ المساعدة المطلوبة؟
= طلب مبلغا يفوق ألف دولار بقليل، حوالي اثني عشر ألف درهم تقريبا.. هذا عدا ما أرسله له في نهاية كل شهر..
عندما سمعت الخبر من أمي فكرت أن جمال ربما يريد شراء دراجة نارية تخلصه من انتظار وركوب الحافلات ذهابا وإيابا للكلية. لكن بعد صمت قصير، استأنفت أمي حديثها:
= ليس المهم هو المقدار، بل التبرير الذي قدمه. إذ حسب أمه، فإنه يريد المشاركة مع جماعة من الزملاء في رحلة إلى تركيا ومنها إلى الديار المقدسة لأداء مناسك العمرة. سوف أخبر والدك وإن وافق سوف أساعده طبعا.
شعرت بفخر كبير وأنا استمع إليها.. هذه هي الأم التي كنت أطمح إليها وأبحث عنها. كم تمنيت أن تكون أمي سخية وسيدة صالحة أفتخر بها وبسمعتها.. مثل جدتي تماما. سيدة تشمل أفضالها جميع المحتاجين.. تحب الخير للجميع وتضحي من أجل ذلك. سموحة رؤوفة بقدر اتساع قلبها. لم أعلم بعد هذا بنهاية ما طلبه جمال. هل قبل أبي مساعدته أم رفض؟ وإن رفض ما هي تبريراته. لقد صادف في نفس الأسبوع فقدت جدتي أحد إخوتها. توفي إثر حادثة خطيرة، اصطدمت سيارته بقطار عند أحد الممرات غير المحروسة. يحدث هذا حتى في بلد كالسويد.. تقرر أن ترافقها والدتي وخالي، بحكم توفرهما على الجنسية السويدية بالوراثة عن جدتي. كان من الأدب أن تشارك الأسرة في العزاء والقيام بواجبات القرابة. ستقضي أمي أسبوعا على الأقل مع جدتي أو أكثر.
هكذا وجدت نفسي من جديد وحيدة، أواجه قرفي ومللي وأستعيد هلوساتي المحنطة قبل أن تزول وتختفي. لم أكن أرى والدي إلا نادرا في المساء. غالبا ما كان يعود للبيت بعد منتصف الليل، في حين كنت ألجأ لغرفتي باكرا في معظم الأوقات. كنت أفعل نفس الأمر حتى في حالة وجود أمي. أحسست بملل ثقيل. تجولت وحدي مرارا واكتشفت معالم لم أكن عرفتها من قبل. أترك البيت مع **** المغرب، حين يخف القيظ وتتحرك بعض النسائم المنعشة.. أتسكع في شوارع وأزقة وأحياء لا أعرف منها سوى القليل. عشية اليوم الثالث بعد سفر أمي، سمعت أذان العشاء بينما أقف في إحدى "حلقات" ساحة "جامع الفنا" أتفرج على مسرحية يرويها رجل أعمى.. قررت العودة للبيت بالحي الشتوي. حينما مررت قبالة **** الكتبية، أمسكت يد قوية بذراعي. التفت نحو صاحبها، فإذا أنا أمام رجلين. أحدهما قوي الهيأة طويل يبدو من نظرته، عند التركيز عليها، أنه ما يزال في بداية الشباب. الآخر قصير أصلح مستدير يشع الفراغ المخيف من عينيه.. ارتبكت خائفة لكن الرجل الطويل تأملني ثم ابتسم، أخيرا تبينت أنه ابن عمتي جمال. نعم هو بالذات بغير صفاته المعروفة. كانا معا يطلقان شعر اللحية حتى تدلى فوق الصدر بلا نظام. كان حليق الشارب والرأس، كلاهما يضع فوق رأسه طاقية مراكشية قصيرة ومدورة لا تغطي مجمل الرأس. ذات شبه كبير بكوفية اليهود، تستقر بالقنة وحولها بقليل. يلبسان جلابيتين لونهما أسود بدون قب أو غطاء. تحتها أقمصة بيضاء مصنوعة من القطن. وينتعلان صنادل تطل من مقدمتها أصابع الأقدام نافرة. سألني جمال مبتسما حين رآني مشدوهة بعد أن زال خوفي:
= ما هذا يا "نورا" ألم تعرفيني؟ إلى هذا الحد تنسين ابن عمتك؟ ودون انتظار الرد، أشار إلى صاحبه:
= أقدم لك الأستاذ محمود حامد الشعراوي، ثم لف رأسه جهة مرافقه، وأكمل التقديم:
= وهذه "نورا" بنت خالي وابنة السيدة التي حدثتك عنها.
كان يبدو عليه الاستعجال. دون أن. يفلت ذراعي من كفه، قال:
= لو سمحت، أرجوك انتظريني قليلا ريثما أصلي العشاء.. لدي الكثير مما أود أن أقوله لك أنت بالذات. لا تخافي، سوف أرافقك في عودتك إن كنت ذاهبة للبيت. لن أتأخر عنك طويلا.
وقفت منفذة طلبه وأنا أستغرب في داخلي مستوى التحول.. عهدي به رياضيا وسيما، فكيف يطلق لحيته هكذا بين يوم وليلة؟ كيف يرمي "تي شورتات" التي تبرز عضلاته وتقدم شبابه ومظهره بهجة للناظرين؟ اين اختفى الشاب اللطيف المبتسم دائما. ذلك النشيط المعروف بخفة دمه، ومعشره وميله للهزل والضحك؟ من أين هبت عليه مسحة الرزانة المبالغ فيها حتى أضافت لعمره سنوات لم يعشها؟ صارت صورته كئيبة حزينة تحمل هموم العالم.. صحيح ما حكته عمتي عن تحولاته الغريبة. لم أتوقع أن يكون جمال الذي أحمل عنه ذكريات طيبة قد انمحى تماما وحل مكانه شخص أكاد لا أعرفه. وهذا الأستاذ الذي يرافقه، ألا يبدو غريبا عنه؟ اسمه الثلاثي يدل على أنه قادم من الشرق.. يبدو سنه فوق الأربعين. فكيف يعاشر جمال رجلا يكبره بعشرين عاما على أقل تقدير؟ ما الذي كان يعنيه بقوله" ابنة السيدة التي حدثتك عنها"؟ ما دخل والدتي في الموضوع؟ ومنذ متى كان جمال من هواة النميمة؟ ترى ماذا قال له عن أمي؟ لماذا طلب مني انتظاره؟ هل بلغت خطورة الموضوع إلى هذه الدرجة؟ هل من الضروري أن أنتظر أم يجب علي الانسحاب؟ وبينما أنا أتساءل بداخلي، لمحته قادما صحبة أستاذه القصير المدكوك الذي يدعو منظره للضحك. وقفا بعيدا عني قليلا، فهمت من خلال الحركات والإشارات أنه يودعه. يبدو أن الأستاذ يعتذر بلباقة ليتيح لجمال مرافقتي وحده.
عبر الطريق في اتجاهي. بدلا من إلقاء التحية باحترام كعادته، باغتني بسؤال مباشرة دون مقدمات:
= ماذا كنت تفعلين هنا وحدك في هذا الوقت؟ نظرت إليه مستغربة قبل أن أرد:
= وعليكم السلام ورحمة **** تعالى وبركاته.
ابتسم محرجا، نظر في عيني
= سألتك من باب الحرص والخوف عليك فقط.. أنت عائدة إلى البيت بدون شك؟
= بالطبع.. وأين تريد مني أن اتجه؟ ليس لدي أصدقاء هنا ولا أحباب.
= وأنا؟ ألست من ضمن الأحباب؟ أم تراك تحرمين لقائي مثل أبيك؟
= لا داعي للحديث عن أبي من فضلك. كل ما في الأمر أني لا أعلم بالضبط أين تقيم، كما أني سمعت من عمتي أنك صرت تحب الوحدة والانعزال بعيدا حتى عن والدتك.
= فعلا، ولكن ليس معك أنت...
= أمرك عجيب حقا. هل نسيت الرسالة التي بعثتها لي مع هديتك الغريبة؟ لقد فهمت منها أنك تريد قطع العلاقة معي أنا بالتحديد.... لكن كدت أنسى.. هل أنت عازم فعلا على أداء العمرة؟
= نعم. لولا أن أباك، سامحه ****، غير موافق.. الحمد *** أن جدك الحاج عبد الإله سمع بالخبر، فأدى جزاه **** خيرا ثمن تذكرة السفر. أمك أيضا بعثت لي بمبلغ محترم قبل سفرها بيوم واحد.
كنا نسير في شارع محمد الخامس نحو مدخله الغربي.. كانت العتمة تغطي بعض المساحات بسبب المصابيح المعطلة أو لوجود أشجار كثيفة الأغصان.. اقترب مني جمال أكثر حتى لامسني جانبه الأيمن.. سألته:
= ما حقيقة هذا السفر إذا جاز لي أن اسأل؟
= هناك جماعة من الطلبة لم يلتحقوا ببيوتهم بحلول عطلة الصيف. اتصل بعضهم بوكالة أسفار معروفة تنظم رحلات إلى السعودية مرورا بتركيا بأسعار مقبولة.. سجلت نفسي معهم لأني وجدت الفرصة مواتية لأداء فريضة العمرة، لا حرم **** منها مسلما. هذا كل ما في الأمر.
= ومن هو الرجل الذي كان معك قبل قليل؟
تريث قليلا يفكر قبل أن يجيب. أحسست كما لو أنه يحترز أو يتوجس. لكنه عاد بسرعة لهدوئه السابق، قال:
= إنه أستاذ مصري معروف. طبيب متخصص في أمراض وجراحة الغدد.. كان يدرس الطب بليبيا.. ثم هاجر منها على إثر انفجار ضرب كنيسة قبطية في بلده مصر، وكان أن ورد اسمه ضمن التحقيقات.. فصار مقامه بليبيا غير محمود لقربها من مصر.. وقد جاء منذ حين للمغرب سائحا عاديا.. اتصل به بعض الإخوة لإلقاء محاضرات في مواضيع معينة وخصوصا الطب وعلاقته بالإسلام.. هو اليوم مجرد ضيف لأن السلطات لم ترخص للمحاضرات.. يتنقل من بيت إلى آخر حتى تنتهي العطلة.
توقف عن الحديث فجأة. انتبهت فإذا نحن على بعد أمتار قليلة من بيتنا.. لم أشعر نهائيا بالمسافة الطويلة التي قطعناها. كنت مركزة ومشغولة بحديث جمال وأخباره. سألته قبل توديعه:
= هل تقيم وحدك؟ أليس معك طلبة آخرون؟
= بالطبع أقيم وحدي. أستقبل أحيانا بعض الضيوف ليوم أو يومين، ثم ينصرفون. لماذا السؤال؟
= تعلم أن أمي لن تعود قبل أيام، وأنا وحيدة هنا اشعر طول النهار بالضجر.. أسبح وأقرأ كثيرا ومع ذلك أحس بالضيق والملل.. لا أعرف مكانا هادئا ألتمس فيه الراحة والمؤانسة.
= ألف مرحبا... يمكنك زيارتي متى شئت قبل سفري. هل ما زلت محافظة على رقم هاتفي؟
= نعم...
= إذن اتصلي بي مسبقا للاستعلام والتأكد من وجودي... بالمناسبة أرجوك لا تخبري والدك أننا التقينا. أنت تعلمين أنه يكرهني بلا سبب معلوم.
= شكرا... لا تخف، لن أخبره...إلى اللقاء
عند وصولي، قصدت المطبخ مباشرة بسبب العطش الشديد. لم تغب صورة جمال الجديدة عن دهني.. كان من المفروض أن يدفعه وضعه كطالب في الطب إلى الانفتاح لا إلى التزمت والانعزال عن أهله.. وجدت السيدة الجديدة التي لجأت إ أمي لخدماتها ما تزال تنتظر عودتي. حييتها واعتذرت لها عن التأخر. سمحت لها بالمغادرة. استعجلت خروجها لأن الحرارة صارت تدفعني للبحث عن البرودة في الاستبرار) من البيرة( كانت "لولا" كلبة والدتي تقف بجوار الثلاجة محدقة في تحركاتي.. عيناها حزينتان تستعطفان.. تذكرت أنها لم تأكل شيئا منذ أمس.. لعلها تفتقد صاحبتها التي كانت تدفئها باستمرار قرب صدرها.. كل المخلوقات تبحث عن الحنان والحب حتى الكللابب.. وضعت أمامها قليلا من طعامها المفضل، علبة من سمك السردين المعلب مرفوقة ببعض المقرمشات.. فتحت زجاجتي وقصدت غرفتي. في الحمام، ما كادت أصابعي تنزلق بالصابون على جسدي متجولة بين الهضاب والشقوق والمخفضات حتى هاجمتني هلوساتي بجوعها المعتاد.. كنت أرتعش ملسوعة أتقافز كمن أصابها مس كهربي مع المياه الباردة. لن أستطيع النوم بهدوء هذه الليلة ذهب بي شيطاني فورا إلى لقائي المفاجئ مع جمال.. تأسفت كثيرا لحاله، إذ بقدر ما كان مظهر جسده ووسامته يستفزني من قبل بقدر ما نفرت منه وأنا أستعيد مظهره الجديد..
تذكرت رسالته التي سبق أن بعثها لي رفقة أمه. أحسست بيأس أعاد لي بعض الهدوء. رسالة مملوءة بالحقد والنصائح ومزينة بنصوص قديمة.. يعترف لي فيها بحبه ويعتذر في نفس الوقت بحجة أن أبي لن يوافق لو طلبني للزواج..
في تلك الليلة، لم يعد أبي نهائيا للبيت.. ربما شغله عني بعض اجتماعاته وأعضاء حزبه. شعرت بالخوف قبل أن أتذكر أننا نتوفر على حارس ليلي مصحوب بكلب مدرب. ندمت لأني لم أطول جولتي خارج البيت.. لو كنت أعرف أني سأبقى وحيدة أثناء الليل لكنت تأخرت في العودة. ابتسمت كحمقاء حين خطرت لي فكرة اغتنام الفرصة للتعرف على حياة الليل.. سأفعلها ذات ليلة قبل أن ترجع أمي، رغم أنه لا أحد يرافقني..
بعد يومين من لقائي معه، هاتفني جمال صباح اليوم الثالث:
= صباح الخير "نورا"
= صباح الخير جمال
= لماذا لم تتصلي؟ ألم تعد أمك من سفرها بعد؟
= لا.. ليس بعد.. هل من جديد؟
= لا جديد تحت شمس هذه الأرض. سوف أسافر مع أصحابي قريبا. فكرت أنه من الضروري أن أراك. لدي بعض الأسرار أود لو أمكن أن أطلعك عليها.
= خير إن شاء ****... ما هي طبيعة هذه الأسرار؟ ألا يمكن أن تخبرني بها الآن؟
= خير... لكن بخصوص الأسرار فإنه يستحيل علي أن احكيها لك بالهاتف. لا بد أن نتقابل
= إذن نلتقي عشية اليوم بعد العصر...
= أفضل أن نلتقي قبيل العشاء... ستكون مناسبة لنتعشى معا.. أود أن أحو من ذهنك الانطباع السئ الذي تركته رسالتي السابقة. شرفيني بقبول الدعوة.
= لكني لا أعرف اين تقيم بالضبط..
= انتظريني أمام بناية البريد، في شارع محمد الخامس.
= أوكي...إلى اللقاء إذن. ثم أقفلت السكة.
لم تثرني الدعوة المباغتة بقدر ما استفزني موضوع الأسرار.. استغرقني التفكير والتخمينات إلى درجة أن رنين الهاتف جنبي أفزعني. اتصلت أمي عبر الواطساب تطمئن علي... سألتني عن كلبتها "لولا" وعن البيت ووالدي.. قالت إنها تطلبه لكنه لا يجيب.. وافقتها فيما تقول. كان من المفروض عليه أن يعزي جدتي في وفاة أخيها. أجبتها أنه ليس هناك ما يدعو للقلق، باستثناء الفراغ والملل واليأس والضجر الشديد.. نصحتني بالخروج قليلا كل يوم للتجول، دون الابتعاد كثيرا عن البيت. في الأخير حذرتني من الخروج ليلا عندما تسود العتمة ويكثر المغامرون.
وقفت طويلا أمام المرآة قبل مغادرة البيت. لم أتعود بعد على تلطيخ وجهي بالمساحيق.. لولا خوفي من تعليقات جمال، وخوفي من إعطائه فرصة جديدة لاستعراض عضلاته الأخلاقية، لكنت تسلحت بجعتين فقط... صدقت أمي في وصفها لتأثير الكحول على الجمال. شعري وحده يحتاج لتسريحة تعيده لبريقه ولمعانه وانسيابه. عدلت وضع الخصلة المتمردة المتراقصة على الدوام حول عيني اليسرى. عقصت الباقي خلف عنقي.. تأملت لون عيني، كان لونا يتأرجح بين الرمادي الفاتح والرمادي الأزرق.. جينات جدتي تقاوم الاندثار.. لم يبق مجال للشك أني نسخة طبق الأصل من الممثلة الأمريكية "جنيفر لورانس"... كل من رآني أو عرفني يشهد لي بالشبه.. تواطأ الكل على ذلك حتى صدقتهم بدوري. استثناء واحد في لون الشعر وطريقة تسريحته.. تساءلت عن اللباس المناسب للخروج. لون كتفي صار نحاسيا لكثرة استمتاعي بأشعة شمس الصيف جوار المسبح العائلي.. من العيب أن أخفيه عن النظرات الفضولية المتفحصة..
ارتديت قميصا اسود، نصف شفاف.. بدا لون البشرة تحته مثل كوب من الحليب الممزوج بالقهوة. أسفله بنطلون جينز ممسوح الزرقة به تقطيعات على مستوى الركبتين.. على قدمي وضعت صندلا بخيوط مذهبة وكعب متوسط الارتفاع عن الأرض، ثم أسرعت للخروج. أدركني أذان العشاء وأنا أنتظر سيارة أجرة تقلني لبناية البريد. شاهدت جمال واقفا أمام باب البناية قبل أن أترك الطاكسي. لاحظت بسرعة أنه شذب قليلا من شعر لحيته. حجم وجهه استعاد تقريبا شكله المعروف، لم يعد محيطه مشتتا بالشعر المستفيض الذي أهمل من كل جانب. بدا لي بلباسه الرياضي الأخضر الملتصق بعضلات جسده أجمل وأطول. علامة "نايك" على كتفه كأنها نجمة مزهوة بوضعها.. على جانبي بنطلونه خطان أبيضان لامعان يسيلان من الحزام حتى القدمين، يضفيان عليه مزيدا من الطول..
كنت أعرف موقع العمارة لأنها ملك جدي، لكني لا أعرف في أي دور تقع الشقة. يجب علينا الانحدار نحو غرب الشارع مسافة كلم تقريبا أو يزيد. بعد التحية، سألني شاكرا لي قبول الدعوة، أين أفضل تناول طعام العشاء. خارج أم داخل الشقة؟ أجبته أنه لا فرق عندي، خصوصا أني أتجنب هذه الوجبة حرصا على رشاقة الجسد. رد علي أنه بدوره لا يميل كثيرا للأكل خارج البيت.
تقع الشقة في الدور الثالث بعمارة بها خمسة أدوار. ركبنا المصعد. ما كدنا نفتح بابه عند الوصول حتى انسابت إلى خياشيمي رائحة بخور.. باب الشقة قريب من المصعد يفصله عنها بضعة أمتار. فتح جمال الباب فارتفعت حدة الروائح مثقلة بالبخور، كأن الشقة كلها مغسولة به. كدت أختنق. أمضيت وقتا طويلا نسبيا كي أتعود على الروائح المبثوتة من الصالون والمطبخ وغرف النوم. فتحت نوافذ الصالة والمطبخ وحجرة نوم جمال. مع هذا بقيت الرائحة لاصقة بالفراش والستائر.
كانت الشقة مفروشة بتقشف كبير.. قال إن أمي اشترت له السرير وفراش نومه ذي القوائم الأربعة، التي ترتفع عن مستوى سطح الفراش.. استغل جمال القوائم ليثبت عليها من كل الجهات قماشا شفافا يقيه من لسع الناموس وإزعاج الذباب والحشرات الطائرة عند النوم.. حرارة الجو في مراكش دائمة لا يفيد معها سوى عزل الفراش عن جو الغرفة وفتح النوافذ ليلا كي يحصل على بعض النسائم المنعشة.. حيلة تغني من ليس بوسعه شراء مكيفات..
جدران الشقة، في الممر والصالة وغرفة النوم، وحتى في جزء من المطبخ كلها مغطاة بزرابي صغيرة بها صور نخيل، أو صور الكعبة المنورة، أو بضع آيات وسور من الذكر الحكيم. اتجهت بعد فتح النوافذ إلى الصالة. لم يكن بها سوى بعض الزرابي الحمراء. معظمها سوسية من جبال الأطلس.. بعضها كنت شاهدته في بيت جدي وجدتي.. عليها وسائد مملوءة بالصوف تستعمل للنوم أو الجلوس. في المركز مائدة مستديرة لا ترتفع كثيرا عن البساط. وجدت في المطبخ كرسيين جلست على أحدهما بينما وقف جمال أمام صحن الغسيل يغسل في صنبوره بعض الخضر، شاهدت منها حبات من البطاطس. اعتذر لي قائلا إنه سيهيئ الطعام.
أردت الهجوم فورا على الموضوع الذي جئت من أجله. كنت أفكر في طريقة لبقة لافتتاح الحديث... بينما أنا أبحث عن الكلمات المناسبة، سمعته أخيرا ينطق قائلا:
= هل تعلمين أن والدتك زارتني هنا عدة مرات قبل أن يمنعها ابوك؟
تركت كلماتي حائرة تفتش لنفسها عن مخرج، انحرف تفكيري ناحية السؤال:
= وما الذي كان يدفعها لزيارتك يا ترى؟ ... سألته باستغراب ظاهر
= تلك قصة أخرى تحتاج لوقت طويل، قد أحكيها لك من بعد لو سمحت الفرصة. في الأول، ساعدتني قليلا.. هي التي نقلت لي الأواني والزرابي في سيارتها "رونج روفر". صراحة تعاملت معي كأخ، لكنها حافظت بعد ذلك على زيارتي مرة في الأسبوع بصفة منتظمة.. كلما حلت بمراكش تجد دائما وقتا مناسبا لتزورني.. فسرت الأمر بداية على أنه نوع من الاهتمام والرعاية، فإذا بها تفعل ذلك رغبة في الحصول على تمارين التدليك، بحجة إزالة العياء بعد تمارينها الرياضية الأسبوعية. وأحمد **** أن والدك منعها مني زيارتي نهائيا. في قاعة الرياضة كان الأمر عاديا، أما هنا، وحدنا، فلا أخفي عنك أني وجدت نفسي في غاية الإحراج. كان حضورها بمثابة استفزاز مدروس.. ما زلت إلى الآن أستغرب من قدر ما تبديه من سذاجة وعفوية تصرفاتها تلك.
= ولماذا كل هذا الحرج إن كنت تنظر إليها كأخت؟
= أنت على حق.. إنها تكون أختا حين تلبس ثيابها. أما حين تستلقي أمامي عارية، تسلمني كل جسدها الفتان للتدليك، فذلك أمر آخر.
= كيف تستلقي أمامك عارية؟ هل جنت؟ ألا تخجل منك؟
= وهل سمعت بامرأة تطلب التدليك دون خلع ملابسها كاملة؟
كان يوليني ظهره المفتول العضلات تحت تي شورت أبيض بلا أكمام. مستغرقا في تقشير البطاطس. كادت كلماته تصعقني.. فاجأتني صراحته وجرأته. جمال شاب رياضي وسيم جدا. لونه ذو سمرة خفيفة وعيناه حوراء شديدة السواد والبياض على السواء.. باختصار هو من النوع المثير الذي تحلم به النساء.. دمه خفيف ميال للهزل باستمرار.. لم يكن سابقا يحس بثقل التقاليد وكثيرا ما خاصمته أمه لهذا السبب.. في آسفي كان إلى جانب الرياضة وحرصه على أوقاتها، كثير التسكع في المقاهي والساحات، حتى ساءت سمعته رغم براءته... كان هذا قبل تحوله الظاهر نحو الانعزال والتطرف السني... وأمي بدورها سيدة رائعة الجمال. صورتها لا تختلف عن جدتي السويدية.. عيناها ميالتان للزرقة وشعرها كثيف ينساب خلفها كشلال ثائر تتراقص خصلاته مغطية ظهرها وكتفيها. جسدها رغم سن الأربعين رشيق لا يختلف عن جسدها في العشرين إلا قليلا.. تحرص بكل الطرق على طقوس وحركات مدروسة وحتى طريقتها في الكلام متأنثة زيادة عن المألوف.. صدرها لم يترهل قيد أنملة عن زمن المراهقة، لم نفز منها عند الميلاد بحظنا من الرضاعة إلا لحظات. وفي كل تمارينها حركات وأثقال حديدية تحافظ على حجم نهديها وصدرها بصورته الأولى.. حتى أني أغير منها وأنا ابنتها... أنثى مثالية في المشي والوقوف والنظرات. كل حركة منها تفيض دلالا حتى اتهمت بالتصنع أحيانا... فكيف لجمال أن يصمد أمامها عارية؟
قلت في داخلي، لماذا لا يكون حديث جمال مجرد كذب في كذب؟ لعله يستدرجني لمواضيع لم يجد الطريق لطرحها معي بصراحة أو بلا حرج. لا يمكن لأمي أن تتعرى أمامه هنا، وهما وحيدان بلا رقيب.. لو حدث فعلا ذلك، فليس له سوى معنى واحد.. لعلها تتحرش به أو تحبه. غير أني أعرف أمي جيدا من هذه الناحية. فهي تثق بأبي وتحبه وتكاد تعبده. فلماذا تتحرش بابن أخته؟ ألا تخشى الفضيحة؟ ولماذا أصدق ابن عمتي وأمي غائبة لا تملك حق الدفاع أو التوضيح؟ ألا يمكن أن تكون العادة هي السبب؟ لقد كان يدلكها في بيتنا وربما من ناحيتها ما زالت تعتبره صبيا غير قادر حتى على الدخول في الهلوسات والخيالات الجنسية. لعل هذا المنطق هو الأقرب للصواب، فكثير من نساء الأسر، خالات وعمات وغيرهن يجدن أنفسهن فجأة محرجات من الاكتشاف المفاجئ لبلوغ صبيان طالما حظين بضمهم وعناقهم ومداعبتهم.. أمي مخطئة فعلا لكنها لم تقدر فداحة صنعها... هذا جزء من عفويتها كما قال جمال نفسه. وحتى لا قدر ****، لو كانت تراودها فكرة الخيانة فإنها لن تختار جمال بالتحديد، لأنه من العائلة.. عندها ما لا يحصى من الرجال كل أسبوع. جميعهم غرباء وأهم من جمال، وكلهم يشتهون لحظة واحدة في حضنها.
= لم أصدق ما قلته يا جمال.. ألا يمكن أن تكون حالما أو هي استيهامات تتغلب عليك؟
لوى رأسه نحوي دون جسده.. ركز عينيه في عيني
= أنا آسف لأني هجمت عليك بهذا الموضوع. أفهم أن تدافعي عن أمك بهذه الصلابة. وحتى هي أعذرها، لأن من يعاشر رجلا كخالي لا بد أن ننتظر منه أي شيء.
= كفى هراء من فضلك.. هل تتخيل نفسك في حجرة العمليات؟ انتقلت إلى أبي قبل تصفية حسابك مع أمي.. لم أتصور أنك ستواجهني بهذه القسوة.. هل هذه هي أسرارك التي وعدتني بها؟
= أعتذر لك إن كنت قاسيا. لكن أقسم لك، وأنا رجل مؤمن كما ترين، أن ما قلته هو الحقيقة.
= لنفرض أن ما قلته صحيح، لكني أعرف أمي وأثق في استقامتها ربما أخطأت بالتعري، لكني واثقة أنها تعاملك كأخ أو كأحد أبنائها.. لعلها استمرت على ما تعودت عليه نحوك، لم تنتبه لتقدمك في السن...
= يا لك من محامية صلبة. إن ما خفي أعظم لو تعلمين. فأنا لم أخبرك بالتفاصيل كلها.. المرة الوحيدة التي أتفق فيها مع خالي وأبارك قراراته، هي أنه منعها ومنعني من لقائها. لقد أكد بمنعه أنه رجل يعرف زوجته جيدا ويستبق ما يمكن أن يأتيه منها.
= كمل، تكلم أفرغ ما في جعبتك.. يبدو أنك تخفي عني أكثر مما سمعت.. هل لديك دليل واحد؟ أنت تزعم إذن أنها تتحرش بك، يا لك من مريض جاحد للجميل
= لا تغمضي عينيك يا نورا، حتى لا تصابي بصدمة نفسية حين تكتشفين حقيقة أمك بنفسك.. أما. عن نفسي، فأنا واثق مما أقول. ما يدفعني لإخبارك هو تقديري واحترامي لك وللحاج عبد الإله جدك، الذي لا يستحق أن يكافأ بمثل تصرفات أمك.. من حقك الدفاع عنها لكن لا تتبعي سياسة النعامة..
= لن يصدقك أحد ما دمت لا تتوفر على دليل ياج...
= إن أردت الدليل فهو موجود. سوف أعطيك دليلا واحدا فقط. جربيه عندما ترجع أمك من السفر. حاولي أن تغني في حضورها أغنية) يا جميل يا جمييييل، يا جميل / على حبك باااان لي دليل (أو أغنية) جميييل جمال / مالوووش مثال (وكلاهما لفريد الأطرش.. ركزي عينيك على وجهها وردود فعلها، وكل ما قد يصدر عنها من أقوال وحركات. سوف تنقبض وتتلون وتتحرج بالتأكيد... لا بد أن تسألك عن سر غنائك لهاتين الأغنيتين بالضبط، أو كيف ومن أوحى لك بهما...
= وما هو فعلا سرهما؟ ابتسم قبل أن يرد:
= كثرة الهم تضحك، كما يقال، الأغنية الأولى تنطلق من أمك في ظروف محددة.. كنا نبدأ حصة التدليك، وفي مرحلة معينة تنتبه وهي ممددة أمامي على بطنها تحت أناملي إلى أسفل بطني. بمجرد أن تلاحظ درجة انفعالي وأنا أجاهد كي أخفي الذي لفت نظرها تحت صرتي، تشهق بعمق كما لو أنها كانت تسبح في أعماق بحر من الشوق واللوعة.. تتنهد وتصيبها رعشة، أحس بها تنتشر في عروقها والأعصاب. تكاد اصابعي تلمس تيارها العنيف.. تركز بصرها في نقطة محددة وتبدأ فجأة في الغناء مرتبكة أو متعصبة أغنية " يا جميل يا جمييييل يا جميل/ على حبك باااان لي دليل" أما الأغنية الأخرى فهي لازمة، تكاد لا تفارقها بسبب أو بدونه.. كل وقت عندما نختلي وحيدين، وهذا ما أثارني لأنه يدل على إصرار مقصود، بدليل أنها تخفيه كي لا يسمعها غيري.. في الأول كنت أعتبرها مجرد مدح وإطراء، أو تعلقا طبيعيا بفريد الأطرش وفنه... لكن اختيارها لأوقات معينة جعلني أتأكد من نواياها.
= ولماذا لم توقفها وتمنعها عندما بدأت تحرجك؟
= لقد فعلت ما في جهدي، كانت النتيجة أنها قاطعتني ساخطة كأني طعنت كرامتها وقللت من تأثير أنوثتها، لدرجة أنها مؤخرا كفت عن تسديد ما التزمت به من مساعدة لفائدتي أمام جدك.
= وهل اشتكيت منها لأمك أو لجدي؟
= لست غبيا لأفعل. لأني لا أسعى لخلق أي حرج لها أو للحاج. خفت أن تتطور المسألة، أو أخضع عند التشكي للتساؤلات التي قد تفضي، لا قدر ****، لمشاكل أو فضائح.. على كل حال، فإنها قد انتبهت من ذات حالها. بعثت لي مع أمي مبلغا محترما يغطي ما أحتاجه وأكثر، أي أنها ربما اضطرت لرفع الحظر حين شكت في خطورة ما فعلته معي. كما أنها كفت عن ملاحقتي بعد أن تدخل أبوك لمنعها من الاتصال... ربما تكون قد كلمته عني أو اختلقت أي سبب لتدفعه إلى الشك وإساءة الظن، وقد تكون نوعا من كيد النساء حتى تمارس مزيدا من الضغط علي.
أكمل جمال إعداد الطعام. بطاطس مقلية، شرائح لحم، ثم أخرج من الثلاجة سلطات سبق له أن هيأها أثناء النهار. طماطم مخلوطة بالبصل مع قطع صغيرة من الخيار.. وباذنجان مشوي مخلوط بالبقدونس والليمون)الحامض(. وضع كل ذلك أمامي مع كأس ماء وحبات خوخ وموز... ساد صمت مريح اثناء الأكل. فكرت في الدليل الذي قدمه جمال.. من المحتمل أن يكون اخترعه. لكنه إن كان حجة مخترعة، فلن تثير أو تستفز والدتي. ستتعامل معها كالعادة عندما أغني بحضورها لأم كلثوم والعندليب والحياني وبلخياط وغيرهم.. لن يحدث غنائي في أذنها ومزاجها أي تأثير أو اهتمام، هذا إن انتبهت إليه أصلا.. هكذا ستفعل نفس الشئ إن كانت بريئة.. أما إن كان جمال صادقا، فإن علاقتي بها سوف تتعرض لهزة قوية.. سترتبك وتستغرب وتمد عنقها وتفتح عينيها لتسألني بانفعال قوي عن الداعي لغناء هاتين الأغنيتين. على طريقة "اللي فيه الفز يقفز" كما يقول المثل العامي.
لا مصلحة لي إذن في تجريب مصداقية الدليل من عدمه. بدأت أتراوح بين تصديق جمال وتبرئة والدتي.. ليس من السهل على فتاة في مثل سني أن تتقبل صورة أم شهوانية يتقاطر الشبق من عينيها وجسمها، إلى درجة التحرش بشباب في سن أبنائها.. لا أريد في نفس الوقت خلخلة الصورة الجميلة التي خلقتها أمي لنفسها في نظري، قبل سفرها... لن أربح أي شيء لو حاولت إثبات التحرش أو البراءة.. بالعكس، سوف أخسر أمي من جديد. من الأفضل أن يبقى الحال على ما هو عليه الآن، خصوصا بعد انقطاع فرص الاتصال بين جمال وأمي. حمدت الخالق من قلبي لأن الأمور لم تذهب بينهما إلى أبعد قدر ممكن.
قادني التفكير إلى وضعية أبي في هذا المشهد.. شعرت أنه يشبه الربان الذي يقود باخرة ضخمة، يسيطر من أعلى على كل الصغائر والتفاصيل.. لا يهم كيف يكتشف ما يجري من حوله. المهم أنه موجود يتحكم في مصير نفسه وعائلته. بدأت أميل أكثر لتصديق جمال، إذ لا مصلحة له في تشويه سمعة عائلة وأسرة وسيدة أحسنوا إليه واعتنوا به، وحرصوا على تعليمه وتربيته حتى لا يشعر بفقدان والده.. لا شك أن غرضه شريف ونبيل حينما ألح أن يخبرني. يجب علي الاعتذار:
= جمال.. قلت له، أنا جد آسفة إن كنت قسوت عليك وأسأت ظني بك... إعذرني لأنه ليس سهلا علي تقبل ما ذكرته. وفي الوقت نفسه لا أرى لك مصلحة في خلق سوء التفاهم أو الإساءة لأسرتنا.
= أنا بدوري متأسف.. فقد استدعيتك من أجل أغراض أخرى.. أنا نادم فعلا لأني صارحتك بأمر يخص والدتك وحدها، كان علي تسوية الأمر بطريقة مخالفة معها... المهم...
= المهم آت ما عندك، فالوقت يمضي بلا فائدة...
= بيت القصيد عندي هو أنت يا نورا.. لا يتقبل ضميري أن أغشك أو أغدر بك. حديثي عن أمك يدخل في هذا الإطار وهو أول الأسرار فقط...
= المسألة عبارة عن مسلسل إذن... هات ما تبقى في جعبتك.. **** يسمعنا أخبار الخير.
= خير إن شاء **** تعالى. السر الثاني، وهو الأكبر والأخطر، هو أني أحبك إلى درجة لا يعلمها إلا من خلقني. لكنه كما تعلمين حب يائس، طالما أن والدك لن يرضى بي زوجا لك حتى لو جعلتك تتعلقين بي... إذن فأنا أحبك بصمت من بعيد.. وقد بعثت لك رسالتين أشرح فيهما أحوالي.. واحدة مع أمي والثانية مع سعيد أخي.
ابتسمت عند سماع الاسم معلقة:
= أما سعيد، فأنا أتفهم لماذا أخفى عني الرسالة. وأما والدتك فلا أفهم السبب.
= أنا كذلك توقعت ألا تصل الرسالتان، وقد حانت الفرصة لتفهمي كل شيء... قلت إني مغرم بك إلى درجة الجنون.. وقد بت أراك حورية من الحوريات، وربما بسبب اليأس صرت أراك في المنام مرصودة لأمير من الأمراء الموعودين بالجنة، من هؤلاء الشهداء والمجاهدين يوميا في أرض ****. ولعلمك ف\\\\غن الأستاذ محمود الذي كان معي حين التقيتك بالصدفة أعجب بك أيما إعجاب. وهو كما لا تعلمين في منزلة الكبار المعصومين من الخطإ. وقد تنبأ لك بمستقبل زاهر ولا سيما إن هداك **** إلى السراط المستقيم.. لقد تأسف كثيرا حينما حكيت له عن أمك وأبيك، وأحوالهما العائلية، وعن لقاءات اللهو والشراب والترف الزائد. فكان أن نصحني بأن أعمل على إنقاذك من الضلال وأنصحك مهما كان المصير...
أردت أن أقاطعه للتعليق على كثير من أقوله وأفكاره المتعسفة والغريبة... لحسن حظي كنت ألتقط من أفكار جدي، وما يبلغني من حديث ضيوف والدي ما يسعفني للرد على كل التهم البليدة التي أمطر بها سمعي. لكنه أوقفني بأدب ظهر عليه التصنع الزائد طالبا مني الانتظار حتى ينتهي من سمومه:
= الآن جاء دور السر الثالث. هذا الذي نتحدث عنه كأيها الناس، شخص هام، ذو منزلة ربانية عالية.. له دور كبير في تنظيمات الإخوان، وهو من الرجالات الذين تركوا الأهل والوطن للدفاع عن راية الإسلام في أنحاء الأرض. نعم، كان أستاذا في مصر ثم في ليبيا. هو اليوم مكلف بأمور أكثر أهمية. لقد وصل إلى بلادنا بأوراق مزورة للتخابر والتحدث مع أناس لا أعرفهم. ولأنه اقتنع بإمكانياتي، ودرس أحوالي، وعاشرني أياما فقد اقتنع بكفاءتي... ووعدني أن يتدخل في تركيا أو إنجلترا لفائدتي... إنه يضمن لي معادلة الشواهد والتسجيل والحصول على منحة هامة لدراسة الطب.. اتفق مع جماعة من الطلبة في مختلف الكليات لإرسالهم لتركيا وأنا من بينهم... نحن ننتظر فقط بعض الترتيبات. غالبا سنرحل بداية الأسبوع المقبل.. لن أعود من هناك، هذا إن عدت أصلا، إلا بعد إكمال دراستي. لا أحد يعلم بالأمر سواك. لهذا، أرجوك لا تخبري أمي أو أمك. على الأقل حتى نرحل، الأمر لا يتعلق بي وحدي بل بكل الجماعة المسافرة في حفظ **** ومعونته. لا نريد مشاكل، لهذا اسمعيني جيدا. أنا الآن أعترف لك بحبي.. وكم أتمنى لو تقبليني بعلا في الحلال. في هذه الحالة ستكونين معززة مكرمة صحبة فتاتين موجودتين بنفس البعثة.. هذا هو الظرف الوحيد الذي يمكنني فيه أن أتزوجك بأمن وسلام. أما هنا فالأمر مستحيل.. والآن لك حرية الكلام والتعليق.. فكري جيدا ولا تتسرعي.. لكن أرجوك، لن تخرجي من هنا حتى أحصل منك على جواب قاطع ومقنع.
أي عبث هذا؟ أي تخريف؟ الخلاصة أني صعقت وصدمت.. كيف لابن عمتي أن يعرضني في المزاد غير العلني بهذه الطريقة الشنيعة؟ ككيف يسمح لنفسه أن يقرر مصيري؟ يزوجني متى شاء لمن شاء دون استشارتي أنا وأهلي؟ من أخبره أو اشتكى له أني راغبة أصلا في الزواج؟ لم أتمالك نفسي فكان الرد عبارة عن ضحكة هستيرية جعلته يهتز مفزوعا.. ماذا كان يتوقع؟ أن أركع أمامه شاكرة له جميل التفكير لأنه زوجني؟ أي حب هذا الذي يدعي؟ بل أي تفكير هذا الذي يجعلني سلعة وبضاعة لا تتنفس ولا حق لها في الكلام والاختيار؟ كيف يخطر بباله المريض أني سأقبل الهجرة إلى بلاد غير آمنة كي أتزوج منه أو من سواه؟ هل يتخيلني ضائعة معرضة للزبالة والعنوسة؟ كيف يغمض عينيه عن أهلي لمجرد أنه هو أنكر وجودهم من أجل الطمع في شيء غير مضمون؟
سبحان ****...انفجرت في وجهه بكل قوتي.. كنت أحسبك مهذبا محترما، ومشروع طبيب تفتخر به العائلة، فإذا بك مجرد أحمق أناني مسلوب الإرادة والوجدان... تذكر العذاب الذي عانته أمك كي تصبح ما أنت عليه اليوم... فكر في إخوتك بدل الهروب بدعوى البحث عن الجنة. طالما وقفت في صفك للدفاع عن مستقبلك واختياراتك... أنا التي ترجيت جدي كي يتوسط لك ويمنحك الشقة والمنحة والفراش وكل ما تملك من ثياب. كيف تكافئني بجنونك وطمعك؟ إن أردت الهجرة فاذهب إلى الجحيم، ولا تعد لأن رجوعك سيرميك في جحيم أكبر بيننا. تريدني عملة تربح بها رضى أمرائك الذين يستعبدونك بالتلويح بالخرافات، كأنهم يملكون مفاتيح سرية يفتحون بها أبواب الجنة لمن سقطوا ضحايا بأيديهم... أبقى مع أهلي عانسا وأتزوج أحط زبال في وطني خير لي ممن يجرونك من أنفك وهواجسك. من أخبرك أيها الجاهل، المحرف أني لست على السراط المستقيم؟ إن كان سراطكم يجعلني أفكر مثلك فإني أرفضه. بجرة قلم نسيت وضعك وبدأت تقرر في حياتي ومصيري، كما لو أنك ورثت بقرة. ما الذي ينقصني في بيتي كي أتخلى عنه؟ أما ما تسميه ترفا ولهوا فهو عالم بعيد عن أمثالك، عالم تتحقق بفضله الحياة وتكبر البلاد والعباد. تبنى فيه علاقات وتجارة وصناعة وأموال ومشاريع اقتصادية. بفضل هؤلاء الذين تسبهم وتتبرأ منهم يعيش أمثالك من حثالة القوم المغضوب عليهم. تأكلون النعمة وتسبون الملة.. حتى السلام عليك حرام..
الجزء الرابع
بينما أنا أرغي وأزبد، رن جرس الباب فأسرع جمال ليطل من العوينة السحرية.. فتح وهو يحيي ضيفه قبل أن يكمل الباب دورة الانفتاح.. كان القادم هو الأستاذ الذي أفاض جمال في شكره ومدحه. يكاد يعبده. يصفه بالرجل المعصوم من الخطإ بعدما أوهمه أن الطريق إلى الجنة مفتوح في وجهه فصدقه ونسي أمه وإخوته.. ألقى القادم التحية من بعيد دون أن يتوقف. اتجها معا مباشرة نحو الغرفة التي ينام بها الضيف. سمعتهما يتناقشان قليلا بصوت مرتفع.. بلغتني منه نتف متقطعة بلا خيط محدد يتيح لي أن أفهم شيئا. أسماء وأعداد، أرقام بالعملة الصعبة المختلطة.. دولار وجنيه وأورو... بدا أن الأستاذ غاضب، ربما تواجه المخطط مشكلة طارئة. وربما علم أن جمال أخبرني بالموضوع. بعد عدة دقائق خرجا من الغرفة ولحقا بي.. حياني الأستاذ دون أن يمد لي يده. طلب من جمال أن يحضر له كأس شاي، فسألني هذا إن كنت أيضا أرغب في مثله.. قلت له لا بأس، وإن كنت أعاني من تعب وصداع مزمن يمنعني من التحدث والتفكير. أعطاني حبة أسبرين بعد امتداح فعاليتها.. قال لي أن الحبة ستمحو كل ما أحس به بعد قليل. خفف وصول الأستاذ من غضبي. سألته من باب المجاملة حتى لا يشعر بسوء التفاهم الذي طغى قبيل مجيئه:
= كيف وجدت حال المغرب يا أستاذ؟
أجابني وهو يمشط لحيته وعيناه مركزتاه على وجهي:
= الحمد ***... على ما يرام، لا ينقصه سوى قوة الإيمان ليكون حاله أفضل... ثم سكت. فاجأت جمال ينظر إلى وجهي وحاجباه مقوسان إلى أعلى علامة الخوف، كأنه كان يتوقع مني ردود فعل قاسية
شربنا الشاي. شعرت بغتة بدوار خفيف، وألم يعصر بطني. حاصرتني فجأة رغبة في زيارة المرحاض.. أسرعت إليه. بمجرد فتح الباب أدركت مقعد البالوعة قبل أن أنفجر.. إسهال قوي مباغت لم يدع شيئا مما أكلت قبل قليل في أمعائي.. ربما لم يغسل جمال أواني الطبخ جيدا.. زاد صداع رأسي. سألت معتذرة، إن كان بوسعي أن أعتزل قليلا طلبا للراحة. عندما قادني جمال للصالون ليدلني على جانب منه على مقربة من النافذة، أخبرته أني سأنام قليلا لعل الدوار المؤلم يختفي، قبل أن أنصرف... اقترح علي أن أتصل بالبيت لأستفسر الشغالة عن والدي، هل عاد أم لا... وافقته على اقتراحه، واستلقيت فورا حيث أشار دون أن أفعل.. فترة بسيطة كانت كافية لأستغرق في النوم.. لم أتمكن من ارتداء الجبة البيضاء التي وضعها بجانبي..
لا أدري كم مر من الوقت. هاجمتني كوابيس مخيفة ومثيرة... رأيت وجه أسماء وجسدها العاري.. تقف فوق منصة مرتفعة تشير نحوي ضاحكة تخرج صراخا ملتاعا شبيها بما سمعته منها ليلة جولتنا البحرية... علال يرقص وقضيبه منتصب أمامه يرقص معه.. أمي بدورها تجري هاربة عارية فوق رمال شاطئ لا أعرفه.. خلفها شخصان يلبسان أقنعة سوداء. يمسكان بها وتنبطح أرضا بينهما. أبي بدوره يحمل فأسا بيده، أمام حقيبة مملوءة بالعملة الصعبة وهو يراقب ما يحدث دون تدخل..عيناه مركزتان على نخلة يجثم على رأسها غراب.. علال يكتشف جسد أمي بين الرجلين. يخطفها ويجري بها نحو مركبه. يقلد معها نفس الوضع الذي تعوده مع أسماء. ترد عليه بضحكة وتلصق مؤخرتها بصدره.. أصداء صراخها لا تلفت انتباه أبي.. عيناه لا تفارق الغراب فوق النخلة السامقة. أسمع صراخ أمي ولهاثها فأرتعش وأنتفض. أتصبب عرقا مثل جبل ثلجي ذائب تحت الشمس.. أتلوى وأبكي حين يبلغني أنين أمي تئن وتتأوه.. أصوات رجال هادرة تأتيني من بعيد، ممزوجة بضحك وهمهمة.. كأن أحدا ما يحفر أو يحطم جدارا..هه، هه، هه.. نفس الصوت يتكرر متأرجحا بين التشكي والاستلذاذ. يتكرر مرارا وينتهي بتأوهات... أتقلب فوق فراش خشن، وأحس نفسي عارية أحك ظهري وفخذي، حلزون رطب ساخن يزحف فوق جسدي. أحك لحمي وراء عبوره.. صوت مرايا تتكسر ونباح كلاب تلهث جائعة خلف سيارة عابرة... ألهث بدوري محاولة اللحاق بحافلة تفر حاملة أمي مع الرجلين.. تلوح لي مشيرة من وراء النافذة المغلقة.. وجوه كثيرة تتأرجح أمامي ثم تختفي. كوابيس وراء بعضها بلا رابط أو علاقة منطقية.. استمر العذاب إلى أن جاءني صوت ناعم يؤذن لصلاة الفجر.. غابت معه كل الكوابيس وتبخرت الأصوات.
استيقظت صباح الغد على صوت شخير مرتفع يشبه نعيق غراب. خاااق. خاااق. خاااق. خاااق. رتيب لا ينقطع. فزعت حين فتحت عيني.. الساعة تشير إلى التاسعة والنصف وبضع دقائق. كنت شبه عارية باستثناء غطاء خفيف يستر عورتي.. مضت لحظة قبل أن أتذكر أني لجأت لهذا الركن من الصالة ليلة أمس، بعد أن أفرغت أمعائي، استلقيت حسبما اتفق على الزربية الحمراء لأستريح. تذكرت نزاعي مع جمال، قبل إحساسي بدوار ثقيل. لم أتمكن من نزع ثيابي. ربما أكون تملصت منها أثناء الليل بفعل الحرارة المرتفعة. وربما بفعل الكوابيس أيضا.. كانت المفاجأة الكبرى أني رأيت الأستاذ المصري نائما بالصالة غير بعيد عني. صدره عار بشعره الكثيف مثل قرود الغوريلا.. كلما تنفس يفتح فمه ليخرج الهواء ومعه يرتفع نخيره وشخيره. تتراقص شفتاه محدثة صوتا قبل أن يتنفس بعمق ليطرد الهواء بعد ذلك بنفس الطريقة.. أحسست بالتقزز من متابعة أنفاسه.
ما الذي جاء به قربي في هذه الصالة؟ ألم يكن معتادا على النوم في غرفة خاصة منذ حل ضيفا على جمال؟ هل وقع شيء ما حين نمت؟ أين جمال؟ فكرة خطيرة هجمت علي بغتة.. فزعت وأنا أتخيل أني قد تعرضت لحالة ****** ربما.. وهذا الوحش الذي يغط في نومه جني، هل بلغت به الوقاحة أن يتحداني لعلمه أني لا أتوفر على حجة أو دليل اثبت به الجريمة؟ لماذا لم يكلف نفسه الانتقال لغرفة النوم بعد أن ذبحني وقطع أوصالي؟
حاولت الجلوس حيث أنا فشعرت بألم فظيع في رأسي وظهري ومؤخرتي. تلمست إليتي فلم أعثر على التبان الذي كنت أغطي به جزءا منها. نصف حمالة الصدر والنهدين يطل علي من تحت الوسادة.. حاولت الوقوف بعد أن أدخلت عجيزتي في التبان، وثبتت حمالة النهدين على صدري.. صادف كفي نقطة لزجة كالغراء اللاصق.. شممتها فإذا بها تذكرني بروائح لم أتبين كنهها ولا أين شممتها من قبل. في الحمام تأملت ظهري في المرآة. ثمة بصمات داكنة مطبوعة على خصري وأردافي. كما لو أن أصابع قوية تحكمت بي تعصرني وتركت بصماتها هناك. كانت بقع لزجة تيبست قرب ركبتي اليمنى.. تذكرت حبة الأسبرين، والمرحاض ودوخة الرأس ثم غيبوبتي المفاجئة.. لم يبق لدي لأدنى شك أن جمال وأستاذه افترسا جثتي بغير إرادة مني.. ترى هل فعلها وحده أم...؟ مجرد تخيل أستاذه يحسسني برغبة في الغثيان. هل يكون الخالق تعالى قد هداني بهما إلى سراطهما المستقيم؟ الألم الفظيع في شرجي يؤكد لي أني سقطت في يد عصابة حقيقية تتشح بالوقار..
فتحت باب الحمام مسرعة لأبحث عن جمال.. كنت طامعة في إقناعه لعله يعترف لي وينقد نفسه من السقوط اللانهائي نحو القاع. لم أجد له أي اثر في البيت.. لعله هرب من مواجهتي. يبيعني ويهرب. لم أستغرب من سلوكه لأن الذي يبيع أمه وإخوته يستطيع بيع نفسه لو طلبت منه.. وبماذا يمكن تفسير تصرفه، ألم يقل إنه قد لا يعود من رحلته؟ توقعت أن يكون خارج البيت لشراء الحليب أو الخبز. انتظرت نصف ساعة لكنه اختفى بدون تفسير. كان حضرة الأستاذ يغط في النوم رافعا الشخير والنفير. ألقيت نظرة على حديقة الثكنة العسكرية. كان الجو معتدلا والشارع هادئ على غير العادة.. لبست ثيابي كيفما اتفق مستعجلة ثم أغلقت الباب بقوة ارتفع صداها في جنبات العمارة كلها.
في طريق العودة نحو بيتنا أجهشت باكية.. تنفست بعمق وأنا أمشي، علني أتخلص من الغصة التي تكاد تخنقني. الخيانة والغدر شيء لا يحتمل، خصوصا من الأقربين.. أمر مؤلم أن تأتيك الطعنة من شخص تحبه وتطمئن إليه. لسنين طويلة بعد ذلك، كنت كلما خطرت بالبال ذكرى تلك الحادثة، أبكي وأكاد أنفجر.. لو كنت في ذلك الوقت أعرف "ميلان كونديرا" لتخيلت أني عشت حفلة تفاهة على مقاسي. كل شيء بدا لي تافها بلا معنى.. أليست قمة التفاهة، كما يلمح كونديرا، هي أن تعيش بدون علمك قصة لا يصدقها العقل؟ حتى أني، لكي أتملص من المسؤولية وأطرد الحقد والضغينة، فكرت لو أن جمال راودني عن نفسي بلطف وأدب، لربما كنت سأتفهم وأسامح.. ربما كنت سأفكر في صناعة ذكرى فريدة تجعلني أستلذ كلما ذكر اسمه أمامي أو خطر بذهني.. سيما بعد أن علمت أنه راحل بلا عودة. لسوء الحظ أنه فضل المراوغة والغدر.. تساءلت كيف يمكنه أن يعيش بعد فعلته، وهل ما زال بشرا يحس بتأنيب الضمير أم أنه ودع الإنسانية كلها طمعا في جواز المرور لجنة يحملها أستاذه المصري في جرابه. لا شك أنه كان متحمسا ليحصل منه على الرضى والتزكية.. ربما اعتبرها تضحية لتأكيد استعداده وإخلاصه.. كل الحجج مقبولة إذن حتى لو طلبوا منه ذبح ابنة خاله.. لا يعرف المسكين أن هذا يسمى استغلالا وقوادة لا يمكن إقحامها، في أي ملة في ركن الإيمان، كدليل على الامتثال الأعمى.. في الأخير انتهيت إلى قرار عملي.. لا بد لي من دفع جمال للاعتراف بالجريمة قبل أن تعود أمي من السفر.. لا بد أن أستخرج ما تبقى لديه من الأحاسيس والمشاعر العائلية، بأي شكل كان ولو بالضغط والتهديد. ليس ضروريا أن أزوره بالليل. سأعود لزيارته غدا خلال النهار، وسيكون لي معه حساب عسير.. أراحتني الفكرة رغم أني لم أتبين ساعتها كيف أتصرف لتحقيقها...
خلال النهار وأنا ممدودة جوار مسبح الفيلا، حاولت عبثا الاتصال بأسماء لعلها تفيدني فيما يمكنني فعله.. بالطبع سوف أخبرها بما وقع.. لكن هاتفها للأسف لا يرد.. كررت الاتصال مرارا دون جدوى.. لعلها مسافرة إلى مكان ما خارج عن التغطية. لا شك أن جمال يظن أني لا أملك الشجاعة الكافية لأشتكيه أو فضحه. يعتقد أني ما دامت أمي غير موجودة، فإني لن أتجرأ للاقتراب من أبي.. ما زالت الصورة القديمة لأبي عالقة في عينه وذاكرته.. ما زال معتقدا أن أبي لا يهتم بي ولا يفكر سوى في مصالحه.. يظن أن القطيعة بيني وبينه قائمة، وحين تعود أمي في الأسبوع القادم يكون هو وأصدقاؤه قد غادروا بلا رجعة.
ابتسمت وأنا أتخيل صدمته حين أخبره أني لن أشتكيه لأحد، وأني قادرة على الانتقام وحدي.. لن يكون الرد عنيفا كما قد يتخيل.. فكرت طويلا كي أهتدي لانتقام من نفس طينة عمله.. سأبلغه أنه من السهل أن أباشر الاتصال بالسلطات، لأن أستاذه الكبير هارب من العدالة. ولأنه يستضيف شخصا مطلوبا للعدالة، بتهمة ثقيلة.. شخصا يتجول بأوراق مزورة. يمكنني التقدم ضدهما بواسطة رسالة من مجهول مع تقديم المعطيات الكافية، بما فيها عنوان الشقة التي تطل من أعلى على ثكنة عسكرية. هذا سيعقد الوضع أكثر ويعجل تدخل الشرطة الوطنية.
بهذه الطريقة سأحصل منه بسهولة على اعتراف كامل بكل التفاصيل الممكنة. سأضغط عليه خصوصا كي يفسر لي إن كنت مخدرة بلا إحساس نهائيا، أم أني تفاعلت بطريقة ما، وما هي ردود فعلي عندما تمت الجريمة الشنيعة. هل شارك أستاذه أيضا أم يتحمل وزرها وحده؟ حتى أمي يجب ألا تعرف شيئا عن القضية كي لا تنتقم من أمه، وقد تحرض والدي وجدي ضد أسرته بكاملها.. سمعتها مرات عديدة عندما يحدث أي مشكل بسيط، تلعن وتقول : "هؤلاء لم يأتنا منهم سوى المصائب السوداء".. تعتبر كل أسرته، خاصة بعد أن أبعدها أبي عن جمال، قوما منافقين يبحثون فقط عن منافع محدودة، ينقلون أسرارنا لغيرنا.. حتى أخي، صارت تنصحه بالابتعاد عن سفيان رفيق عمره المقدس.. هؤلاء لا ذنب لهم.. ولست أدري ما يجب فعله إن اعترف لي جمال. ماذا علي أن أفعل لو اعتذر؟ هل أتركه يرحل؟ مع ما في رحيله من خطورة عليه وعلى عمتي؟ وماذا لو افتضح الأمر ولم يكتب له السفر، حين تعلم عمتي وأمي أني كنت مطلعة على تفاصيل ونوايا جمال قبل أن يفتضح؟ في النهاية قررت الاستمرار في ثوب البراءة والسذاجة وأن أتصل صباح الغد بالمعني بالأمر، وليحدث بعدها ما هو مقدر ومكتوب..
ركبت الرقم على صفحة الهاتف وانتظرت الرد:
= صباح الخير جمال...
= صباح الخير نورا، كنت أنوي الاتصال بك لأطمئن عليك.
= ولماذا تريد الاطمئنان علي؟ هل أنا مريضة دون علمي؟
= لأني خرجت أول أمس من البيت باكرا... تركتك نائمة ولم أودعك
= هل يمكن أن أراك اليوم؟
= طبعا... متى؟
= بعد ساعة من الآن...
كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحا. سكت قليلا يفكر ثم قال....:
= ولم الاستعجال؟ أفضل كالمعتاد أن نلتقي في بداية المساء
= في المساء أنا مشغولة. إنتظرني بعد ساعة في المقهى المقابل لبناية البريد.
= لكنك تعلمين أني قاطعت المقاهي واقسمت ألا أرتادها من جديد..
= إسمع.. لا بد أن تجلس معي بالمقهى لآخر مرة في حياتك وبعدها قرر ما تشاء... ثم قطعت الخط دون انتظار الجواب.
لبست ثيابي وخرجت فورا من البيت.. نويت الذهاب للمقهى ماشية لأستفيد من الجو الصباحي اللطيف.. بعد حوالي نصف ساعة، بلغت الهدف. اخترت الجلوس في زاوية مظلمة بعيدا عن مدخل المقهى، تجنبا لعيون وآذان الفضوليين. مكان صالح للأحاديث والمناقشات الطويلة الساخنة دون خوف.. بعد قليل أطل وجه جمال.. رفعت يدي وحركتها لأثير انتباهه. حياني وجلس. حاول مباشرة العودة لموضوع الجلوس بالمقاهي، لكني أوقفته قائلة:
= دع عنك هذا المنطق الغريب، فهو منطق لا يناسبك.. المفروض فيك أنك تدرس العلم وستتخرج طبيبا، أي لك صلة وطيدة بالمنطق والتجربة والخبرة.. وإلا أجبني كيف ترفض التردد على المقهى، في الوقت الذي تغتصب فيه ابنة خالك وتخدرها دون أن تحس بالذنب أو الحرج؟
في لحظة، تغيرت ملامحه رغم كوننا نجلس في زاوية مظلمة. أحنى رأسه وبدا أنه لم يكن ينتظر مني مثل هذا الهجوم المباغت. غمس وجهه بين كفيه وهو يتكئ مرتبكا على مرفقيه. أحسست به يتضاءل كأن عضلاته وجسمه الطويل تتبخر في العتمة.. ساد صمت مريب لبضع لحظات.. بعد قليل استرد جزءا من وعيه. بدأ يتمتم ويتعتع بدون معنى
= إذا سمحت...هذا إن تعاملت مع... بدم بارد... في صالحك لو... قاطعته:
= على مهلك، تريث في الكلام. خذ نفسا عميقا وحاول أن تبعد عنك كل ضغط. لقد حضرت هنا لا لتأنيبك أو مخاصمتك.. جئت ألتمس منك أن تشرح لي بهدوء وبتفصيل ممل، كل الذي حدث.. يعني أني لست غاضبة، ولا أود معاتبتك.. فقط كن صادقا وعاقلا وأخبرني بالحقيقة..
= طيب... لقد ارتكبت أخطاء فادحة عندما حكيت للمصري، المسمى محمد محمود الشعراوي عن كل أحوال العائلة. تصوري أنه استطاع إقناعي بأن الجماعة لا تعتبر أمثال خالي وعائلته الصغيرة مسلمين، بل شياطين كفرة. وطبقا لذلك فإن التلاعب بهم، والاستمتاع بنسائهم حلال، بل أجره كبير في الدنيا والآخرة.. هو باب من أبواب الجهاد المقبول عند الباري عز وجل.. كنت وإياه قد اتفقنا على استدراج أمك إلى الشقة بأي طريقة لتأديبها بنفس الطريقة، لكن سفرها المفاجئ أفسد الخطة. وعندما التقيناك بلا موعد ذلك المساء، فسر الأستاذ الموضوع بأنه قدر مكتوب، هدية من السماء قبل الرحيل، وأقنعني أن نتخذك بديلا عن أمك.
= يعني بكل بساطة، أنت الآن تعترف أن اغتصابي تم منكما معا؟
= هو كذلك
= وأنك بكل بساطة قبلت لعب دور القواد بالمجان...
= .........
= لماذا لا تجيب؟ قل لي أين ذهبت كرامتك وشهامتك المعروفة؟ مسحها الأستاذ بكلمتين لا أكثر.. كيف تتنازل بهذه السهولة عن شرف ابنة خالك لأول شخص غريب، مقابل وعد لا يضمنه لك أحد؟ هل ترغب في الجنة على حساب أسرتك؟ ما هو الجزاء الذي به أقنعك؟
= .... آآآه، لقد أدخل في روعي، أن الأمر ما دام فيه نضال وجهاد فلا حرج علي... بل هو أحسن دليل على كفاءتي واستعدادي لبذل الغالي والنفيس...لبلوغ مرتبة أسمى و...
= بل قل إنك قبلت التضحية بي لضمان الحصول على ما وعدك به من منحة وانتقال للدراسة ببريطانيا وغيره.. المهم أكمل. كيف نفذت الجريمة؟
= بعدما أخضعني لجلسات عديدة لإقناعي، شعرت أنه تحكم في كل أعصابي. صرت بين يديه مثل شخص منوم، أنفذ أوامره بحذافيرها بلا قدرة على التفكير... رسم الخطة.. أعطاني حبيبات للتخدير أو التنويم.. قال لي إن من يتعاطاها يفقد السيطرة على أفعاله. مفعول الحبة مضاعف.. تخدر الأمعاء وتخفض من حساسيتها وتفرغها من كل ما فيها بسهولة، هذا زيادة على إلغاء أي شعور بالألم.. من يتناولها يشعر بدون وعي بكل الذي يحصل له، لكنه لا يستطيع التقرير أو التحرك... يحس فقط ولا ينطق، يستجيب طوعا لغرائزه الفطرية.. بكامل إرادته.. يصبح كالخاتم في أصبع من يأمره... وهو ما حدث لك بالضبط..
= يعني أني كنت أحس بكل الذي تعرضت له، وأنا فاقدة للوعي..
= تماما. بل تتفاعلين بشكل ميكانيكي. شخصيا اعتقدت أنك في أتم درجات الوعي، وأن الخجل وحده أسكتك... كانت لك استجابة وردود فعل تتجاوب بأريحية... ومن شدة تفاعلك، قال لي بأن أحد أدوار الأسبرينة هو إبعاد رقابة الدماغ، حتى يسمح بانفجار الغرائز المدفونة... هي حبوب تستعمل في الطب النفسي لتجنب الكآبة المرضية وإبعاد فكرة الانتحار عن المرضى. لولا وجودي معه لكنت اليوم فاقدة لبكارتك.. من شدة تأثره بتفاعلاتك الإيجابية..
= كأني أشاهد فلما هنديا.. أيكما باشرني في البداية؟
= صراحة، أنا الذي نزعت ثيابك بما فيها الداخلية وماسكة الصدر والنهدين.. أما هو بمجرد أن شاهدك عارية، حتى تحول إلى شيطان رجيم لا علاقة له بالرجل الفاضل الذي أقنعني مسبقا. اختفى العلم والوقار والجزاء والعقاب وظلت الغرائز وحدها تشتغل بحرية مطلقة...
تأملك لحظة طويلة حتى انقلبت عيناه. اختفت بؤرة البصر تحت الجفنين ولم يبق ظاهرا منهما غير البياض. أدركته رعشة مباغتة.. تذكر أنه لم يتوضأ فذهب مسرعا للحمام. عاد مسرعا وأطرافه يقطر منها ماء الوضوء. صلى ركعتين كأنه يودع جنازة ميت، أو سيضحي بكبش فداء.. ثم تربع قريبا من جسدك دون أن يلمسك. أصابته موجة انفعال طارئة قوية جعلته يترنح ويرمي ثيابه بعيدا وهو يلهث ويتنفس بصعوبة.. خلت أنه سيختنق. بدا عليه أنه غير مصدق ما يرى، كأنه لم يلامس قط أنثى في حياته.. كأن السماء أنزلتك قربانا أو هدية ثمينة في تلك اللحظة.. توقعت أنه سيدخل في غيبوبة، أو أنه مريض بداء الصرع... الغريب أنه طلب مني أن أفعل مثله سواء بسواء، كنوع من الشكر. التمس مني أن أتأمله بانتباه قوي، ثم انكفأ بوجهه وشفاهه ولسانه على ظهرك وصدرك.. يبدأ زحفه من الأذنين نازلا إلى الرقبة والكتفين ثم فقرات العمود إلى قصعة الظهر عند منبت الأرداف. كان يأمرني أن أصعد إليه عابرا قدميك وربلة الساقين والركبتين ثم الفخذين إلى كمال دائرة الردفين. نلتقي في نقطة مركز الجسد ثم نعيد الكرة مرارا. كنت سأنفجر مستغربا شدة صبره وغرابة طقوسه.. ألح على مزيد من البخور فاستجبت لطلبه.. قال أن الإطالة ضرورية للتعبير عن التقدير لنوع وقيمة الهدية، مضيفا كطبيب عارف، أن الصمود يقوي الصبر ويساعد على التحكم في القذف.. سرح بأصابعه تعقيصة الشعر ونشر جدائله حتى غطت الكتفين وجزءا من الظهر.. ثم أعاد نشره على الوسادة ليبرز له ظهرك وعمودك الفقري، لامعا كجوهرة ضائعة.. دس أنفه وسط الخصلات. شم عطرها وتمتم كلمات لا معنى لها.. فجأة قام وهو يحرك رأسه واتجه للحمام ليغسله بصبيب ماء بارد.. عاد دون أن يجفف رأسه.. كان في يده مراهم وعلبة من زيت السمسم. صب منها قليلا على فقرات ظهرك من العنق إلى الردفين، على شكل خيط رفيع. أطفأت النور ولم ينطفئ نور ظهرك الذي حافظ على بريقه تحت نور متسلل من النافذة...
سمعته يسألني والحيرة بارزة في حركاته:
= أنت متأكد أنها ما تزال بكرا؟ فكرت بدوري لحظة، لكني خفت أن يجره ترددي إلى التأكد بنفسه، أجبت بارتباك
= بالتأكيد.. لا مجال لأي شك..
عندئذ أفرغ نصف قنينة من زيت السمسم قريبا من الإليتين وجعل يدفع الزيت بلسانه نحو الأخدود.. ثم سألني ثانية
= هل أنت على يقين أنه ليس لهذه المحمومة سوابق، لا يبدو الأمر كما تدعي.. هل عندك بيض؟
استغربت لطلبه.. فلما أجبته بنعم، التمس مني أن أسلق واحدة جيدا وأحاول تبريدها بسرعة بوضعها في الفريزر.. في انتظار عودتي قلبك على ظهرك. صار وجهك وصدرك أمام عينيه. بدأ يكرر ما قام به على الظهر. توقف طويلا عند الصدر والنهدين حتى عدت إليه بالبيضة المسلوقة. أخذها مني وجس حرارتها وهو يشرح لي الغرض:
= ستنفع هذه في توسيع الخرم حتى لا نجني عليها وقد أكرمتنا بحضورك المبارك.
لم يتوقف عن الحركة وهو يتحدث. أعاد تمديدك على بطنك. فسح فجوة ما بين الردفين ليضع البيضة في المكان العلوم. تركها لحظة وبدأ يحرك الردفين صعودا ونزولا ويضربهما ببعضهما، يمنعها من السقوط أحيانا بلسنه، استمر هكذا حتى تعودت البيضة على المكان وكادت تغيب في أحشائك، فقام بسحبها. صب ما تبقى من السمسم على ظهرك ومد بعدها كفه ما بين الفخذين ليوقف تسرب الزيت نحو الفراش.. من هذه اللحظة بدأ جسمك يستجيب ويتفاعل. لم يبق علينا بعد ذلك سوى الضياع في حدائقك الغناء استجابة لنداء الطبيعة، حتى ارتفع أذان الفجر يدعونا للصلاة والصلاح.
= كنت أحسبك أسدا تحمي العرين يا جمال.. كم خدعتني يا جمال.. ألهذا القدر افترسوا مخك؟ دعنا الآن من المحاسبة. هل تستطيع أن تتدبر لي بعضا من تلك الحبيبات؟ بعدها سأعرض عليك اقتراحا ستنقذ به ما تبقى لك من الشهامة، أتمنى أن تقبله بلا مشاكل.. وإلا..
= سأحاول، لا أريد أن تحتفظي عني فقط بالذكريات السيئة. ابتسمت وركزت نظري في عينيه، ثم أجبته:
= على كل حال، إن صدق ما تقول، فهي ليست سيئة مائة بالمائة. هل تحدد موعد السفر؟
= نعم. صباح الأربعاء بحول **** وقوته.
= عجيب، في نفس اليوم ستعود أمي
= أتمنى من كل قلبي أن أتمكن من توديعها. لي أمل كبير أن احتفظ منكما بذكريات أفضل تكون لي خير زاد في الغربة..
= أنا أيضا أتمنى ذلك. قل لي.. كم تستمر فعالية وتأثير تلك الحبيبات؟
= تقصدين حبات الأسبرين؟) قالها مبتسما( ... بالنسبة للمرأة ما بين أربع إلى خمس ساعات على أكبر تقدير، أما الرجال ففي الأقصى لا يتعدى ثلاث ساعات، لم السؤال؟
= خطرت لي فكرة سوف تعجبك. أشرح لك الأمر فيما بعد. الآن إلى اللقاء وإياك أن تنسى الحبيبات. ربما أزورك غدا بعد العشاء.
= مرحبا في أي وقت.. أرجو أن تغفري لي زلتي.. إلى اللقاء
الجزء الخامس
افترقنا عند منتصف النهار... لم تكن لي رغبة للعودة إلى البيت.. عبرت الشارع على مقربة من فندق كبير لا أذكر اسمه. كنت أعرف أنه في ملكية شخص قريب من معارف الأسرة.. عبرت الشارع ثم قدمت نفسي لدى قسم الإرشادات.. بعضهم تعرفوا علي ورحبوا بي.. صادفت وجود برامج تسلية وتنشيط فانغمست في بعضها لأنسى جو جمال ومشاكله.. توجهت لقاعة الأكل لتناول قطعة جبن مع بعض الفواكه الباردة ثم خرجت للمسبح بعد أن استعرت منشفة مع شورت قصير وحمالة الصدر للسباحة.. استمتعت كثيرا بفقرة الرقص الشرقي، وتمارين الرياضة المائية.. عدت بعدها متعبة للبيت بعد غروب الشمس بقليل..
في صباح اليوم الموالي، صادف أن كان يوم أحد، نويت الاتصال بجمال، غير أن والدي أيقظني باكرا ليطلب مني عدم مغادرة البيت، خصوصا عند منتصف النهار والظهيرة.. كان عنده ضيوف محترمون حسب قوله.. حيث قرر استضافة اللقاء الأسبوعي لقيادة الحزب. أخبرني بجدول أعمال اللقاء كتمرين في حالة ما إن رغب أحدهم أن يفتح معي الحديث... سيدور النقاش حول موضوع " المبادرة الوطنية للتنمية البشرية". وهو المشروع الذي كان الملك، قبل سنوات قد ألقى في شأنه خطابا توجيهيا مهما، لذلك كان من الضروري أن تبدي كل الأحزاب كالعادة ترحيبا وتقدم رأيها مطلع كل عام مصحوبا بمقترحات تسعى لإدراجها في البرنامج الوطني للمبادرة. معبرة بالمناسبة عن كامل التنويه والاستعداد للمساهمة في تنفيذه، سواء من الموقعين الوطني أو الجهوي...
تذكرت حسب التجربة، أن نقطة بداية مثل تلك اللقاءات من السهل معرفتها، غير ألا أحد بوسعه تخمين زمن الانتهاء منها. معظم من يحضرون اللقاء في الحقيقة، يتخذون المناسبة فرصة سانحة لتسوية حسابات وبرامج أخرى، قد لا يكون لها أدنى علاقة بموضوع الاجتماع المعلن.. كلفني أبي بتقليد ما تقوم به أمي عادة في مثل هذه الظروف. كنت متخوفة أن يتلاشى إصراري على تنفيذ ما عزمت على فعله، لو تركت اجتماع والدي يأخذ كل طاقتي. لهذا اتصلت بجمال لأعتذر له ملتمسة منه تأجيل لقائنا إلى الغد.. شعرت بحرج لأني كنت أعتمد على أمي في كل شيء تقريبا.. سيكون علي أن أبحث عن قفطان أو أكثر أرتديه لاستقبال الضيوف والترحيب بهم.. اللباس النسائي التقليدي يعتبر في عرف الضيافة من مؤشرات كرم الأسرة. هذا اللباس يتعبني ويضايقني كثيرا خلال الصيف، لولا أن أبي يلح علينا، أنا وأمي خصوصا، أن نحترم طقوس الاجتماع ونتهيأ له بكل ما لدينا من طاقة وزينة ومظاهر مثيرة.. يجب علي إذن الاستجابة للطلبات سواء رغبت أو رفضت. أريد تحسيس أبي بأني أهتم بتوجيهاته بعد أن تغيرت تصرفاته معي.. لا بد إذن من تزيين وجهي والاتصال بالمطعم الذي كلفه والدي بإطعام ضيوفه.. شركة الحراسة أيضا يجب ألا أنساها. هناك دائما أشخاص يحبون الإساءة لغيرهم، يتحينون أي فرصة للتعبير عن وجودهم. عندما سألت أبي عن مدة الخدمة اللازمة قبل الاتفاق مع الشركة، أجابني بضرورة أخذ ما يكفي من ساعات العمل، وأن علي تمديد الزمن إلى ساعة متأخرة إلى حدود منتصف الليل..
من الضيوف الذين قدمني لهم والدي، هناك شخص مهم بالنسبة للأسرة.. كان لفترة زمنية وزيرا لكنه اليوم مجرد برلماني.. ما زال طامعا، حسب أبي في العودة من أبواب غير منتظرة للوزارة بفعل موقع والد زوجته، وموقعه في الحزب كذلك. هو أيضا محام في الأصل. حيث ما زال مكتبه مكلفا بقضايا شركة مقاولات البناء والتعمير التي أنشأها أبي بمعرفته وتوجيهاته.. ظل يرعاها ويسهر مع أمي وأبي على نموها وازدهارها.. كان منصبه كوزير، يمكنه من الحصول للشركة على مشاريع عمومية في البداية قبل أن يشتد عودها وتنطلق بأجنحتها الخاصة إلى أسواق واعدة كثيرة.. حضر معه ابنه "إلياس" الذي لي به معرفه من قبل.. عائلة الأب موجودة في نفس مدينتنا.. تعتبر أسرة الوزير، خاصة جد الفتى "إلياس" من جهة الأب، من أقرب أصدقاء جدي.. كان أب الوزير قد جاء مباشرة بعد تخرجه من مدرسة المعادن بالرباط، مسلحا بتوصية وساطة، من أحد معارف جدي في الرباط، ليتدخل لصالحه لدى بعض معارفه في المركب الكيماوي التابع للفوسفاط، هنا بآسفي. كان محظوظا لأنه قبل بدون مشاكل. كان عليه أن يستقر في بيت جدي مدة شهرين مع أسرته ريثما يتسلم العمل. حصل بعد ذلك على بيت للسكن تابع للمركب الكيماوي.. صارت والدته من أقرب المقربات لجدتي، تشاركها في نشاطها الخيري مع عدة جمعيات.. إثر حصوله على شهادة البكلوريا سافر الوزير للرباط لمتابعة الدراسة في كلية الحقوق. حين تخرج توسط له جدي لدى شخصية هامة ساعدته على افتتاح مكتبه في وسط المدينة غير بعيد عن قبة البرلمان. وما لبث بعد نجاح مكتبه أن تزوج ابنة هذا الشخص وبقي في الرباط إلى اليوم.. وقد تسربت أخبار أنه كان قبل زواجه قد وقع اتفاق بين الأسرتين أن يتزوج أمي، لكن هذه قصة طويلة أخرى سوف أحكيها فيما بعد.. أما إلياس ابنه، الذي يكبرني بأربع سنوات تقريبا، فقد حافظ على زيارة جده وجدته خلال عطلة الصيف والربيع.. سبق لي أن التقيته عند جدي في إحدى ورشات الخزف.. كان يحمل باستمرار تحت إبطه كتابا. لا أذكر أني رأيته صفر اليدين. مرة سألته مازحة عن أنشطته، فرد علي بأنه يمارس رياضة الجري ويذهب بين الفينة والأخرى للسباحة بالبحر، لكنه يفضل القراءة ويرافق جده، خصوصا عندما يخبره أنه ذاهب لزيارة جدي..
اغتنمت فرصة حضور "إلياس" ذلك اليوم مع أبيه لأتعرف عليه أكثر.. كان كعادته يحمل معه كتابا.. سألته:
= كيف تتصور أنك ستجد المناخ الصالح للقراءة في جو صاخب كهذا؟
= أولا لم أكن أتصور أني سأعثر على جو من هذا الصنف، ثانيا أستطيع دائما البحث عن مكان يتيح لي الفوز بلحظة هدوء في جهة ما.. وهذا يكفي.. ثم إني استفدت بما يكفي خلال رحلة السيارة، وهي فرصة تتيح لي التهرب بأدب من كثرة أسئلة الوالد وتعليقاته المستفزة.. أجابني.
= هل يمكن أن أعرف نوع الكتب التي تثيرك أكثر.
طرحت عليه السؤال وأنا أفكر في نوعية كتب "أسماء"، التي ابتليت بها حتى صارت تشتت تركيزي..
= لا تنسي أني طالب في السنة الثالثة حقوق.. هذا يفرض علي قراءة كتب ذات صلة بالدراسات القانونية والاقتصادية والسياسية، لأن دراسة الحقوق تتطلب تكوينا شاملا في مختلف العلوم الإنسانية.. وأنا أنوي بعد التخرج الاشتغال في مكتب الوالد كمحام متدرب..
= إذن أناديك ابتداء من اليوم بحضرة المحامي؟ قلت هذا وأنا اضحك.
ابتسم، وتقبل الدعابة. عندما سألني بدوره عن نوعية ما أقرأ. خجلت من الرد لأنه أفحمني.. هل أخبره أني أقرأ بعض الروايات الغرامية، وأني أقلعت عنها منذ بدأت أسماء تزودني بكتبها النادرة المستفزة؟ أو أعترف له أني لا أعرف إلا أسماء كتاب ضيعوا أوقاتهم في تفسير ما لا يفسر، أجاهد كي أفهمهم باستمرار، من أمثال أحمد بن يوسف التيفاشي، وعلي بن نصر، ونصر الدين الطوسي، والنفزاوي.. والسيوطي، والتيجاني وغيرهم كثير فيما يعرف بتراث العرب في مجال الأدب الجنسي؟ قلت له كاذبة:
= ليس عندي كتب مفضلة.. أقرأ ما أستطيع الحصول عليه، روايات بالخصوص
= مثل ماذا لو سمحت.
تذكرت بعض الأسماء التي مررت منها سابقا.
= قرأت لمحمد عبد الحليم عبد ****، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي وعلي أحمد باكثير وآخرين نسيتهم منذ مدة.
= كلنا بدأنا بقراءة هذه النوعية، أظن بالتأكيد أنك بعد حين ستنتقلين لنوع جديد.. فكري في يوسف إدريس ونجيب محفوظ وصنع **** إبراهيم وعبد الرحمن منيف، وغسان كنفاني، وجبرا إبراهيم وغيرهم كثير.. هذه الأسماء ستنقلك للوعي والمعرفة الحقيقية بالواقع العربي الحالي وقضاياه العميقة..
انتقل الحديث بعد ذلك بيننا لمواضيع أخرى.. أعجبني كثيرا أن أستمع إليه ينتقد حزب أبيه وأبي بكل حرية.. ضحكت في الحقيقة، لأنه كان يعبر بكلماته عن مشاعري بالضبط.. أول مرة تصلني ذبذبات ترسلها مصطلحات لم أعرفها سابقا.. كان متمكنا من ألفاظه كأنه صحفي كبير.. قبله لم أكن أميز ما بين هذا الحزب أو ذاك.. لمست من حديثه نوعا من الاحتقار لحزب والده لأنه سماه بالحزب الإداري، وحين سألته عن المعنى، قال لا داعي للتوضيح الآن.. ستعرفين الفرق بنفسك مع الزمن.. لا أخفي أن فكرة استشارته فيما وقع لي مع جمال وصاحبه راودتني بقوة.. ترددت حين قدرت خطورة الأمر.. خفت أن يغير رأيه بي إذا رويت له قصتي معهما.. مجرد تصور وقع الحكاية عليه جعلني أشعر بفداحة الأمر.. ربما سأجعله يحتقرني أو على الأقل، سيشفق علي. فرحت عندما توقف الحديث بيننا قبل أن يغادر صحبة والده. ترك حضوره أثرا واسعا في نفسي.. وعدني أن نبقى على اتصال بعد سفره..
قبيل منتصف الليل بقليل، اتصلت بجمال لترتيب الخطة المتفق عليها بيننا.. وجدته نائما فاعتذرت.. قال إنه يلجأ للنوم باكرا منذ أصبح يستيقظ لأداء فريضة الفجر. أخبرته أني ساهرة بطلب من أبي.. لم أرد تضييع الوقت مخافة النسيان.. سألته عن حبيبات الأسبرين فأخبرني ضاحكا أنها معه في جيبه.. سألته إن كان أطلع صاحبه على الحديث الذي دار بيننا، فطمأنني قائلا بأنه ليس عبيطا إلى هذا الحد.. نبهته بعد هذا إلى أن كل شيء في الخطة يتوقف على مدى قدرته أن يحفظ السر ويتمسك بالصمت القاتل.. طلبت منه أن يكون طبيعيا كعادته، ويتصرف كأن شيئا لم يقع.. أخبرته أني سأقوم بتحضير العشاء وألتمس من الأستاذ أن يمتعنا بما لديه من العلم.. سأحضر بعض الأسئلة عن المرأة في الإسلام وغير ذلك لكي أحسسه بأني ساذجة.. وأني أسعى لحتفي بيدي.. سأجعله يطمع في ليلة ثانية من الجنة الحقيقية التي على الأرض... بعدها لها مدبر حكيم.. اعرف ما علي فعله بدقة.. يكفي أن تكون يا ابن عمتي هادئا وسيتم المشروع كما نحب.. سنذيقه من سموم جرابه.. السن بالسن والبادئ أظلم كما يقال...
سألني عما سيحصل بعد ذلك.. اجبته ببساطة، لا شيء.. سنتفرج عليه نائما يغط في صحرائه.. ونضحك قليلا، ثم يذهب كل منا إلى سبيله مطمئنا مرتاح البال.. سألني كيف سيكون موقفه معه حين يصحو؟ أجبته أن عليه أن يتصنع النوم بدوره. قلت له: دعه يوقظك معتقدا أنك تناولت مثله نفس الحبوب المعلومة.. دعه يعتقد أني انتقمت منكما معا. وإذا سألك كيف حصلت على حبات الأسبرين منك، اعترف له أنك ارتكبت خطأ إطلاعي على مفعولها، وأنني توسلت إليك كثيرا بحجة أني سوف أستعملها مع أسماء ابنة خالي من باب التسلية لا غير..
أجابني مستغربا:
= كم أنت خطيرة فعلا.. لقد فكرت في كل شيء.... أجبته:
= كن حذرا.. عليك توخي الحذر ما أمكنك.. لا بد أن ننجح وإلا تأكد ألا أحد منكما سيسافر يوم الأربعاء.. ثم أغلقت الخط.
كان ثمة إجراءات تفصيلية أخرى أخفيتها عن جمال.. لم أر من المفيد إخباره بالتفاصيل حفاظا على حظوظ تطبيق الخطة كما تخيلتها.. التفاصيل ستجعله يحس بارتباك وتدخله في تخوفات كنا في غنى عنها. قد يضطرب ويثير الشكوك في نفس صاحبه.. كنت عازمة أن أطبع عبوري في ذهنية أستاذه حتى يغير نظرته في الأنثى المغربية على الخصوص.. حرصت على وضع مقص حاد وآلة حلاقة كهربائية وبيضة مسلوقة، في حقيبتي اليدوية.
لم أنم جيدا تلك الليلة. ظل ذهني متحفزا يستعرض فصول الخطة خطوة خطوة.. حتى أني وضعت بدائل عديدة في حال لم يطاوعني جمال أو تردد في تنفيذ ما يؤمر به.. اكتشفت أن نقطة ضعف السيناريو هي أني كنت مترددة بين تنويم جمال أو إبقائه في حالة صحو كامل... صراحة أن ما شرحه لي جمال جعلني أضعف وأحن لتجربة أخيرة مع جمال، ولن يكون قادرا على شيء لو نومته.. تذكرت تجاربي السابقة مع أخيه سعيد وخامرتني رغبة انتقام منه ومن نفسي.. ليس لدي أي شخص مضمون مثل جمال أعيش معه تجربة تستحق الذكر.. سيما بعد معرفة أنه سيسافر مباشرة، وأنه لن يلتقي أحدا من الأسرة لتتاح له فرصة فضحي.. ستكون أول وربما آخر تجربة فعلية حقيقية واعية.. هذه الفكرة خطرت لي لفائدة إبقائه في صحو ويقظة.. ورغم التردد إلا أني فضلت عدم تنويمه في انتظار مشاعري ساعة تنفيذ الخطة..
تعلق فكري بحكاية البيضة المسلوقة على الخصوص.. كان هناك صوت قوي من داخلي يتحمس لإعادة ما سمعته وأنا بكامل الوعي والإحساس.. ستكون تجربة فاصلة. إما أن تنتصر علي أسماء أو أقتلها بداخلي إلى غير رجعة.. إما أن أقفز من ترددي إلى الإيمان بحظي من المتعة، أو أسقط دونها في هاوية النسيان مطمئنة للصبر، منتظرة ما يجود به الزمن علي من احتمالات.. نفس الصوت المتحكم بي، زين لي أن أستثمر غيبوبة الأستاذ إلى أبعد ما يمكن.. لا أدري بالضبط كيف، لكني سأجد لا محالة وسيلة للذهاب بعيدا في الانتقام. كانت تلك أول مرة أشعر فيها بحرارة جسمي بهذا الشكل... كنت راغبة في الاستسلام الكامل بدون أي احتياط أو رقابة كيفما كانت..
لن أخفي هنا، أني حاولت في ليلتي تلك اجتياز تمرين مماثل عساني أكتشف مدى صحة ما سمعته من جمال... زاد التفكير من استثارتي وتحميسي.. لكني قاومت واكتفيت بالخيال.. عندما خارت قواي أستسلمت للراحة حتى أدركني النعاس...
حين اقتربت ساعة الذهاب إلى الموعد، هيأت نفسي وجسدي بما يناسب الخطة. ارتديت جلبابا بلون أزرق فاتح. عليه من جهة الصدر والرقبة والأكمام زركشات أندلسية بلون أزرق داك.. كان الجو شديد الحرارة، ولهذا لم اضع تحت الجلباب شيئا تقريبا.. اكتفيت بحاملة النهدين، وتبان أحمر نصف شفاف، وفوق الكل سروال جين ضيق يحاصر مؤخرتي ويعكس بإتقان كل الدوائر والانحرافات والأقواس على جسدي. كنت متحمسة لاكتشاف خفايا الأنوثة المدفونة الغائبة عني.. أترقب بالأحرى كيف سيكون تأثيرها على شاب رياضي، تكاد تسحبه أفكار معلمه بعيدا عني إلى غير رجعة.. كنت شبه مغيبة، كأن نفسي تسبقني لما سيأتي، أو كأني أتفرج على حياة فتاة أخرى تشبهني وتعرفني وأنا أجهلها. أحس مسبقا بما هي عازمة على فعله وأكتفي بمتابعتها كشاهدة، أسير غير مصدقة، وغير شاعرة بما يدور من حولي... أخيرا وصلت أمام الباب.
هاجمتني نفس الرائحة.. العطر والبخور نفسه.. فتح لي جمال الباب وكاد يقبلني.. تفاديت مصافحة وجهه وحييت الأستاذ من بعيد. رد على تحيتي دون أن يرفع رأسه. كان يرتدي جبة واسعة ناصعة البياض ويغطس لحيته ورأسه بين صفحات كتاب. بدا أنه غارق في جوه الخاص.. يمشط بين حين وآخر شعر لحيته بكف يمينه.. كل شيء يبدو عاديا وأنا متوجهة نحو المطبخ..
وضعت حقيبة يدي جانبا فوق كرسي لتبقى قريبة مني تحت ناظري.. لحق بي جمال الذي بدا أكثر اطمئنانا مما تصورت.. حركاته تعكس أنه وثق بي وصدقني. بحركة سريعة مستفسرة من عيني، أسرع بإخراج ورقة ملفوفة مدها لي وهو ينظر نحو باب المطبخ متوجسا. أمسكتها وأسرعت بإخفائها في جيب السروال.. كان بها حبتان فقط..
شرعت مباشرة في تحضير العشاء. كنت ألتحق بهما بين الفينة والأخرى إلى الصالة.. خيل لي أن الأستاذ ظل ينظر لي بجانب عينه ويبتسم.. باغتته يحك غير متعمد تحت صرته.. لعله يستعجل أو يحضر نفسه لخوض معركة بعد الطعام.. حاولت بصعوبة تهدئة أعصابي.. كنت خائفة أن أتهاوى وأفقد التحكم في توقيت الخطة.. كان يجب علي البقاء في قمة التحفز واليقظة.. لا ينبغي أن أعطي انطباعا خاطئا يفضحني. التسرع والرغبة في الاستعجال وحرق المراحل قد يؤدي إلى توجس الأستاذ ويفشل خطتي.. طلب مني كأس ماء بارد، فتساءلت فورا عما إن كان علي اغتنام الفرصة، والإسراع بوضع حبة الأسبرين في الكأس، رغم أن الطعام لم ينضج بعد. وضعت أمامه كأس الماء، وتجرأت لأسأله:
= منذ التقيت حضرتك يا أستاذ وأنا أستغرب بيني وبين نفسي، كيف لطبيب جراح مثلك أن يستغني عن مهنته النبيلة هاته ويتفرغ كفقيه لأمور بعيدة عن تخصصه..
أجابني مبتسما:
= أليس التفقه في الدين أحسن وأكثر اجرا عند الخالق سبحانه من كل المهن الأخرى؟ أجبته بسرعة وأنا أستدير عائدة للمطبخ:
= بلى.. ولكن لمهنة الطب أجرها الذي لا يبلغه إلا المؤمنون الصادقون، أما الفقه فثمة كثير من الفقهاء من حولنا.
سمعته يغمغم بكلمات لم تصلني كاملة ولم أسع لفهمها.. كنت فقط راغبة أستفزه وأثير أعصابه.. كنت موقنة من خلال مرافقة جدي أن المؤمن العاقل خير من المؤمن الجاهل، وأن التساؤل لا يتعارض مع الإيمان.. أحسست أني أزعجت حضرته بأسئلتي. عرفت مقدار انفعاله عندما عدت للصالة مرة ثانية. باعتني بسؤال فضح حالته:
= هل الطعام جاهز؟ لا تنسي أن وراءنا أشغالا كثيرة.. ثم عاد لكتابه دون انتظار أي رد مني.. تركته وعدت للمطبخ.. بعد فترة وجيزة ناديت على جمال.. لأسأله عن بعض التفاصيل:
= ما هو رأيك؟ هل أصب الطعام في إناء واحد مشترك بيننا أم أصبه في أطباق فردية مباشرة؟
= كما يحلو لك، ولو أن الأفضل أن تضعيه وسط المائدة وتتركي لك واحد حرية التصرف على قدر احتياجه.
= نعم الاختيار... سمع الرد واطمأن على مستوى الملح في الأكل ثم عاد مسرعا لصاحبه.
مباشرة، قلت لنفسي، هاهي فرصة أخرى قد اقتربت.. أخرجت لفافة الورق واخترت منها حبة. سحقتها تقعر كأس فارغة.. صارت مسحوقا أبيض مثل الدقيق.. كنت قد أعددت سلطة مغربية، عبارة عن فلفل مشوية مخلوطة بالطماطم والثوم المفروم، ومخللة بزيت الزيتون وقليل من الكمون.. صببت منها معالق كبيرة في ثلاثة أطباق ثم وضعت المسحوق في أحدها وحرصت على تذويبه بالكامل مع السلطة... حملت طبقين أولا إلي مائدة الصالة. عدت للمطبخ لاصطحاب الطبق الثالث، ولم أكد أرجع للصالة حتى وجدت الأستاذ قد ابتلع طبقه.. مد لي الإناء فارغا وقال مازحا:
= لذيذ مثل صاحبته.. هل من مزيد لو سمحت؟
هاهي الطريق أصبحت سالكة بعد ارتفاع العرقلة الأولى.. لم يبق أمامي سوى القليل.. علي أن أسرع حتى لا ينبطح الأستاذ قبل إتمام الطعام... استحليت فرص استفزازه ونويت أن أعيد الكرة.. لدي أسئلة كثيرة عن معاملة المرأة في الإسلام، ورأي الفقه والشرع في أمور عديدة تهم الحياة الراهنة للمسلمين، مثل وضعية النساء وتعليمهن ولباسهن وحقوقهن وعن تعدد الزواجات، وحق المرأة في طلب الطلاق حين تسوء المعاملات مع الأزواج.. وغير ذلك من الأسئلة التي تشغلني كمراهقة لم تدخل الحياة بعد.. غير أن رياح الاستعجال عصفت برغبتي في سماع رأي الشيخ المحترم.. تنفست بعمق وأنا أتذكر المهم من وجودي في المشهد، كان يجب علي التركيز والاستعداد لما تبقى من الخطة قبل كل شيء آخر.
الجزء 6
لم تمض سوى بضع دقائق حتى بدأ الشيخ يتثاءب ويفرك عينيه.. قام للحمام دون استئذان.. فتح الحنفية وترك الصبيب البارد يغمر عنقه ورأسه.. عاد والماء يتقاطر من لحيته، لكنه لم يلبث سوى لحظات قليلة حتى عاد إليه التثاؤب، شرع جمال نفسه يقلده ويتثاءب مثله إمعانا في تطبيق الخطة المتفق عليها... مع هذا سأله جمال للتأكد عما ألم به. أجاب بأنه شعر فجأة برغبة طافحة في الاسترخاء ولهذا سوف يتمدد قليلا ريثما تجتازه الرغبة ويعود لكامل صحوه ويقظته.
جمعت رفقة جمال كل الأطباق. رتبناها حيث كانت بالمطبخ. دار بيني وبينه حوار غريب أثناء ذلك، عددت له تفاصيل ما أخفيت عنه من قبل. كان مصباح الشارع ومصابيح أخرى ناصعة البياض في فناء معهد البعثة المقابل تنير الشقة بكل وضوح.. قلت في نفسي لا داعي إذن لاستهلاك مزيد من الطاقة.. انعكس الضوء القادم من الخارج على ظهر جمال فبان جسده مثل كتلة ضخمة مظلمة تحيط بها هالة منيرة. كان علي أن اتأكد أنه سوف يبقى في صفي يساعدني إلى نهاية المطاف.. مهما تكن المهمة التي أكلفه بها. بدأنا أولا بإطفار أنوار صالة الجلوس.. ثم نزعنا ملابسنا وتعاونا على تجريد الشيخ من جبته وتبانه. حاول جمال أن يصدني عندما أخرجت من حقيبتي المقص وألة الحلاقة.. بدأت أشذب لحية الشيخ وجزءا من شعر عانته.. قال جمال إنه يتخوف أن يكتشف الأستاذ ضلوعه في المسرحية.. ضحكت من تخوفاته دون أن أتوقف..
عجبا لتفكير مثل هذا.. يعتبر حلق اللحية والعانة جريمة واغتصاب فتاة من العائلة أمرا عاديا، بل جهادا موعودا بجزاء إلهي...
قلت له لا عليك. ستقص أنت أيضا لحيتك بإرادتك كي لا يشك فيك.. ثم إنها لا تناسب شكلك.. بهذا الشكل لن يشك أحد في إخلاصك له ولجماعته. قلت له: " أمامك خيار واحد، إما أن تفعل أو ألجأ للفضيحة.."
عندما أنهيت عملي، أعطيته الآلة ليباشر العمل على وجهه وعانته.. في انتظار إكمال ذلك، انشغلت بأمور أخرى.. من بينها التمعن في أسلحة الشيخ وأدواته المخفية عن العيون، تلك التي ينجز بها جرائمه في الأرض.. بدا لي عضوه في الظلام مثل قنفد شائك يحاول التخفي وسط الأحراج.. التفت نحو جمال أحذره:
= أسرع عملك.. لا تنس أني مرتبطة بموعد مع سائق التاكسي الذي أحضرني.. لم يبق أمامي سوى ساعتين. عند منتصف الليل تماما سأغادر.. إن كنت حريصا على إكمال الليلة سليمة بدون مشاكل فما عليك سوى أن تعجل العمل.."
قلبنا الشيخ ليصبح ممدودا على وجهه. حان وقت الظهر والردفين. تناولت البيضة وركزتها في المكان المطلوب بعد أن غطستها في زيت الزيتون.. تلاعبت بها بيدي حتى أوشكت أن تختفي بداخله حينئذ سحبتها وطلبت من جمال أن يعوضها بقضيبه.. لكنه تراجع خائفا مستغربا من طلبي. أصر على الرفض رغم إلحاحي فلم يبق أمامي سوى إخراج حبة خيار من الثلاجة.. قمت بدفها في استه بهدوء ورفق مكان البيضة. تحرك الشيخ مهتزا كأنه يحاول تخفيف ألمه الطارئ.. كانت حركته مباغتة قوية حتى كادت أن تسقطني.. كنت جالسة فوق فخذيه.. أمهلته كي يعود لهدوئه السابق.. نظرت نحو جمال فإذا به ما زال يرتعش خائفا.. كان يمكسك وجهه المحلوق بين كفيه، فمه شاغر يتفرج مستغربا غير مصدق ما يرى.. سمعته يقول هامسا " ... ويلاه ...ماذا سأقول له غدا عندما يصحو ؟" قلت له مجيبة عن تساؤله : " لا شيء... لن تقول له شيئا لأنك قبل أن ينطق ستزعم أنك تحس بألم في شرجك، هذه الخيارة ستبقى هنا ليتأكد من سلاح الجرم.. لا تدعه يشعر بأنه تعرض وحده للعنف والاغتصاب"
تناولت البيضة وغسلتها ثم بللتها من جديد بالزيت.. توجهت إلى جمال مبتسمة، وأنا أقول له:
= ما رأيك في هذه؟ هل ستحتاج إليها لتصالحني ؟
استلقيت أمامه على وجهي.. لكنه فضل جلب بعض المراهم والزيوت المقدسة.. سبق أن طلبت منه تدليك ظهري بنفس الطريقة التي يسحر بها أمي.
بدأت حصة التدليك من العنق.. أحسست جسدي يتمرد ويهرب عن سيطرتي.. لم أتعود مثل هذا الذل والاستسلام من نفسي.. أنامله وكفه ومرفقه تتجول فوقي حرة بلا رقيب.. كأنه يقود في جسدي دمي حيث يريد. ينزلق برفق ولزوجة . توقف طويلا عند مستوى الكليتين.. تغير الحال حالما بلغت أصابعه الردفين وما بينهما أصابتني رعشة خفيفة.. عندها توقفت كفاه وعوضهما بلسانه.. ألحت علي في الحين خواطر وصور وذكريات.. نزل لسانه ساخنا مباشرة فوق فتحتي فاهتز جسدي للنداء.. تمنيت لو أستطيع دفع لسنه إلى الأسفل ما وراء الفتحة ..أحسست كأننا نسير على شاطئ البحر.. ثمة أمواج غير بعيدة قادمة متوسطة الارتفاع والامتداد... تلامس نهاياتها أقدامنا قبل أن تتلاشى مخلفة بقعا وفقاعات بيضاء.. كلما أوغل اللسان راسما حدودي أو منزلقا أحس أني أحتل شيئا فشيئا مكان أسماء في قمرة المركب المتأرجح.. نعتلي متن موجة شاهقة ثم ننحدر فوق سطح هادئ.. نلتقط أنفاسنا لحظة ثم نمتطي الموجة القادمة، نغوص بعدها في أحشاء البحر المعتمة.. شعرت برجة عنيفة عندما بدأت الأمواج تترادف قوية متسارعة... ثمة ثقل هائل يحميني من التأرجح والسقوط والغرق.. أزحت كف جمال عن صدري حيث كانت تعصر نهدي.. وضعتها فوق جبهتي.. تذكرت قوة علال وهو يجر بعنف رأس أسماء ليلصق بها حوضه حتى يتماهى فيها ويكاد يختفي. أشرت على جمال أن يجذبني من الشعر بقوة . شعرت أنه بكامله يبحر داخلي.. شهقت وتوقف تنفسي.. جحظت عيناي ولم أستسلم بعد.. تراجع حتى ألتقط نفسي ثم أعاد الكرة حتى خرجت روحي مني ثم عادت بشعور لذيذ.. دقات قلبي تنبض بقوة متوالية متصاعدة.. شق المركب سطح البحر وغاص رأسه إلى نصفه تحت الماء حتى خلت أنه سيسحبنا معه إلى الأعماق.. عاد المركب لتوازنه وأنا أسرق أنفاسي قبل أن يغوص من جديد.. ساد من حولنا صمت قاتل فجأة وسط ظلام البحر فهدأ المركب يستريح ونصفه تحت الماء.. كنت أحس بشئ غريب داخلي يتنفس وينفخ مثل أنابيب الإطفاء ماءه بقوة كأنه يطفئ ناري.. ثم خيل لي أن أنوارا بعيدة تنادينا فأغمضت عيني كمن أصابته صعقة كهربائية لم تقتله.. لا أدري كم مر علي من وقت وأنا على تلك الحال من الغفوة والغياب... تحركت أخيرا لأزيح جمال عن ظهري فقبلني بحنان وهمس في أذني :
= كم أنت رائعة يا نورا...
كانت تلك أول مرة أعيش فيها، بكامل وعيي ، مع رجل حقيقي. وقد كانت للأسف تجربة مطبوعة بمقاسات عالية.. كثير من المحاولات التي عشتها بعد ذلك في حياتي لم تبلغ نفس المستوى من الإثارة.. كان جمال يملك جسما نموذجيا بكل ما فيه.. ورغم أنه كان مثلي مبتدئا في استعمال يده ولسانه وباقي أطرافه إلا أنه قطع أشواطا محترمة في ممارسة سحره... وعوض أن أحتفظ من الذكرى بما هو رائع وجميل، اكتشفت أنها ستغدو عائقا أمامي في كثير من التجارب التي سيكتب لي أن أعيشها من بعد.
قلت له وأنا ألبس ثيابي:
= للأسف أنك ستسافر.. كان بوسعي أن أجد فيك معلما بارعا في نهاية كل أسبوع.. لا تنس أن تبقي الشعر المقصوص كله موزعا ومشتتا في الصالة، وكذلك حبة الخيار.. إذا شعرت أنه يصحو، لا تتسرع.. تصنع الإغفاء حتى يوقظك هو.. بهذه الطريقة لن يتهمك بشئ... سوف يقتنع بأنكما معا ضحيتي.. مع السلامة الآن. أتمنى لك كامل الحظ في السفر...
قبل نهاية نفس الأسبوع، تمت إذاعة إعلان عبر مختلف وسائل الاتصال.. أعلن من خلاله عن خبر إلقاء القبض في مطار مراكش، على عصابة دولية تتاجر في ترويج العقاقير والحبوب المهلوسة، وهناك شكوك حول علاقتها بتهريب البشر واستقطاب مقاتلين في صفوف منظمات إرهابية.. تتخذ أميرا لها إمام مصري سابق يزعم أنه طبيب.. وقد كان ابن عمتي جمال ضمن المعتقلين.. حيث ظل رهن الاعتقال لمدة قاربت الشهرين إلى أن تم التأكد من عدم وجود أي صلة بينه وبين هذه العصابة قبل إخلاء سبيله..
عادت أمي من السفر في مساء نفس اليوم الذي اعتقل فيه جمال مع العصابة.. بعد يومين فقط جمعت حقائبها.. استنتجت أنها كانت على موعد مع عدد من أصدقاء الوالد مصحوبين بنسائهم. كانوا جميعا متفقين على قضاء عطلة أسبوعين على متن باخرة إيطالية يزورون خلالها عددا من المدن الساحلية، ويمضون معظم الوقت داخل البحر... كان المحامي ضمن المسافرين، وبدا انه العنصر الوحيد الذي لم ترافقه زوجته. كما أنه العضو الوحيد المصاحب لوالدي من شلة الحزب..
اغتنمت بدوري الفرصة لأتصل بإلياس ابن المحامي لألتمس منه الحضور.. كنت أنوي أن أعرفه بأخي وسفيان ابن عمتي وسعيد وأسماء ابنة خالي.. كانوا كلهم لحسن الحظ قد عادوا من سفرياتهم، حتى علال كان حاضرا.. وبدلا من مطالبتهم باللحاق بي إلى مراكش حيث كنت مع إلياس، اقترح علي هو أن نستعير سيارة أمي ونلحق بهم إلى مدينة آسفي.. كان يود أن يستعيد بعض ذكرياته فيها، ويتعرف على الجديد ويستفيد من البحر والأسماك الطرية وخاصة السردين في نفس الوقت.
في أول يوم كادت جرأة. إلياس أن تفسد الجو وتؤدي إلى معركة طاحنة.. لأنه لم يستطع إخفاء إعجابه بأسماء، بل ظل يحاول مداعبتها وحرص عدة مرات خلال السباحة أن يثير فضولها ويجرها إلى قاع المسبح.. وهو ما أغضب علال وأثار غيرته فانقلب اللقاء بينهما في أول يوم إلى خصومة ساخنة.. تدخلنا جميعا لتهدئة الوضع وإبرام الصلح بينهما، وأرغمنا إلياس على الاعتذار.. كان يعنبر جرأته مجرد إعجاب وقال إنه لم يخطر بباله نهائيا أن. يتحرش بها أو يستفزها.. كان ينوي المداعبة وخلق جو مرح لا غير.. وقد كان من أعجب الأمور أن هذه الخصومة السريعة سرعان ما انقلبت إلى مودة وإعجاب متبادل، مما جعل المثل القائل أن كل مودة قوية لا شك شبقتها خصومة قوية.. هكذا الأنداد يعرفون بعضهم ويفوزون من بين الكل بمحبة حقيقية لا تزول..
صار كل منهما يقدر الآخر، خصوصا بعد أن علم علال أن والد إلياس محامي وأن إلياس نفسه لم يبق أمامه وقت طويل كي يصبح بدوره محاميا متدربا.. قضينا بقية الأيام في نقاشات طويلة حول أوضاع البلد وخاصة بسبب الاحتجاجات التي يقودها الشباب في الشهور الأخيرة من عام 2010 وكذا في التسلية والاستمتاع ببعضنا البعض.. أقمنا جميعا ببيتنا باستثناء علال، الذي كلفناه بتمويل اللقاءات بما تيسر من السمك الجيد على مختلف اشكاله.. حيث كان يبقى معنا لفترات متقطعة بعد أن استقرت مشاعره من ناحية إلياس وبدأ يطمئن لإخلاصه وجديته..
في اليوم الثالث اصطحب علال معه أحد أصدقائه المقربين، واسمه عبد الصمد، وهو يعمل كسائق بالميناء وسبق لأسماء أن حدثتني عنه بإسهاب، محاولة أن تقدمني إليه كهدية ساذجة عندما كنت أشتكي إليها عجز سعيد وفشله وتقصيره العاطفي معي..
كانت أسماء وسفيان وأخي على أعتاب السنة الأخيرة بالثانوي، لهذا اقترح علينا إلياس أن ندرج عددا من المواضيع الحساسة ضمن نقاشنا الجماعي.. كان من بينها مسائل لم أستوعبها حينئذ لا أنا ولا سعيد.. واستغربت من علال وعبد الصمد السائق البسيط، اللذين كانا يتجرآن على خوض النقاش والمساهمة فيه بأفكار يتولى إلياس تهذيبها وترجمتها بلغته لتصبح مقبولة ومستساغة.. كان يهنئهما على بعض الاقتراحات وعلى مستوى الفهم.. باختصار صار إلياس في نظري مثل قائد أوركسترا يضبط إيقاع الكلام ويوضح الغموض وينتقل ما بين الجد والهزل كي لا نمل.. كانت له قدرة هائلة على جعل فضولنا لا ينقطع ولا يدب إلينا الملل، كما لو أننا نلعب ولا نناقش أمورا جدية..
ضحكت مرار عندما يتدخل عبد الصمد أو علال في النقاش، معتبرة أن طريقة تعبيرهم ليست سليمة ولا مقنعة.. لكن إلياس قال لي بأن مسألة الشكل أو طريقة التعبير ليست هي الهدف من النقاش بل المهم هو الفكرة.. ثم يحول نفس ما قيل إلى جمل منمقة بتعبير يضمنه مصطلحات فيصبح الكلام ناصعا واضحا وذا مغزى.. قال إلياس مفسرا التحول بأن معرفة هذه الأمور تأتي من باب التجارب الفردية في الحياة وليس من المستوى الدراسي، لأننا لا ندرس كل شيء وخاصة مثل هذه المواضيع.. فنحن سواء دارسين أو أميين نعيشها فقط ونصادفها ونتعامل معها.. لا نحتاج للدراسة لنختبر الحريات الفردية مثلا.. ولا نحتاج لها لنفهم العقائد أو نتكلم عن المرأة عموما في علاقاتها الزوجية أو علاقاتها مع الأصدقاء أو في كيفية لباسها وهل من الضروري أن تنفذ ما تسمعه من أمها بحذافيره وتطيع الأوامر بدون جدال.. ليس ضروريا أن تتزوج بحسب ما يختاره أهلها.. ونفس الشئ عندما يتعلق بشرفها أو سمعتها.
ومما أثارنا جميعا حديثه عن حرية المرأة في ممارسة الجنس حتى قبل الزواج.. معتبرا أن ذلك ضروري لأنه يساعدها على اختيار الشخص المناسب.. هذا إن أحبت طبعا وليس بصفة مطلقة، ليس تجربة من أجل التجريب فقط.. لأنها ليست سلعة تستغل وتلقى على الرصيف.. فالمهم من هذا أن تعرف المرأة أنها حرة وأن جسدها لا يملكه أحد إلا بإذنها، وهي تسلمه لزوجها حين تحبه وحين يتعامل معها بتفاهم ومودة، لكنه أبدا لن يتملك جسدها بصفة إلزامية مطلقة.. كنت أعتقد أن من حق الرجل على زوجته أن يضاجعها متى شاء فجاء إلياس، مشروع المحامي القادم ليقول العكس.. قال لو ضاجعها الزوج بدون رغبتها فهذا عنف يدخل في باب الاغتصاب والتعدي على الحرية..
غير أن ما لم يرقني تماما هو تهجم إلياس وعلال على الأحزاب والحياة السياسية بشكل عام... اعتبرت مواقفهما عبثية وعدمية كما يقول إلياس نفسه عن أمور أخرى.. شعرت كما لو أنه يحسد والدي أو يطعن في جهوده ومشاريعه وعمله.. لكنه ذكرني بأن أباه أيضا معني بالنقد أكثر من أبي بحكم المناصب التي احتلها سابقا أو بحكم المهنة.. وأن البلاد لا تتحمل مزيدا من الانحلال السياسي والتسلط الاقتصادي والاستغلال الممنهج ولا مزيدا من القضاء على القيم الوطنية وغير ذلك من الكلام الذي لا أفهمه كله..
بعد قضاء أسبوع كامل مع الشلة قررت العودة صحبة إلياس إلى مراكش، حيث ودعني في اليوم الموالي عائدا للرباط.. بقي الاتصال بيني وبينه، ومع بقية الشلة بواسطتي قائما، إلى أن استدعانا إلياس بعد شهور لزيارته بالرباط..
صادفت عودة أبي وأمي من الرحلة البحرية موعد انتهاء التحقيق مع جمال.. نقلوه إلى السجن من مفوضة الأمن، فأصبح من الممكن زيارته للاطمئنان عليه. كان والدي، كعادته مصرا على منعنا من الزيارة رغم إلحاح عمتي وأمي عليه.. ظل يردد أنه متأكد من انتماء جمال لجماعة ذات نزوع إسلاموي، وأن مسيرة حياته وتعليمه قد انتهت عند هذا الحد.. أحسست عندها أن الاعتقال أراح أبي، لأنه يوفر له حجة دامغة، لو تحققت، لتبرير معاداته لجمال.
حضرت عمتي المسكينة باكية مصحوبة بابنها سعيد وحضرت أسماء وسفيان وأخي.. حاولنا كلنا إقناع والدي بضرورة الصبر حتى تتضح الأمور أكثر.. لأن التهم غير ثابتة وأن من الواجب على كل أفراد العائلة أن يزوروه لرفع معنوياته والدفاع عنه إلى النهاية، وإلا فإن الناس والمعارف سوف يستغربون، وقد ينقلب الوضع إلى عداوة مع عمتي فيما لو أثبت التحقيق التفصيلي براءة الولد... في الأخير قبل أبي تحت الضغط، في حين طلبت أمي من المحامي، والد إلياس أن يتدبر المسألة، وينوب عن جمال فيما تبقى من مساطر وإجراءات قضائية.
كانت عمتي تائهة لا تعرف ما تصنع ولا تكف عن البكاء ليل نهار.. أما سعيد فقد بدا مصدوما، تعكس ملامحه رعبا غير طبيعي كأنه عضو في منظمة سرية يخاف أن يفضحه أخوه أثناء التحقيق. كان يردد ببلاهة سؤالا لا معنى له أمام الجميع. هل سيعتقلوني معه؟
تغير لونه إلى الاصفرار رغم الصيف وحرارته. طغت أخبار المجموعة على محطات الإذاعة والتلفزة وكل وسائل الإعلام الأخرى.. اشغلت الأسرة بكاملها فيما تبقى من أيام العطلة بهذه الأخبار.. حتى الهاتف لم يتوقف عن الرنين صباح مساء.. بعض الخبثاء اغتنموا الفرصة ليكيدوا لوالدي، وبعض المنافسين يتربصون به للانقضاض على مرتبته ومنصبه في المكتب السياسي للحزب..
بعد أيام أخبرنا المحامي بأن الملف فارغ بالنسبة لجمال، وأنه بالتالي على الأرجح سوف تحكم النيابة العامة لصالحه بعدم المتابعة. وهي منزلة بين البراءة والإبقاء على مراقبته من باب الاحتياط والتشكك. أما باقي الملف، فإن المحاكمة ستنتقل إلى البيضاء لعدم الاختصاص... وقد تم هذا بالفعل بعد حوالي شهر ونصف.. ومن حظ جمال أن أطلق سراحه قبيل انطلاق الموسم الدراسي فالتحق بالكلية صامتا مهزوزا.. ظل مطرقا برأسه يخفي عني عينيه كلما سألته أو نظرت إلى وجهه. حاولت زيارته في الشقة لمعرفة تفاصيل ما حصل بالضبط، غير أنه ظل يراوغني إلى أن عدت بدوري إلى الدراسة بمدينتي.
الجزء رقم 7
في طريق عودتنا، أنا وإلياس، من مدينة آسفي إلى مراكش، خطرت لي فكرة خبيثة مفاجئة. سادت بيننا لحظات صمت باردة، وانهمك كل منا يفكر أو يتأمل.. كان الوقت قريبا من ساعة الأصيل.. بدأ الظلام يهاجم الساحات الشاسعة والأشجار القليلة المتناثرة هنا وهناك من الجهة التي نتجه إليها.. في مثل هذه الساعة تمتلئ الطريق بحافلات النقل بين المدينتين هربا من شمس النهار القائظة.. كان إلياس يسوق بتمهل شديد رغما عنه، مع هذا ظل هادئا دون أن يفقد أعصابه.. تأملت قسمات وجهه وبعض حركاته.. يبتسم بلا مناسبة ويحرك رأسه بين حين وآخر كأنه يتابع بداخله نغمات خفيفة غير مسموعة..
مددت يدي اليسرى فوق كتفيه كما لو أني فجأة أنوي معانقته.. في نفس الوقت راودتني رغبة جامحة أن أقبل خده.. كان رد فعله أنه التفت نحوي بنظرة سريعة مبتسما وعاد يركز نظره على الطريق. لأول مرة منذ عرفته أتساءل في داخلي: " كيف لم يخطر ببالي أبدا أن أتقرب أكثر من هذا الشاب الوسيم المهذب والمجتهد؟ سبع سنوات فقط تفصل بيننا.. يزورنا متى شئت.. يقضي ليله ونهاره بجواري، يسبح ويتجول في شوارع مراكش معي.. شاب مكتمل العقل والرجولة.. راجعت كل الأفكار والمناقشات التي اقترحها، وكل ما استفدناه منها.. لكن كيف لم يخطر بباله أن يستغل هذه الظروف ليتحرش بي؟ كيف سمح لنفسه أن يداعب أسماء ولم ينتبه لي، مع أني أجمل منها قواما وأحلى شكلا ومعاشرة؟ وكيف بي لم أفكر أن أراوده عن نفسه؟
فكرت طويلا في الأمر وأنا أنظر إليه معجبة بصمته ورزانته وهدوئه.. كان من الوارد جدا أن أغرم به لو بقي بجواري لمدة أطول.. لكن قبل هذا، يجب أن اعرف لماذا لم يحصل ما تخيلته.. هل أسأله عن السبب؟ حين فعلت اكتفى بالضحك لحظة، ثم بدأ يقطر الجواب في شكل كلمات متباعدة متقاطعة.. بدا كأنه متردد فيما يقول، أو كأنه غير واثق أصلا بكلماته وغير مقتنع بها. سمعت منه أفكارا غريبة لم أسمع بمثلها من قبل، أو على الأصح، لم أتوقع سماعها من شخص قريب مني مثل إلياس.
قال إن الفرق بيني وبين أسماء، أنها بلغت سن الرشد.. بينما أنا لم أتجاوز سن الطفولة بعد، وهذا يترتب عنه أن الخوض في مواضيع العشق والجنس معي يعد جريمة يعاقب عليها القانون.. وأنه باعتباره طالبا يدرس الحقوق والقوانين، فإن اقتراف جريمة كهذه يعرضه لظروف التشديد، أي يضاعف من العقوبة التي قد يحصل عليها.. وليس هذا فقط. فهو أصلا منع نفسه من تجاوز الحدود لكونه مرتبط بحب فتاة من حيهم، تدرس معه في نفس الكلية، تقاربه في السن، ومن غير المعقول أن يفاتحني في موضوع الحب وهو بعيد جغرافيا عن مكان إقامتي، ولذلك سيتعرض لتأنيب الضمير مباشرة لو خولت له نفسه القيام بأي مغامرة معي.. فضلا عن كونها لو حصلت ستبقى مجرد مغامرة بدون مستقبل وهذا سلوك بعيد عن الاحترام ومسئ لكرامتي، كما قال.. إلخ
لهذا، فضل أن تبقى علاقتنا في حدود صداقة بريئة نقية، بعيدا عن أي لحظة ضعف أو استهتار من شأنه أن يفضي بنا للندم. في النهاية، قال إنه عموما لن يقبل لنفسه أبدا أن تدخل في مغامرة غرامية مع أي فتاة لا تربطه بها علاقة حب حقيقية متبادلة، شريطة أن يسمح لها السن القانوني بذلك..
ساد الصمت بيننا من جديد. دخلت السيارة في ظلام دامس.. كانت الأضواء تسمح برؤية مساحات بسيطة أمامنا. بدأت أفكر في كل الذي سمعته من إلياس، وتوزعت مشاعري بين القلق والسخط ومحاولة تفهم وجهة نظره.. عادة في مثل هذه المواقف يرفض العقل تصديق ما سمعته الأذن لأنه في الداخل لا يرى أي لذة أو مصلحة فيما وصل إليه حتى ولو كانت كل الحقيقة ساطعة من خلال الكلمات. أغمضت عيني وألقيت برأسي على زجاج النافذة المجاور.. ترى ما الذي كنت سأسمع منه لو علم بقصتي مع جمال وأستاذه.. هل كان سيحترمني كما يفعل الآن؟ ربما كان سيحرضني على رفع شكاية ضد ابن عمتي وصاحبه، خصوصا بعد أن علم بخبر الاعتقال.. انتقل تفكيري إلى تفاصيل ما عشته مع جما أياما قليلة قبل اعتقاله.. تنهدت بعمق دون أن أفتح عيني، وسرعان ما أدركني النعاس... أيقظني إلياس لأفتح باب البيت عند الوصول إلى مراكش.. اعتذرت وذهبت مباشرة لغرفتي بينما فضل هو أن يستحم في المسبح ويستعد للسفر في صباح الغد..
منذ أن حدثني جمال عن الميول الشبقية لوالدتي، أصبحت كثيرة الشك والانتباه لتصرفاتها.. لم أكن من قبل اعير أي أهمية لطريقة لبسها، أو لنظراتها ودلالها.. كنت أفسر الميوعة الزائدة والتغنج بحب الأنثى وغريزتها، ورغبتها في الظهور ولفت الأنظار فقط.. وكان مما زادني شكا وارتيابا في تلك الصورة التي تكون عليها، أنها تبالغ بصفة خاصة عندما يزورنا المحامي، والد إلياس...
تعرف أمي بالسليقة والحاسة النسائية كيف تبرز نقط قوتها.. ترمي سروال دجين الذي ترتديه عادة أثناء العمل أو التسوق، لتعوضه بتنورات قصيرة تبرز جمال فخذيها وساقيها.. تفك الرباط الذي يجمع شعرها خلف الرأس في شكل ذيل حصان، لتحرر خصلاته الثائرة خلفها كالأمواج، سابحة تغطي القفا والأذنين.. الشئ الذي يعيدها عشر سنوات للوراء.. تحرر صدرها من الحمالة كي يتراقص النهدان الثابتان عند الانحناء.. وترفع صوت ضحكتها مجلجلا في الفضاء كأنها تسعى لإثارة الانتباه من كل الحاضرين..
اهتمام أمي بمظهرها يذكرني بجدتي السويدية الأصل، التشابه الكبير بينهما مثير حقا.. لون البشرة ولون الشعر والعينين كأمهما شخص واحد، مما يجعلها تبدو مثل ضيفة قادمة للتو من إحدى دول الشمال الأوروبية. كنت سمعت بعض الإشارات عن علاقة قديمة كانت تربطها بالمحامي قبل زواجه... كان ما يزال ضيفا في بيت جدي، قبل أن ينتقل إلى الجامعة ليحصل على إجازة في القانون ثم يتحول بسرعة إلى المحاماة.. هي قصة حب فاشلة كان لها أعمق الأثر في كل العائلة بسبب تنكره لوعوده.. لهذا لم يكن اعتناؤها المبالغ فيه بمظهرها يثير شكوكي، لأني اعتبرت تصرفاتها مجرد رغبة في التذكير والانتقام ورد الاعتبار للذات الجريحة..
في فترة التحقيق التفصيلي، إثر عودة أمي وأبي من رحلتهما البحرية، تم توكيل محامي شركة الوالد، بإلحاح من أمي، لمتابعة التحقيق والدفاع عن ابن عمتي جمال.. ظهرت في أسرتنا بوادر نزاعات قوية ومسموعة بين أبي وأمي حول الموضوع.. كان أبي كعادته غير مهتم ولا واثق بمستقبل ومصير جمال، لهذا لم يوافق على توكيل محامي الشركة للدفاع عنه، أو هذا ما استنتجته من خصومة المستمرة مع أمي.. ربما حدث الخلاف بسبب اضطرار المحامي للتردد على بيتنا طيلة شهرين تقريبا.. إذ كان يحل ضيفا علينا ثلاث مرات كل أسبوع.. خلال هذه الليالي كلها تعود البيت على طقوس جديدة كل مساء.. تعقد فيه جلسات طويلة بعد العشاء. تستمر المناقشات بحدة حول نتائج التحقيق في قضية اعتقال جمال، ثم ينتقل الحديث لمواضيع تتعلق بمختلف أنشطة الشركة، وببعض الذكريات الجميلة حين كانت البراءة والود يحلقان في أجواء العائلتين..
وما يكاد الحديث يبلغ حدا من التكرار، حتى تنزل على الطاولة كؤوس الويسكي والبيرة على الأشكال.. يسمح لي أن أفض سدادة زجاجة أو اثنتين ثم يعلو صوت أبي يأمرني بمغادرة الاجتماع، بحجة أن السهر يفسد صحة وأخلاق المراهقين من أمثالي..
بعد إطلاق سراح ابن عمتي، ارتحنا جميعا من هذا الضيف الثقيل مدة أسبوعين.. لكنه ما لبث أن عاد بتبريرات تتصل ببعض الملفات، أو بسبب عروض منتظرة، سمع عنها في كواليس بعض الوزارات بالرباط.. في أحد زياراته تلك كان مزهوا بنفسه بشكل مبالغ، لأنه، حسب ادعائه تلقى خبرا من نسيبه يهنئه فيه بمنصب وزير في الحكومة المقبلة، إثر تعديل يدخل على الحكومة الحالية.. وحسب ما يبدو فقد لقي الخبر ترحيبا قويا من طرف أبي وأمي، إلى درجة أن أبي صار يخاطبه بلقب معالي الوزير.. لذلك انقلب موقف والدي فجأة وأصبح متحمسا لكل شيء له علاقة بالمحامي، كما أصبح حضوره لبيتنا مرغوبا فيه.. وقد فسرت هذا التحول بطمع الوالد في الخدمات والتدخلات التي سوف تستفيد منها الشركة بعد تنصيب المحامي كوزير، خاصة أنه سيكون ممثلا عن نفس الحزب..
ولما كانت الغرف الأربعة المخصصة للضيوف تقع في نفس الطابق الذي تقع فيه غرفة نومي، فقد اعتدت على سماع النقاش والغناء والضحك وبعض الصخب أثناء الليل في غرفة الضيف، كما لو أن الجماعة تنقل أنشطتها إلى غرفة نومه، خصوصا لو جلست في البلكونة المطلة على المسبح والحديقة بسبب حرارة الصيف..
في إحدى تلك الأمسيات، كنت جالسة في البلكونة أتنفس بعض الهواء المنعش في منتصف الليل. كنت قد شربت بيرتين، مما زاد من عطشي وألهب صدري.. شعرت بضيق شديد.. فتشت في ثلاجتي الصغيرة عن الماء فلم أجد ما يسعفني ويخفف من عطشي.. قررت النزول للمطبخ.. حملت قنينة ماء باردة بسرعة وعدت مسرعة لغرفتي.. فجأة خيل لي أني سمعت عندما مررت أمام باب غرفة الضيف، صوت كلبة أمي التي لا تفارقها.. اقتربت أكثر من الباب، فبلغني صوت أمي.. وضعت أذني متجسسة لعلي أسمع صوت أبي أيضا.. كانت أمي تتحدث وحيدة مع المحامي..
= أووووف... دعني أعيد كلبتي لمكانها المعتاد، لأنها بدأت تزعجني.
= مسموح لكن بشرط أن تعودي.. ما زلت مشتاقا إليك
= بالطبع سوف أعود.. أنا أيضا ما زلت مشتاقة إليك.. لدي مفاجأة جميلة لك، هذه المرة لن أعود بمفردي.
سمعت مباشرة صوت خطوات تقترب من الباب.. كدت أصعق في مكاني.. التفت نحو الأدراج وقفزت مسرعة في اتجاهها. فتحت أمي الباب عندما بدأت النزول..
= نورا.. ما ذا تفعلين هنا في منتصف الليل؟
= أأأ... شعرت بالعطش ولم أجد ماء في غرفتي.
أجبتها دون أن أتوقف، حاولت استرجاع هدوئي دون تمكينها من اكتشاف تلصصي عليها، أو ملاحظة ما كنت عليه من الاضطراب.
= هيا أسرعي وعودي لغرفتك،
أسرعت نازلة أكاد أقفز.. كأن ثقل الصدمة يدفعني للغرق في بحيرة آسنة.. تناولت من الثلاجة قنينة الماء وعدت لغرفتي بنفس السرعة. كانت أمي قد اختفت بداخل شقتها. تركت باب غرفتي مواربا وأطفأت النور وجلست على كرسي أمام مدخل الغرفة.. كان الفضول يدفعني لمعرفة ما سيحدث بعد رجوع أمي.. كنت أنتظر المفاجأة التي أعلنت عنها.. تهاطلت علي الأسئلة كشلال جارف. ما الذي تفعله أمي في منتصف الليل وحدها بغرفة الضيف؟ ولماذا يلح عليها كي يضمن عودتها إليه؟ وما هي المفاجأة التي وعدته بها؟ وما هو موقف أبي مما يحصل؟ كيف يتركها تسهر في جلسة خمر مع شخص غريب حتى لو كان هو محامي الشركة؟
استحضرت ما سبق أن حكاه لي جمال عن شبق أمي وشهوتها الزائدة.. تذكرت نصيحته حين قال لي :
=... لا تغمضي عينيك يا نورا، حتى لا تصابي بصدمة نفسية حين تكتشفين حقيقة أمك بنفسك..
بدأت تتضح لي الحقيقة. تجاوزت مستوى الشك لأن القرائن والحجج كثيرة.. لهذا جلست في الظلام أرقب عودتها.. تمنيت لو تكذبني ولا تعود..
جلست حائرة لا أدري بالضبط حقيقة مشاعري في تلك اللحظة.. أصدق أم أكذب ما تراه عيني وتسمعه مشاعري قبل أذني. بعد حوالي ساعة تقريبا، بلغني صوت حفيف أقدام تنسحب بحذر فوق البلاط.. فتحت عيني جيدا لعلني أرى من فجوة الباب ما يجيب عن أسئلتي.. وليتني لم أفتحها.. رأيت أمي قادمة تتبختر في قميص نوم براق يلمع تحت أضواء خفيفة تنبعث من نوافذ بعيدة منسلة من أنوار الحديقة.. يبدو أن أمي غيرت بذلتها الرياضية التي كانت تفضح كنوزها بإخلاص مفرط. ثم عادت محيطة جسدها بثوب البيجامة الحريري الذي يظهر أكثر مما يخفي.. لا يبدو بثوبها هذا أنها عائدة لجلسة نقاش أو تدارس أرقام ومشاريع. أما الطامة أو المفاجأة المنتظرة فهي أني شاهدت أبي ينسحب خلفها لابسا سروالا قصيرا وتي شورت فقط.. أعرف أنه يحرص دوما على الظهور بلباس مغربي تقليدي حين يكون بالبيت وأنه لا يقبل حضور أي لقاء عملي بهذه الصورة..
نقرت أمي على الباب نقرتين ثم فتحته وتركته خلفها مواربا ريثما تبعها الوالد المحترم.. لكن العجيب أني سمعت بعد دخوله صوت مزلاج الباب يوصد من الداخل. قلت في داخلي، هذه حركة الغرض منها ضمان الخلوة بغير رقيب، إذ ليس من عادة أي من سكان البيت أن يقتحموا الأبواب المغلوقة على أهلها بدون ترخيص. مع هذا الاستنتاج تقوت شكوكي وتخيلاتي. اسرعت نحو الباب من جديد أتابع ما يمكن من الأصوات.. وإذا بالمحامي يرحب بأبي في بيته قائلا:
= أهلا بحضرة المدير.. فعلا مفاجأة سعيدة، ها قد بدأت أخيرا تتواضع وتفكر بطريقة عملية..
= قلت لك سابقا لا تستعجل... كنت شاعرة أنه سيتغلب على تردده ليقبل الحضور معنا يوما ما..
= تفضل أرجوك، لا مبرر للخجل.. خذ كأسا استمتع معنا كما تشاء.. يسعدنا حضورك الليلة.
نزلت الكلمات كالزلزال في أذني.. سارعت عائدة لغرفتي. لم يبق هناك أي شك. ولا يمكن لي تحمل صدمة أقوى وأفضح من هاته التي سمعت..
لم يكن من السهل على فتاة مراهقة مثلي أن تجد نفسها فجأة في موقف صادم كهذا. كيف لي أن أتقبل سقوط المثال الذي من المفروض أن أحتمي به وأتخذه قدوة لي في الحياة؟ كدت من هول الصدمة أن اصرخ لنشر الفضيحة ومنع استمرارها.. ها هو أبي يبين بالمكشوف أنه متواطئ في نفس الجريمة. هل بلغ به الطمع إلى درجة استعمال جسد زوجته للحصول على مكاسب مادية؟ هل كل الذي كنا نراه من لقاءات واجتماعات سياسية ومشاورات سببها الجشع والطمع والرغبة في تضخيم الثروات فقط؟ الأن فهمت انتقادات إلياس للحزب وتذكرت كيف أني اعترضت عليه من قبل.. كيف لأبي أن يتحمل منظر مشاهدة زوجته المحبوبة في حضن الضيف غير العزيز، تضحك وتمارس وترتعش وتبكي من اللذة؟ ألا تشفع له أصوله الصحراوية أن يكون مثالا في هذه الأمور التي تجعل النساء تركع لمن يملكها؟ كيف لأمي نفسها أن تضحي بسمعة وشرف الرجل الذي أنقدها من صدمة حبيبها الذي تركها تنتظر عودته وتزوج من ابنة رئيسه؟ هل بلغ الضعف بالكبار إلى درجة الاستسلام للغرائز والشهوات بلا حساب أو بلا قوانين؟ أم أن هناك قوانين أخرى لا يعرفها سواهم، تبيح لهم أن يحطموا كل التقاليد والأعراف؟
لم يبق لي سوى أن أتصنع السقوط من أعلى الأدراج مصحوبا بصرخة مدوية، ربما يؤدي انتحاري لتوقيف الجريمة قبل أن تستفحل.. لكن من يضمن لي أن الجريمة لم تكن وقعت مرارا قبل تلك الليلة؟ ربما الشئ الجديد فيها، أن الإخراج فقط تغير بدخول والدي للحلبة بعد تردده السابق.. عدلت عن فكرة الانتحار لما تخيلت أنني سأكون ضحية لا قيمة لها.. فمن يبيع زوجته مقابل الربح المادي لن يهتم بانتحار ابنته.. الحي أبقى من الميت كما يقال.. أدفن وتعود حليمة لعادتها القديمة.
بعد حين، تلقت أذناي صوت ضحكة أنثوية صاخبة، تبعتها أصوات متداخلة فيها نفس التأوهات والأنين الذي سبق لي سماعة من أسماء وصاحبها علال في قمرة الباخرة داخل البحر.. صرخة أعادتني إلى الموقف الغريب الذي كنت غارقة في تتبع فصوله رغما عني.
اكتشفت أني أضيع وقتي وأني لن أتمكن في كل الأحوال من فعل أي شيء.. كل ما توصلت إليه وقدرت عليه، هو أن أزور غدا محلات البازارات السياحية، التي يشرف عليها خالي، علني أحظى في بعضها بلقاء جدتي.. لم أفكر بالطبع في نقل ما يجري إليها كي لا أصدمها أو أتسبب لها في سكتة قلبية.. كان غرضي هو اللجوء إلى الأصل ومنبع الفخر والصفاء.. لعل ابتسامتها البريئة تهدئ من احتراقي وحيرتي..
الجزء رقم 8
تأكدت من عجزي وخيبتي.. انسحبت عائدة إلى غرفة النوم.. جلست على نفس الكرسي دون إغلاق الباب بالكامل.. كنت أتحرك وأتصرف بطريقة أوتوماتيكية لأن اكتشاف مزيد من الخيانة أصبح لا يهمني.. أتحرك كآلة مسيرة عن بعد لا تفقه ما تراه العين وتسجله الأذن.. الأمر يتعلق بمصيري ومصير أسرتي، وهو مصير لم يعد ثابتا أو باعثا على الافتخار. الخيانة فعل شنيع غير مقبول، فما بالك في حالة الخيانة المزدوجة.. تذكرت حالات وحالات، كلها انتهت بالتسامح لأن المتهم فيها رجال.. المجتمع العربي يتساهل نوعا ما مع خيانة الرجل.. يكفي أن تتنازل الزوجة، فيطلق سراحه ليسوي أحواله معها ومع أسرته.. يدافعون عن تساهلهم معه بمبررات من قبيل أنه رجل، وأنه مسؤول عن عائلة وأبناء، ولا يعقل إنزال عقوبات قاسية عليه.. بينما خيانة الزوجة تواجه بالقسوة والتشدد من الجميع، حتى في حالة تسانح الزوج وعفوه عن زوجته، تستمر معاقبتها وتأديبها.. وكل ذلك إمعانا في التحكم في الأنثى والانتقام منها حتى لا تنتشر الرذيلة والفساد في الناس..
غمرني حزن عميق وتاهت بي السبل والأفكار في كل مذهب حتى غفوت وغبت عن الوعي.. لم يمنعني جلوسي على الكرسي من النوم.. لست أذكر كم مر علي من الوقت حين صحوت على صوت أقدام واشخاص يتكلمون.. فتحت عيني ورميت بصري عبر شق الباب الموارب نحو الممر.. كانت غرف الضيوف مصطفة على الجانب لأيسر منه.. أمام واحدة منها رأيت والدي وأمي يخرجان مترنحين.. يمسك أحدهما بالآخر بينما وقف المحامي شبه عار يودعهما ضاحكا.. كادت أمي أن تسقط لولا أن أبي أمسكها. كانت تريد أن تستدير لتسير نحو جناحهما في الواجهة الأخرى عند نهاية الممر.. كانت خطواتهما، خصوصا أمي تقول كل شيء.
عقارب الساعة المعلقة فوق جدار غرفتي تشير إلى الخامسة صباحا.. منظر أبي وهو يخرج من غرفة المحامي أحدثت لي ثورة وقلبت كياني ووجداني.. لم يبق من هيبته سوى خيال منسحب لا قيمة له.. لم أعد أنظر لأمي أو أحملها مسؤولية ما يقع.. إذا حضر القواد لا تلتفت الأنظار للضحية. هي مجرد جسد ممتثل للأوامر، حتى ولو كان للغرائز الأنثوية دورها.. حتى ولو كانت هي المستفيد من العملية.. خيانة أمي حاصلة بإذنه وإرادته.. أراها الآن مثل حشرة قاتلة فوق رأسه.. كيف أختبئ من الفضيحة وقد صار أبي حشرة في نظري، وأصبحت أمي المقدسة مجرد عاهرة مدفوعة الأخر، تفوح منها رائحة الشهوة؟ كيف يمكنني العثور على تبرير واحد مستساغ قابل للهضم؟ تبرير يقنعني بالبقاء لحظة واحدة في جو خبيث كهذا؟ هل بوسع البكاء وحده أن يخلصني من الورطة؟
تبدو لي جدتي هي المخلص الوحيد الممكن.. لكن حتى لو كان مزاجها كالعادة يدفعها لتقديم المساعدة لكل المحتاجين، فإني لن أستطيع إبلاغها بالحقيقة كاملة.. لم يبق لي سوى جمال أو إلياس.. في الأخير استقر اختياري على زيارة جمال، لأنه أول من حذرني ولفت انتباهي للصدمة قبل أن أجد نفسي غارقة في حبالها العفنة.. أما إلياس فربما لن يتقبل مني اتهام والده وإقحامه في حدث غريب كهذا..
أسرعت لحاسوبي أفتحه لأبعث رسالة إلكترونية لإلياس.. شعرت بحاجة ملحة لفلسفته وتحليلاته علها تنقدني من الحيرة وكثرة السؤال.. فتحت البريد وكتبت:
عزيزي إلياس، تحية طيبة وبعد
لا تدري كم أشتاق لرؤيتك من جديد.. أمر هذه الأيام من مأساة عائلية حطمتني.. كم يسعدني لو تجيبني على سؤال كبير يحيرني..
هل الكبار الذين نقتفي آثارهم، ونطبق أفكارهم وأوامرهم كلهم مجرد محتالين وممثلين، يفعلون ما لا يقولون؟
أغلقت الحاسوب ولجأت لفراشي ألتمس راحة النوم لو أستطيع إليه سبيلا.
تمنيت لو أني كنت ميتة قبل هذه المأساة..
في الصباح، بمجرد أن استيقظت، خرجت مباشرة متجهة نحو شقة جمال، ابن عمتي.. ليس من أجل أن اشتكي وإنما للهروب فقط من الحيرة والعذاب..
كانت هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها منذ أن غادر السجن.. حين فتح لي الباب بدا بشوشا وقد حلق لحيته وعاد يلبس )تي شورت( وسروال بذلته الرياضية من نوع )نايك ( سلم علي بسرعة وعاد نحو المطبخ.. كان المكان مكهربا ومضطربا.. لمحت ثلاث رجال بغرفة الجلوس منهمكين في إعادة ترتيب الديكور.. أما المطبخ فبدا أن كل شيء فيه قد تغير. حتى صباغة الجدران تبدلت.. كانت الشقة كلها عبارة عن ورش مفتوح، كما لو أن صاحبها يستعد للزواج.. تبعته فلما وصلنا لوسط المطبخ التفت نحوي:
= أحب أن اشكرك كثيرا.. اشعر نحوك بالخجل.. كم تاثرت بكل ما صدر منك من مساعدة أثناء اعتقالي، لا أدري كيف أرد لك الجميل.
= هذا واجب، أنت فرد من العائلة.. ثم لا تنس أني لم أفعل شيئا. عليك في الحقيقة أن تشكر التي ساعدتك بالملموس...
= تقصدين أمك بدون شك.. لقد شكرتها فعلا
= دعنا نبتعد عن هذا الضجيج.. أشعر بالاختناق، هيا بنا نتناول الفطور بالخارج لو سمحت
= كما تحبين.. فترة ثم أعود إليك
في طريقنا إلى المقهى، لاحظت أنه يطيل النظر إلي ويبتسم.. كان ممسكا بذراعي.. فجأة توقف عن السير ليباغتني بسؤال:
= أرى أنك لست على ما يرام.. يبدو أن شيئا ما يضايقك. هل هناك سوء تفاهم جديد مع أمك؟
فاجأني السؤال.. تملصت منه مخلصة ذراعي من كفه لمواصلة السير متجاهلة سؤاله المحرج.. لحق بي دون إلحا، بينما أتاح لي صمته فرصة للتفكير.. تساءلت بداخلي.. " ترى ما الذي جعله يربط قلقي وحيرتي مباشرة بتصرفات أمي؟" هل الأمر مجرد توارد خواطر أم أنه على معرفة ببعض ما يدور داخل أسرتنا؟ هل تكون له صلة بأمي؟ زادني الموقف حيرة واضطرابا.. شعرت بدقات قلبي ترتفع وأحسست برودة ثلجية تغمرني رغم حرارة الجو..
= لماذا تفسر حالتي دائما بتصرفات أمي؟ سألته
= لأني توقعت أن تكوني الشخص الوحيد الذي يزعجه التردد المستمر لحضرة المحامي على بيتكم
= من أخبرك أنه يتردد دائما على بيتنا؟
= هذه أشياء لا تخفى.. دعينا الآن نفطر بهدوء، وسأحكي لك عن بعض المستجدات التي للم تصلك بعد.
قلت في نفسي وأنا أتناول فطوري، لو كانت الفضيحة قد وصلت لجمال بهذه السرعة، فلن يمنعها أي شيء من الانتشار.. بعد قليل ستغدو مثل مأدبة يلتف حولها الجميع.. لحسن الحظ أن جمال شخص كتوم لا يحب النميمة. زيادة على أن علاقته بالأسرة علاقة مصالح، فهو أكبر مستفيد من جدي وجدتي وأمي.. لهذا لن يكون من صالحه أن يتحدث عنا بسوء. كان أول شيء ارتسم بذهني، أنه لا شك على صلة مستمرة بأمي، وأنها تلجأ إليه لأسباب لا أعلمها. كنت مستعجلة لسماع ما سيقوله جمال، مما جعلني أنهي فطوري بسرعة.. ثم نطق أخيرا فقال:
= قبل عدة أيام زارتني أمك. اعتقدت في البداية أنها تزورني لنفس الغرض القديم، لكنها فاجأتني بتقديم مشروع متكامل.. لكن قبل أن تعرفيه أود تنبيهك للطبيعة السرية للمشروع، فقد ترجتني أمك ألا أخبر أحدا عن وجوده حتى لا يعلم أبوك بأمره..
سكت قليلا لترتيب الأفكار في ذهنه، ثم واصل حديثه بتسلسل سريع كشلال منهمر:
= أظن أن أمك تبحث عن تكفير بعض أخطائها. هذا ما استنتجته على كل حال.. يرتكز المشروع على جانبين.. الأول عبارة عن مكتب للدراسات المعمارية، حيث كما تعلمين، تعتمد شركة الوالد عندما تتوصل بأي عرض جديد، على بعث ملفاتها لأحد مكاتب الدراسة بالرباط أو البيضاء، وهذا يكلف الشركة مبالغ هائلة كل مرة.. وقررت أمك تأسيس المكتب هنا بمراكش. أما عن المسؤولية فقد أصرت أن أتحملها أنا نظرا لثقتها في شخصي، وقد تعاقدت مع ثلاثة مهندسين وكاتبة محترمة وعبد ربه.. وسيتم تطويره بحسب ما نحصل عليه من ملفات العروض، سواء من شركة الوالد أو غيرها..
= لكنك لا تملك خبرة ودراستك لا علاقة لها بالمعمار أو البناء عموما. قلت له مقاطعة. فرد علي بسرعة:
= لا تقاطعيني أرجوك، سوف أبذل المستحيل لأوضح لك الأمور بتفصيل.. المهم، لقد أبديت لأمك نفس الملاحظة، لكنها طمأنتني قائلة، أن معرفتي ومستواي العلمي خاصة بالرياضيات والفيزياء سوف يساعدني على الإحاطة بكل الصعوبات والخاصيات، ثم إني لن أتحمل أي مسؤولية تتعلق بالأمور التقنية، حيث أن هذا الجانب سيتكلف به المهندسون.. المهم، أقنعتني فقبلت تحمل المسؤولية خاصة أنها وعدتني أن تقوم بزيارات أسبوعية للمكتب لمتابعة الإنجاز ريثما أهضم وأتبحر في المجال.. وقد خصصت لي بالمقابل أجرا ثابتا إضافة لنسبة من الأرباح..
أما الجانب الثاني للمشروع، فهو أنها حرصت على تخصيص نسبة مهمة من الأرباح للأعمال الخيرية والإنسانية، وقد كان هذا الجانب هو ما جعلها تلجأ لي، كما أنه ساهم في اقتناعي كذلك.. لكن.. ثم صمت عن مواصلة الكلام، وعاد يركز نظره بطريقة غريبة على وجهي. مرت لحظة وهو مثبت نظراته في عيني قبل أن يقول:
= لا أدري كيف أحكي لك البقية، فقد كان لأمك وجهة نظر أخرى مرتبطة بالمشروع.. سأعترف لك بها بعد أن أحكي لك ما دار بيننا من كلام كثير.. فقد فاجأتني بعد الانتهاء من تفاصيل المشروع، بأنها انخرطت في البكاء.. لم يكن هناك من داع لكي تجهش بهذا الشكل.. أصابتني المفاجأة باضطراب وحيرة، سألتها عن السبب. لكنها كانت تمسح دموعها وتشير لي بكفها كي أصمت وأكف عن السؤال.. بعد قليل بدأت تتحدث والتمست مني أن أستمع لحديثها صامتا بدون تدخل..
كفت عن البكاء، ونظرت إلي نظرة غريبة تمزج بين الحب والندم والاضطراب.. كانت الدموع تنحدر من عينيها بصمت.. حين تشجعت واصلت حديثها.
= إسمعني جيدا يا جمال.. أرجو أن تفهمني. أنت تعرف أني خسرت الحب بسبب إخلاصي وسذاجتي. لهذا باختصار، يجب أن أنجح بكل الطرق لربح جسدي.. تعلم أني عانيت جراء الغدر واستسلمت للبكاء مطيعة راضية بحظي المتعثر.. تزوجت بدون حب.. قدمت كل التضحيات المادية والمعنوية لزوجي وحياتي.. لكن نتيجة الصبر والمعاناة أشعلت نيران الجسد وأغرقتني في حب الحياة بشهية نادرة.. لم أعد قادرة على كبت رغباتي أو الحيلولة دون تنفيذها.. لم يعد عمري كافيا لمزيد من الصبر وتحمل أخطاء لم أرتكبها.. الجميع يعلم تفاصيل قصتي مع المحامي.. هذا الذي عشقته في فترة صعبة من حياتي.. لقد كنا حبيبين عاشقين بمباركة العائلتين.. بحيث تربى صغيرا معنا في بيت والدي.. كان غاية في اللطف والاحترام والحشمة والوقار.. مثل أي ولد من أبناء الأسرة.. الجميع علم بقصة حبنا، وإلى حدود أيام قليلة قبل تخرجه من كلية الحقوق والقانون، كانت إجراءات زواجنا تتم على قدم وساق.. كل المدينة والأعيان، وكثير من أصدقائنا هنا وهناك كانوا يستعدون لحضور زفاف لم تعرف الجهة مثله من قبل.. لكن القدر كان يحضر لي مفاجأة لم تكن في الحسبان..
فقد اختفى العريس بغتة عن الأنظار، وانقطعت عنا أخباره.. كنا نعرف أنه أنهى الدراسة ولجأ لمكتب أحد المحامين المشهورين بالرباط ليمارس تدريبات المهنة.. لكن لا شيء أكثر من هذا.. لم يكلف نفسه حتى أن يخبرنا عن أسباب اختفائه أو تراجعه.. اضطر والدي للسفر بنفسه للرباط ليعلم حقيقة الخبر.. طلب رؤيته في مكتب المحامي فتهرب بكل الطرق من لقاء أبي.. وبعد إلحاح شديد، بعث له رسالة مع كاتبة المكتب. يعتذر فيها عما حصل ويتمنى لي ولأسرتي كامل التوفيق في الحياة.. كانت الصدمة قوية كاد والدي على إثرها يفقد صحته وصوابه.. عاد خائبا من سفره وكتم عنا الخبر حتى فهمنا بالفطرة حقيقة الأمر..
أما الحقيقة، فهي أن الأستاذ صاحب المكتب، تم تعيينه ليشغل منصبا ممتازا داخل القصر لدى أكبر سلطة بالبلاد.. فكان أن انتبه حضرة المحامي المبتدئ للفرصة كي يتقرب أكثر من أستاذه.. انفتحت له دون توقع مسبق، أبواب الشهرة والنجاح فأمسك بها دون تردد.. وكانت الضحية هي أنا وعائلتي وسمعة والدي وصحته..
دفعتني الصدمة للهروب من الحياة والناس.. أوقفت دراستي دون الحصول على شهادة الثانوية العامة.. عبثا حاول الجميع إقناعي بشتى الطرق أن أتحمل الصدمة وأقبل المصير العاثر.. لكن المأساة كانت أكبر وأقوى.. عزلت نفسي في غرفة ضيقة لا أغادرها لفترة طويلة.. تم عرضي على طبيب نفسي ليساعدني على تخطي الأزمة والخروج من الصدمة. كان يدفعني لاسترجاع الثقة في نفسي وجمالي وفي مكانتي الاجتماعية.. مع المدة بدأت أشفى وأنسى لكن نار الحب تخمد تحت الرماد ولا تموت أبدا..
سكتت قليلا لتسترجع أنفاسها وترتب ما تبقى لديها من الأفكار.. بدا أن ركام الذكريات الأليمة يدفعها للبكاء. ثم واصلت حديثها:
= هنا ظهر زوجي. كان شخصا مثابرا ونشيطا من أسرة غير معروفة قادما من جنوب البلاد.. كنا نراه باستمرار ولا نكاد ننتبه لوجوده.. إلا أن ذكاءه الفطري وقوته الجسدية قربته من صداقة أخي كمساعد موثوق وصادق.. وبسبب عمله وإخلاصه كسب ثقة أمي وأبي.. وحدث ذات مساء أن استعمل أخي كوسيط ليتقدم لخطبتي.. كنت صغيرة لا علاقة لي بالحياة. رأيت في المناسبة فرصة تغيثني وتعيد لي ثقتي بنفسي وكرامتي كفتاة ذات حظ من الجمال، لكنها بلا أدنى حظ من الحياة العملية.. كنت بالكاد أغادر مراهقتي، لم أبلغ الثمانية عشر من العمر بعد، فقبلت طلبه بلا تردد أو تفكير..
هنا أعترف بأن زوجي رجل حقيقي، ذو همة وطموح. لم أر منه غير اللطف والتفهم والحب الصادق. كل تصرفاتي المطعون فيها لا دخل له فيها ولا تأثير.. بل بالعكس، كان رجلا متفتحا لا مثيل له في كل الرجال الذين أعرفهم.. حرص من أول سفر لنا قمنا به لشمال البلاد، أن يعرفني على أماكن وفنادق لم أسمع بها.. أدخلني بسرعة للحياة بأوسع المعاني.. لم يكن غيورا ولا كثير الشك.. كنا نجالس رجالا لا نعرفهم ويدفعني للتدخل والمشاركة في الحوارات مهما كان الموضوع.. علمني كيف أضحك وأجمع النكت والمستملحات.. وعلمني أن أرقص وأستمتع بجمالي في كل السهرات والأسفار، وكيف أكون أنثى بلا خجل من نفسي، ومما تلقيته من تربية طيلة عمري.. علمني أن ألبس بشكل مغاير لما هو سائد من حولي، حتى أن أبي استغرب لتحولي ودفعني دفعا لمغادرة بيته إن لم أتراجع عن نوعية ما ألبسه، وعن الإكثار من السهر هنا وهناك، في مدينة صغيرة يعرفنا الناس فيها أكثر من معرفتنا بأنفسنا.. كان وما يزال من واجبي أن اشكره لأنه أنقدني من الضياع.. ويكفي أنه إلى اليوم يسهر علي وعلي ابنه وابنته بكل ما يلزم مما نحتاجه وما لا نحتاجه أيضا.. وفر لنا كل ما يشتاق له الناس في زمن الاستهلاك..
كان الفضل الوحيد لي عليه، أني حمسته وشجعته منذ البداية ليجتهد ويحسن حالتنا جميعا حتى لا نبقى عالة على أبي وأمي وخالي.. حاولت إقناع أمي التي لم أجد معها أي صعوبة كي تتوسط لنا عند أبي.. جمعنا أموالا كافية لإنشاء وكالة صغيرة مختصة في بناء البيوت.. بعدها استعملنا كافة الإغراءات، سياسية وتجارية وحفلات وإكراميات كي نحصل على نصيبنا من كعكة الإدارات ومشاريعها الكبرى.. ثم التحق بنا المحامي بدوره عندما ظهرت له أرباح الوكالة.. أصبحنا شركة ذات أبعاد وطنية ودولية، بفضل حماس زوجي واجتهاده وعلاقاته الجديدة..
عندما بلغت الأخبار للمحامي، عرض علينا بواسطة اتصال مباغت غير منتظر، خدمات لفائدة الوكالة.. انتقل زوجي للرباط لدراسة اقتراحات وعروض المحامي.. كان يعرف من قبل قصتي مع الرجل لكنه لم يعر الموضوع أهمية.. كان هدفه الوحيد هو مدى الاستفادة المرجوة من العلاقة، واختبار مصداقية المحامي وشروط التحاقه كشريك بنسبة مهمة في أرباح الشركة.. والحق يقال، ما لبثنا أن تأكدنا من صدقه بعد تهاطل العروض من خارج الوطن على الشركة. ولما كان النجاح والمال طعما لا يقاوم، فقد كان من السهل معانقة اليد الممدودة بغض النظر عما حصل في التاريخ.. أصبح ظهور المحامي كالريح العاصفة التي نفخت من جديد في رماد الحب، حتى أعادت للجمر حرارته ولهيبه القديم، وخلخلت أعماق الجثة الميتة في نفسي..
أصبحت من أول وأكثر المدافعين عن ربط المحامي بالشركة، لا كمحام فقط وإنما بموجب عقود أيضا. صارت الشركة تتوفر على أزيد من عشرين مهندسا متخصصا. بعضهم في الطرق، وبعضهم في بناء السدود، وأخرون في القناطر والأنفاق.. تضاعف رأسمالها أضعافا مضاعفة بفضل التحاق المحامي بها.. هكذا كسب عطف الجميع وحبهم حتى نسي الكل قصته القديمة، واعتبروها سقطة عادية لم يكن بوسعه تفاديها.. كنت أنا الوحيدة التي تحس بكرامتها الجريحة تتلوى وتتقلب وتعاني، وتحاول في كل الزوايا أن تنتقم. لم أكن أعرف بالضبط كيف أنتقم لكني حملت الضغينة في قلبي وانتظرت الفرصة تلو الفرصة. ثم سرعان ما اكتشفت أن الربح والعمل لهما جاذبية أقوى من الكرامة فبدأت أستسلم.
فجأة دخل الحزب للحكومة.. ودخل زوجي والمحامي للمكتب التنفيذي للحزب، كما أصبح له أغلبية نسبية داخل البرلمان. وظهرت دائما إشاعات تلحق المحامي بمنصب وزاري، أو هكذا كنا ننتظر ونتصور أنا وزوجي ومعنا الشركة..
ظل سيادة المحامي هادئا لا يبالي.. يتصرف بنفس الطريقة القديمة.. يكبر في نظر الناس ويصغر في نظري وحدي. كان متأكدا أن الوردة التي تتهادى أمام عينيه لا بد قريبا أن ينتهي بها الزهو إلى أصيص فوق مائدته. هكذا تعلم من الحياة أن الصبر يصب دائما كل الخيرات في مصلحته. بينما كنت أنا موزعة بين جمرتين، الحب والرغبة من جهة، والكره والانتقام من ناحية أخرى. هو وضع أحسد عليه طبعا، لكني لا أخفي أنه وضع أشعلني وأحياني. أصبحت حتى خلال معاشرة زوجي في الفراش أتخيل أن سعادته تحتي، تمكنت منه وسيطرت عليه وجعلته يندم على ما مضى، وبمجرد إفراغ شهوتي وإنهاء الممارسة أحس بالندم وأغتسل فورا كأني أتخلص من رائحته التي أحملها في خيالي..
من ناحيته، كان يتحرش بي في صمت.. كنت أحس به يتلوى ويعاني، خصوصا عندما نسكر معا وأغادر لغرفتي.. كان يشتهيني كعاشقة محرمة.. ذلك الإحساس الغريب الذي يرفع من شهوة الرجال حين يتعلق الأمر بالظفر بزوجة رجل آخر.. بدوري، كنت أستغل نفس الصورة لأزيد شهوته وأعري نواياه.. أحس بأنه سوف ينفجر، لكن هدوءه وصبره يتغلبان على حماسي..
لكن تجري الرياح دائما بما لا تشتهي السفن. فقد ظهر عامل جديد، كان بمثابة عامل جديد سيحطم ويخلخل كل الأوراق.
تعرض زوجي لحادث سير بسيارته في إحدى الليالي.. كان عائدا من الرباط وشرب مع العشاء بعض الكؤوس.. انتهت الحادثة برضوض وكسر في أضلعه ورضوض في مقدمة ومؤخرة الرأس، وكسور في ركبته اليمنى.. لم نصدق أنه سينجو.. تحمل عبء عدة عمليات جراحية في الصدر والركبة والرأس.. لم يخرج منها ناجيا إلى اليوم.. بالرغم من كونه استرجع صحة الصدر والركبة، لكن إصابة الرأس كانت لها آثار قوية لم يشف منها إلى اليوم.. بحيث أصيبت خلايا وأعصاب وشعيرات دموية في الحوض، كان من عواقبها انعدام القدرة على الانتصاب، وحتى على الإنجاب..
كان من عواقب الحادث أن الشركة تأثرت قليلا بفعل غياب صاحبها.. لكني عالجت الموقف بأن دخلت بنفسي الميدان. كانت عودتي بالطبع مصحوبة بمساندة حتمية من المحامي بحكم شراكته، وبطلب من زوجي كذلك.. ومعنى هذا، أني صرت مضطرة للسفر صحبة معاليه سواء داخل أو خارج الوطن. اشتريت شقة بمدينة الرباط أستريح فيها وأبتعد عن الأقوال والإشاعات، بدلا من الإقامة بالفنادق. حرماني من الجنس مع زوجي، جعلني أتشهى وأفقد تدريجيا سيطرتي على نفسي. كل العوامل صارت تعمل لصالح الرجل، وتضعفني كل يوم أمام سلطته..
هنا، نظرت إلي وابتسمت. لتقول بأنها فكرت في تلك الفترة أن تهرب إلي عسى أن تجد عندي الخلاص من الورطة. ارتفع معدل شهوتي إلى شبق عارم.. فكرت مرارا في اللجوء إليك بالذات، تقول لي مباشرة هذا، كنت أحتج بالتدليك وأتحرش بك، لكنك رفضت.
ساءت أحوالي وزادت معاناتي. وأمام رفض حضرة سي جمال، أصبح خلاصي في الكأس والشراب حتى ساءت حالتي الصحية، بدأت أعجز عن مواصلة تماريني الرياضية. تحول هدوئي إلى عنف حتى مع العاملين في الشركة، وأولهم المحامي نفسه.. بدأ حضرته يحس أني بغضبي ونرفزتي أقترب منه كل يوم أكثر فأكثر. بينما أنا أندفع تدريجيا نحوه أحس مسبقا بالندم وأهرب للبكاء والخمر كل مساء.. ساءت أحوالي مع زوجي بالذات.. خاصة أنه بدأ بدوره يدفعني في اتجاه الاستسلام للمحامي.. موقف زوجي زاد من غضبي وردودي العنيفة، كان زوجي في نظري هو الحاجز المنيع الذي يجعلني كل مرة أرفض تحرشات سيادته. فإذا بموقفه الجديد يعريني ويدفعني بسرعة خارقة لأحضان سعادته.. كم لعنتك يا جمال لأني تخيلت أنك منقدي وخلاصي من نفسي وشهوتي..
ساءت المعاملات بيني وبين زوجي إلى حد لا يوصف.. بدأنا نخاف انعكاس سوء التفاهم على مصير الشركة.. بدا أن المستفيد الأكبر سيكون هو المحامي في كل الأحوال..
لم يقبل زوجي أن نفترق بإحسان، لأن الشركة ستضعف بالتفريق وتهدد الأسرة بالتشتيت..
اضطررت عندما بلغت الأمور هذا القدر من الضعف، أن أعترف له بأني سألح على جمال كي يعاشرني، وهكذا تبقى أسرار العائلة مستورة، لأن من مصلحة جمال أن يقبل. هذا حل يساعدنا على الصبر بعيدا عن سلطة المحامي، في انتظار ما وعدنا الأطباء به حين قالوا بأن عودة الانتصاب مسألة وقت، لأن لا أحد بوسعه أن يتنبأ بما يحدث في خلايا الرأس والأعصاب، وانعكاسها على وظيفة الجهاز التناسلي للرجل.. لكن زوجي رفض هذا الاقتراح للأسف، وعوضه بتصريح فاضح. بدأ يدافع عن المحامي. زاعما أنه بدوره شريك ومعرفة وعاشق قديم وجديد.. وعالم بأسرار العائلة، وهو محل ثقة إذ ليس في صالحه أن يتكلم بالسوء عنا.. أما سفره ومصاحبته الدائمة لي فهي ليست محط شك من أحد بما أن الجميع يعرف أنه شريك ومحامي الشركة الأول. ومن حقه حضور لقاءات وتوقيعات العروض ومتابعة الأنشطة والمحاسبة المالية والأرباح وغير ذلك من التفاصيل.
استجبت لرأيه مرات عديدة دون اقتناع كبير.. كنت بعد كل لقاء وكل ممارسة أحتقر نفسي، إلى درجة أني قلما أحسست معه بالشبع وبتفريغ مشاعري.. أحرص على الدوام ألا أعاشره إلا بعد السكر، أستسلم بين يديه شبه نائمة أو ميتة بلا إحساس.. سعدت لأني لم أتزوجه.. كما يقال " رب ضارة نافعة" لأني اكتشفت أنه مجرد فقاقيع.. كان زوجي أكثر فحولة منه بألف درجة لولا الحادثة.. كنت معه أصعد كل مساء لأجرام السماء أتجول فيها وأعود مسحوبة بريش الجنة إلى الراحة والهدوء.. والويل لجمال الذي عافني وجعلني أسقط برفضه..
ومما يزيدني كراهية لنفسي اليوم، أن الوضع أصبح رسميا، إذ أن زوجي بارك زواجي العرفي من المحامي إبان رحلتنا الأخيرة بالباخرة، في الفترة التي اعتقل فيها جمال.. كانت الرحلة بمثابة عرس واحتفال وتصالح مع الذات.. نسيت تدريجيا كراهيتي وكرامتي.. وانتهى الوضع اليوم إلى إقامة زوجي الجديد معنا في مراكش، في كل مرة نختلق أسبابا لحضوره ومكوثه.. بل صار زوجي المريض يصر على البقاء بجانبنا حتى عندما نمارس.. حتى أني بدوري تعودت على الوضع فصرت أستحثه للقيام بأدوار تسهم في شفائه المرتقب. تارة أجعله يستمني ونحن نضحك.. وتارة أسمح له أن يقبلني أو يتلاعب بصدري كسابق عهده.. وتارة يكتفي بالفرجة وحساب عدد الرعشات التي يتفضل بها علي حضرة الزوج الجديد.. لست أدري هل أسعد وأفرح بوضعيتي الفريدة أم أحزن، فقد صرت زوجة لرجلين حتى لو كان أحدهما لا يستطيع الانتصاب..
بدأت أحتقر نفسي من جديد بعد أن تجاوزت مرحلة الاحتياج.. إنه لأمر مقرف حقا أن أمنح نفسي للمحامي مع أني لم أعد أميل لمعاشرته.. من جديد صرت أتخيل نفسي بين أحضانك يا جمال.. سواء رفضت هذا أم قبلته فإني أمتلكك وأنكحك كلما حشرني الرجلان بينهما أو تفرج أحدهما على الثاني وهو يفترشني ويرفع نصفي الأسفل إلى السقف كي يبلغ بداخلي أبعد نقطة.. أحس أني عاهرة بلا كرامة.. بحجة المرض يدفعني زوجي لحضن رجل يضمن له الربح واستمرار صعود الشركة إلى قمة القمم. صرت مجرد عملة غارقة في أبشع صورة للفساد.. أمثل خيانة بالموافقة والتراضي.. أحس أن كل النساء من حولي يفعلن مثلي. بعضهن برغبتها والبعض الآخر طلبا للفائدة.. هكذا قبيلة قوم يعبدون المال ويذبحون ما ورثوه من تقاليد وقيم وأخلاق وأعراف.. يرضون بالمصير الأسود ولا يبيعون أنفسهم للحفاظ على وجود لا معنى للكرامة فيه.. قوم نراهم محصنين وأصحاب منزلة عالية بينما الدود في الأرض أشرف منهم. والمصيبة أنهم لا يهتمون بما يجري لهم لأن همهم الأكبر هو السياسة والتجارة وما يفضي بهم للربح المضمون، تماما كزوجي..
كل هذا وأنت متمسك بالرفض، كأن خالك وزوجته وعائلته الصغيرة والكبيرة لا تعنيك.. لهذا، جئتك بهذا المشروع.. سيضمن لك مدخولا تنال به الرضى من السماء، ويمتعك بحياة تليق بشاب جميل ذي طموح وأنفة مثلك.. أفضل أن تتزوجني أنت في السر على أن ألعب دور العملة في بيت خالك.. أنت الوحيد الذي يستطيع تفريغ شحنة توتري وغضبي.. أريدك وحدك، ستقبلني كما أنا.. أقولها لك بكل صراحة، لست أريدك للحب لأنه لا وجود له في الواقع.. أريدك لشبقي وشهوتي وجسدي فقط.. والآن فكر في المشروع جيدا، لأنك إن رفضت سوف أنتحر أو أغادر الوطن بلا رجوع..
الجزء رقم 9
عندما انتهى جمال من حكايته الطويلة، أمسكت كفاه بحافتي الطاولة المربعة الشكل.. ثم عاد بظهره للوراء، مما جعل ذراعيه وكتفيه تبرزان، وبدا صدره الرياضي يتحدى كل العراقيل والأقدار.. من حق أمي أن تفكر في خلع أبي والاستغناء عن محاميه في سبيل الحصول على هذا الصدر.. فكرت في الأخبار الجديدة.. من حيث المسؤولية عما وقع، طفت كفة أبي وانخفضت كفة أمي.. لم أسمح لنفسي بالعودة لسكة التساؤلات. انتبهت لجمال الذي كان ما زال مركزا نظره في وجهي، كأنه يعرف أني لا بد أن أناقش ما سمعت قبل أن أسلم وأقتنع.. لاحظ سكوتي فقال:
= هيا بنا نعود إلى البيت الآن.
= متى أصبحت أنانيا يا جمال؟ قلت له، أنهيت كلامك لكنك لم تسمع بعد رأيي في موضوع مشروعك مع أمي..
= إن كان لديك رأي أو تساؤل في الموضوع، تفضلي
= نعم، لدي أسئلة عديدة.. أرجو أن تتقبلها بدون توتر
= اعتقدت أنك متضايقة من كثرة الجلوس بدون حركة... هيا تفضلي
= هناك في حديثك أمور كثيرة تستدعي التوضيح، سأبدأ من المشروع. أسعدني أن أمي وضعت ثقتها فيك، لأنها لن تجد أفضل منك، خاصة إذا كانت تحرص على إبقاء نشاط المكتب في السر.. كما أن فكرة تخصيص قسم من مداخيله للعمل الخيري يستحق التنويه.. لكن للأسف، يبدو أن أمي تضع شرطا شخصيا في غاية الحساسية، حين ربطت تحقيق المشروع بقبولك لرغبتها في ارتباط غرامي معك.. هو ارتباط جنسي أساسا بدون عواطف حقيقية.. وحسب معرفتي الدقيقة بك، فقد كنت دائما ترفض تلبية شهوتها. لست أدري بالضبط موقفك من هذا الشرط، هل ستقبله أم ترفضه كعادتك؟
حين تجيبني سوف أنتقل لجوانب أخرى في حديثك..
= صحيح.. أنت على حق. فقد سبب لي هذا الشرط حرجا كبيرا.. وبكل صراحة، فأنا لم أحدد إلى الآن أي موقف.. أفكر جيدا في المشروع بشكل محايد.. ثمة ظروف وضغوط تحتاج مني للتركيز كي أفكر بشكل شامل. ماذا سأربح، وماذا سأخسر؟ كيف سأنظر لنفسي في حالة قبولي لهذا الشرط؟ هل يمكنني إيجاد تبريرات ملموسة تبيح لي أن أنخرط في القبول؟ هناك إكراهات تحاصرني.. فأنا أشك، في ظل ظروفي المادية، هل سأتمكن من إكمال دراستي في المجال الطبي؟ كما أني مدين لجدك وجدتك ووالدتك كثيرا فيما وصلت لتحقيقه إلى الآن.. وأستحضر هنا، ما أحسست به من تأثر لما رايتها تبكي وتجهش وتنتحب.. وحين هددت بعصبية مفاجئة بأنها سوف تنتحر أو تغترب.. هذا المنظر يعكس مدى ما بلغته من اكتئاب وتوتر.. حالة نفسية مضطربة في أخطر المراحل.. وتساءلت مرارا كيف سيكون موقفي وإحساسي ونظرتي لنفسي لو نفذت تهديدها؟
أخيرا، لا تنسي أن المشروع قد انطلق تنفيذه فعلا.. المقر موجود، والموظفون أيضا، وتم اقتناء سيارتين رفيعتين، واحدة منهما مخصصة لي، بصفتي رئيسا للمكتب.. إضافة لإصلاح الشقة وتزويدها بكل الضروريات وتأثيث المطبخ وغرفة النوم والصالون، وتخصيص راتب سمين لي.. باختصار، أمك عملت على محاصرتي من كل الجهات، ولم يعد بيدي أي مبرر للرفض.
= يعني أنك تقبل أن تبيع نفسك في سوق الفساد بأرخص الأثمان؟ ما ذا تسمي سيدة متزوجة، تشتري لنفسها بالمال خدمات جنسية؟ أليس هذا أحد أشكال الدعارة؟
= اسمحي لي أن أنبهك أن ما ترينه أرخص الأثمان، هو بالنسبة لي فرصة للنجاح الدراسي، ولإنقاذ أمي وإخوتي من الفقر والضياع.. ألا يستحق مني هذا وحده أن أضحي بقبول الشرط الوحيد؟
= يمكنك أن تنجح بمواصلة الدراسة بنفس الشروط الحالية.. فأنت لا تدفع مقابلا ماديا للكلية، ولا للسكن.. وحتى للتنقل والأكل، أنت فقط طماع وتبحث عن تبريرات لتقبل.. أما أمك وإخوتك فيمكنهم انتظار تخرجك لتحسين أحوالهم..
= ولماذا لا أغتنم الفرصة اليوم؟ من يضمن لي أن المساعدات التي أتلقاها ستستمر؟ لا يغب عن تفكيرك أن أمك لو رفضت ستنتقم مني بقطع المساعدة.. ويبدو أيضا من العجيب أنك تتعمدين تجاهل الحالة العصبية السيئة التي تعاني منها أمك..
= أمي هي المسؤولة عن وضعيتها..
= هكذا يبدو لك، هل هي التي أوحت للمحامي حين كان طالبا أن يتزوج فتاة أخرى ويتركها وراءه مثل خروف أجرب؟ هل هي التي ارتمت في أحضانه حينما عاد؟ فكري بهدوء، ستجدين أن الحل المريح منعدم تماما.. ليس من حقي أن أتقاعس عن تقديم المساعدة المطلوبة.. صحيح أن ما عرض علي يغري، لكنك لا تعرفين كيف كانت حالتها، وهي تبكي وتنشج.. أول مرة أشاهدها عارية بلا كبرياء، انمحت صورة تلك السيدة المتعجرفة المتعالية دائما، وحلت مكانها صورة امرأة عادية تتسول الرحمة والعطف والحب المفقود من حياتها.. تصوري أنها لم تبلغ هذه الدرجة إلا بعد أن استنفدت كل الحلول الممكنة.. لقد حطمت وهددت وضربت رأسها بالجدار حتى غابت عن الوعي.. كانت تريد إلقاء نفسها من الشقة.. هددت بالقضاء على الشركة والأسرة بكاملها.. قالت إنها لن تسقط وحدها.. لا أخفي عنك أني شككت عندئذ في سلامة عقلها. كان واضحا أنها لا تكذب أو تمثل دورها بإتقان.. كان منظرها يوحي بأنها لا تشعر بخطورة ما تقول، كانت مستعدة بالفعل لأي مخاطرة.. حتى تعبيرها عن الحب كان غريبا.. قالت لي وهي تبكي بصوت مرتفع، إنها تخشى علي من القتل، وأنع إن لم يقتلني خالي فستفعل هي ذلك.. قالت إنها منذ صدمة الحب الأولى تعلمت ألا تتنازل وتسمح في أي شيء يميل قلبها إليه.. وأن تعلقها بي لا يختلف عن حرارة الصيف الخانقة.. مستعدة لإحراق الأخضر واليابس. حرارة هوجاء تفرض نفسها دون استشارة أحد، لا ترحم أحدا في طغيانها. لم تترك لي الاختيار إلا شكليا، فقد هددتني إن رفضت بالقتل أو بترحيلي من العائلة خارج الوطن، أو متابعتي قضائيا بحجج مزورة..
= لنفترض أن ما تقوله مقنع، كيف ستتم عملية الزواج هذه في الواقع؟
= قالت لي أنها تفضل بقاء الزواج في السر، لهذا فتحت ورش تحديث وتجميل الشقة. حتى المشروع تفضل إبقاءه طي الكتمان، مع تدبير الوقت ليناسب مواعيد التلاقي بيننا.. ومن المضحك حقا، أنها تفكر بعد تمرير عدد من القرارات وتنفيذ مخطط جهنمي في التخلص من المحامي وإرغام خالي على قبول هذا الزواج، خاصة إن خبت آماله وتعطل شفاؤه من مخلفات حادثة السير المعلومة.
= ألم تقل شيئا عن مخططها الجهنمي؟
= لا لم تقل، لكني حين تمعنت وفكرت جيدا في خليط ما سمعته منها، بدأت أستشف أمورا معينة، ربما تكون عازمة على تدبير صدمة للمحامي، ولوالدك أيضا.. لأنها بالتأكيد لن تقف عند مشروع مكتب الدراسات المعمارية.. اشارت بسرعة لعلاقات تحاول ربطها مع أساتذة ومهندسين في نفس التخصص، ولعلها تنوي تأسيس شركة أخرى..
= لا أظن أنها يمكن أن تفكر هكذا، لقد تعودت على الامتثال لكل ما يخطر ببال والدي، إنه مثل الخاتم في أصبعها فلماذا تستقل بشكرتها؟ أظن أنها في حالة البحث عن حيلة قوية لتبتعد عن ضغوط المحامي قبل أن تفاجئه بطرده من حياتها..
= ربما، لكنها أخبرتني أنها بدأت تربط الاتصالات مع قنوات مهمة تتحكم في دوائر القرار الاقتصادي والسياسي بالبلاد..
= ألم تذكر لك بعض الأسماء؟
= لا، لأن الكلام ورد في سياق غضبها وتعصبها، لم تكن الظروف مواتية لأسألها عن تفاصيل ما تفكر فيه.
= أعرف أمي جيدا، لن تبوح لأحد بما تسره في نفسها، فقدت الثقة فيمن حولها تماما.. لكن أظنها ستتغير وتعود لمزاجها السابق لو قبلت شرطها.. دعنا الآن منها، أريد أن أعود بك إلى قصة الحديث، كيف تصدق ما قالته لك عن أبي؟ ما هي حجتها على ما تقول؟ ألا يمكن الشك ولو بنسبة قليلة في كلامها؟ يمكن أن تكون كاذبة أو مزورة في حالة وجود وثائق، رغبتها يمكن أن تدفعها لكل الطرق التي توصلها إليك.. كيف يمرض والدي ويفقد رجولته ولا يبلغني أي خبر عنه؟ لعلها اخترعت حكاية غياب الانتصاب لتبرر بها خيانتها فقط.. هل نسيت، أنت نفسك إلى أي قدر بلغت شهوانيتها؟ ألم تكن شاهدا على تحرشاتها؟ كل ما في الأمر، أنها مصابة بمرض الهوس الجنسي، أو الهوس القهري لا غير، وهو ما يدفعها للهلوسات والادعاء والوعود والتهديدات، يجعلها مستعدة للكذب والتزوير لتحقيق رغباتها فقط.. كيف تصدق أنها ستتخلص حقيقة من عاشق مضمون، لا يهينها ولا يجعلها تتوسل أو تتسول منه لقاء لإطفاء نار الشهوة كما تفعل معك؟
= لم أكن قادرا على طرح أسئلة عميقة مثلك، غلفت الغشاوة بصري، لقد فوجئت بمنظرها البئيس غير المعهود.. كما لا أخفي أن المشروع احتكر طاقتي وتفكيري..
بقلم
(Round trip to org)
انطلق بنا مركب الصيد الكبير في جولة ليلية. كنا وحدنا. "أسماء" ابنة خالي وصديقها "علال" ابن صاحب المركب وأنا...
غابت الشمس مخلفة وراءها في الأفق الغربي سماء مشتعلة حمراء، تتحول كلما ارتفع البصر إلى ظلام بنفسجي داكن. يترنح بنا المركب مبتعدا عن الشاطئ، يخترق العتمة. يرتفع عاليا كلما عانق موجة فإذا مرت انخفض بسرعة خارقة محدثا صوتا شبيها بصوت ارتطام الموج بصخور الشاطئ الهارب خلفنا. تغوص المقدمة تحت الماء لحظة ثم تطفو من جديد فوق الماء.
أتمايل مذعورة فتهمس أسماء في أذني مهدئة من روعي، بعد أن رأت علي علامات الخوف والارتباك:
= لا تخافي، بعد قليل نبتعد عن منطقة الأمواج. سوف تملين عندئذ من الركود والهدوء القاتل"...تدريجيا بدأ المركب يهدأ سابحا في صمت ثقيل لولا هدير المحرك. أطل "علال" من قمرة القيادة مناديا "أسماء" لتلحق به. تركتني لحظة فاغتنمت الفرصة لأنعزل عند المقدمة بعيدا عن القمرة حتى لا أكدر خلوة العاشقين. كانت المدينة تبدو في الأفق البعيد وسط ضباب كثيف مزركش بنقط الإنارة كأنها سحب مرصعة بدرر لامعة. بعد قليل عادت أسماء تسحب خلفها "علال"، كان يحمل فوق كتفه صندوقا بلاستيكيا على شكل ثلاجة. عندما فتحه أطلت منه زجاجات البيرة غارقة تتزاحم بين قطع الثلج. اغلق الغطاء ثم جلس فوقه بعد أن سحب ثلاثة قنينات.
فتح الأولى ومدها لأسماء فتلقفتها مستعجلة. فتح الثانية وقدمها لي فاعتذرت له بلباقة وأدب. تدخلت أسماء ضاحكة تحاول إقناعي بكل الطرق لأقبل الهدية. قالت إنها لم تفهم مطلقا كيف يكون بيتنا دائما مملوءا بكل أنواع المشروبات الكحولية ومع هذا لا يغريني الوضع كي اسرق بعضها، خصوصا حين تسوء الأحوال ويضطرب المزاج وتختفي الرقابة.
تناولت القنينة لأضعها جانبا. تسلل "علال" عائدا للقمرة ليرجع منها محملا ببعض الطعام. وضعه فوق منديل أبيض مفروش على أرضية المركب. أنواع من السمك المقلي، زيتون وخس وطماطم وفلفل أحمر. في وقت وجيز تراكمت أمامنا قنينات فارغة، كان التنافس بين العاشقين مركزا حول الاستهلاك في انتظار اشتعال الحواس الخمس. رشفت من زجاجتي رشفة سريعة فلم تعجبني. وجدت طعمها مرا، غير أن إحساس اللسان ببرودة السائل ووخز الفقاعات تنفجر عند ملامسته، وانسيابها البارد نحو الحلق مخلفة بعض التنويم غطى على المرارة وأضفى على المشروب جاذبية ساحرة. جربت من جديد...مع الجرعة الخامسة وأنا مغمضة العينين صار الطعم عاديا ولذيذا. ابتلعت نصف الزجاجة للتجريب بين الرغبة والنفور. أتردد لحظة أفكر محاذرة مخافة أن يهاجمني التخدير، إلى أن كبرت الجرعة تدريجيا. أحسست بلذعة لذيذة متبوعة بخدر خفيف يداعب لساني وحلقي ولساني. بعد الابتلاع يفيض على حواف اللسان دبيب ممتع...انتبهت لأسماء وعلال فوجدتهما يضحكان وينظران إلي وهما متعانقان.
مدت لي أسماء زجاجة أخرى فتناولتها بلا تردد. كان علال يلبس سروالا قصيرا يصل إلى أعلى الركبتين. نزع قميصه فبدا صدره عاريا يغطيه شعر كثيف. بدأت أسماء تغمز بأناملها حلمتيه. تنهد الرجل مركزا بصره علي ثم هب واقفا. تمطط قليلا قبل أن يحيط بذراعيه أسماء ويحملها مثل عصفور. سار بها مسرعا نحو قمرة القيادة...تركاني وحيدة أمام الصندوق أتأمل السماء والنجوم وأبحث في الأفق عن شبح المدينة المتراقص خلف الضباب. رؤية الأشياء على بعد مترين تعذرت منذ فترة. تعجبت للوضوح الذي يجعل النجوم حاضرة في هذا الصمت السافر البارد، تلوح كأنها معلقة في صفحة خيمة هائلة. الخدر يزداد بينما أعصابي ترتخي وأحس لأول مرة أني كبرت وصرت قادرة على التحليق وركوب الأمواج العاتية.
فجأة تناهى إلى سمعي صرخة حادة كالرعد. شقت هدوء البحر والليل. خيل لي بعد التنصت أنها قادمة من القمرة. تكررت الصرخة متبوعة بما يشبه البكاء والأنين. كما لو أن أسماء تطلب النجدة. اقتربت من القمرة وأصخت السمع. تحولت كل حواسي إلى زعانف تلتقط أدنى هفيف أو حركة. دوت الصرخة ثانيا وثالثا ورابعا، تلتها سلسلة من التأوهات بددت تخيلي وقلقي...تجرأت ورفعت راسي أطل من نافذة جانبية لأرى ما يحدث. كانا عاريين تماما في الداخل وهي تدير ظهرها إليه. يداه تحيطان تارة بخصرها وتارة تنغمس الأصابع بين خصلات شعرها لتجذبها بعنق نحو صدره، وتارة أخرى تحيط نهدها لتدعكه بقوة تزيد من صراخ أسماء. يلتصقان ثم يتسع الفضاء ما بينهما قبل أن يجرها بعنف ثانية حتى يتحد ظهرها بصدره. مع كل انجذاب واندفاع تصرخ أسماء بشبق وانفعال ملتاعة كأنها تتلقى طعنة سيف تبدد صمت الظلام. كان أير علال يظهر ويختفي بين الردفين المكتنزتين. تحول الصراخ إلى توسلات متسارعة متواصلة وأنين. كان علال يلهث فاغرا فاه ويداه تلفان خصلات شعرها وتجدبه بقوة. تدفع نهديها أماما نحو المجهول بينما رأسها وعجيزتها عائدان إليه مشدودان بسحره. صدرها مقوس نافر يتأرجح نهداه وعيناها جاحظتان معلقتان بنقطة لا ترى في الفراغ والظلام. لم أفكر أبدا أن للغرام رقصات عنيفة كهذه. كانت أطرافها كلها ترتعش كأنها مفصولة عن الجسد، تكاد ركبتاها تخونها لتسقط لولا خبرة علال الذي يمد ذراعه اليمين محيطا صرتها من الأمام ليرفعها نحو وسطه. كان ما يزال في حاجة إليها لأن حركته المتوازنة لم تتوقف. تحاول أن تنفر منه قليلا لكنه يجرها بعنف.
تقابلت نظراتنا فأحسست بالعرق يتصبب من جسمي وبخجل مباغت كاد يخنقني. خفت أن يتهماني بالتجسس فعدت مسرعة مستغربة ما رأيت نحو الصندوق. فتحته وتناولت جعة ثالثة تجرعتها بسرعة لعل برودتها تطفئ نار الغيرة والمباغتة والخوف. راودتني مشاعر غريبة شعرت بها لأول مرة في حياتي. هل تكون هذه هي الشهوة التي يحذرونني منها؟ هل من الضروري أن نصرخ ونبكي لنحس ونشبع ونهيم؟
أطلت أسماء قادمة نحوي تتهادى ضاحكة المحيا. شعرها مشتت وعيناها ناعستان. تمددت على أرضية المركب عارية ومتعبة. تعلقت عيناي بحركة نهديها المستديرين النافرين. زاد جمالهما عندما استدارت بجذعها صوبي. وقفت من جديد لتفتح الصندوق. تناولت منه جعتين وعادت مسرعة إلى القمرة. ظلت عيناي مشدوهتين معلقتين بعجيزتها وهي تنسحب متهادية كأنها ترقص مدفوعة بموسيقى نابعة من داخلها. قبل أن تلج القمرة نظرت إلي مرفوعة وهي تبتسم كأنها تعتذر عن عريها. جسد أسماء فتنة تتجسد في حركاتها ونظراتها الجريئة الجذابة والسخية.
تكرر المشهد ذاته بتفاصيله بعد لحظات. فهمت ساعتها لماذا يهربان إلى صمت الأعماق الهادئة. هنا يمكن لمجانين الحب والجنس أن يتحولوا لوحوش بحرية تطرد ما تحمله صارخة كالذئاب دون أن يحتج عليها حراس الفضيلة أو الحساد والغيورين.
عدنا إلى الشط بعد منتصف الليل. انزويت أنا في ركن قصي بينما ظل العاشقان متعانقين في القمرة. في السيارة تغلب الصمت والتعب على الكلام المتقطع. باستثناء بعض التعليقات الساخرة حول إقبالي غير المتوقع على البيرة. قصدت غرفتي مباشرة وقد اختلطت أفكاري بين التعجب والدهشة والتساؤل عن طبيعة الشهوة. ترتفع نبضات قلبي وحرارة جسدي، وينتابني دبيب مكهرب مثل موجات كهربائية تتنقل في دمي كلما تذكرت مشاهد القمرة إلى أن غلبني النوم.
في الصباح هاتفتني أسماء لتسأل عن أحوالي. كيف نمت وماذا رأيت في أحلامي. أجبتها ببرودة غير عادية فقطعت الخط. التقينا بعد ذلك في مساء اليوم الموالي عند خروجنا من الدراسة. تمشينا قليلا نحو بيت خالي. كانت تتحدث وحدها، فجأة توقفت عن السير لأودعها لكنها تمسكت بذراعي وترجتني أن أرافقها...طردت ترددي وسألتها معاتبة:
= لماذا كل تلك الخلاعة والصراخ يا أسماء؟ فردت علي مبتسمة:
= آآآه، فهمت الآن سبب سخطك. اعتقدت أن البيرة هي السبب.
عادت لي مشاهد تلك الليلة. تذكرت خاصة منظر علال وهو يلوي شعر رأسها حول كفه وذراعه ليتحكم فيها ويجرها نحو وسطه بعنف. خفضت بصري وسألتها:
لماذا تعذبين نفسك بهذا الشكل. لقد جعلت علال يركبك ويعاملك كفرسة جامحة.
= ها قد بدأت تفهمين. هنا بالضبط يكمن سر المتعة وسحرها...وعلى عكس ما تتصورين، فليس علال هو المتحكم بل أنا. ففي تلك اللحظة يمكنني أن أفعل به ما شئت ولن يرفض لي أي طلب.
= ولم تصرخين كالذئاب؟
= الصراخ يا عبيطة مسألة ثانية. الصراخ أمر خارج عن الإرادة. به نؤكد المتعة. هو مكنسة نشطب بواسطتها كل همومنا وأحلامنا المدفونة في أعماقنا. الكهرباء التي يجمعها توتر الأيام ومشاكلها تجد الفرصة سانحة لتغني وتسبح وتطير في فراغ البحر باحثة عن سماء لا يبلغها إلا ذوو الطموح والأحلام الشبقة. كلما تعدد الصراخ وارتفع نلت المنى، وتخلص جسمك من الأدران والمتاعب المتراكمة فيه. تصبحين حرة خفيفة هادئة. لولا الصراخ بكل حرية ما كنت أغامر ليلا بركوب ظلمات البحر الحالكة. ولولاه ما كنت لا أنا ولا أنت موجودتين في هذا العالم.
= إذا كان الأمر كما تدعين لماذا لا يصرخ علال؟
= أيتها الحمقاء، نحن جسدان مختلفان متكاملان. تحس الأنثى بما يجري في الداخل أما الرجل فيركز على الاختراق. صراخنا سبيله إليه، كأنه مجرور يسعى بكل جهوده أن يبلغ غايته الأخيرة التي تمكنه بدوره من الصراخ. حين يصلها يفقد السيطرة ويحس بأشياء داخلية تتسرب منه قبل نهاية العراك. من أجل تلك الأشياء تتهادى النساء وتتغنج وتصبر وتضحي وتغير وتموت.
= ولماذا لم أسمع صرخته إذن؟
= لأن صرختي كانت طاغية غطت عليه. بالمناسبة أخبرك بأنها آخر مرة اسمح لك فيها بمرافقتنا. فقد لاحظت أن علال يثني عليك كثيرا، وخاصة إليتيك في أوج انصهارنا. أخاف أن يطمع فيك لو تكررت الدعوة. أعرف غلمته جيدا، لن يتورع عن فعلها.
الجزء الثاني
لم أكتشف في تلك الجولة الليلية أعماق البحر فقط. في نفسي أيضا أبحرت. ظهرت أمامي حقائق كنت إلى حدود تلك الليلة أجهلها. صورة الرجل البالغ ليست دائما وقورة كما نتصوره. كل رجل يحمل ألف سر يفضي به إلى الضعف أو يرميه في متاهة الشهوات. لا تبقى هناك أيه علاقة بمظهر الناس مع حقيقتهم حين ينعزلون عنا. كل الناس يعيشون في حالة انفصام مستمر. وجه للناس ووجه لأنفسهم. لكل واحد أسراره العجيبة التي ترفع شأنه أو تخفضه. ضعفه وقوته لا يفصل بينهما إلا نظرة فاتنة حسناء تبحث في عينيه عن فحولة نادرة الوجود. اكتشفت أيضا سحر الأنثى الذي به تكون أو تنمحي تماما من الحياة الحقيقية. قوة ضعيفة كالقوارير تمسك بخناق وحش. تناقضات العالم الخفي التي تصنع الظاهر منا والخفي البئيس. بدأت المشاهد الغريبة تتحول في خيالي إلى محرك ودافع. أتساءل كل يوم هل سيكون علي بدوري أن أمر من هذه القناة لأصبح امرأة محسوسة الوجود. امرأة على شكل أمي وجدتي. من المضحك فعلا أن أفكر في جدتي الآن تحت تأثير ما رأيت. أما والدتي فقد تفهمت الآن لماذا تصر كثيرا على التغنج والتهادي وشحن نظراتها بأنوثة فتاكة، كنت أحكم عليها بالمبالغة. لعلها لا تتصنع بقدر ما تسعى ليفرز جسدها بشكل عفوي حمولته الداخلية. هو سعي برئ ممزوج بالتشهي والاستعراض المرغوب فيه.
حلت نهاية الموسم الدراسي بعد أسابيع قليلة من جولتي البحرية. نجحت صحبة "سعيد" الابن الأصغر لعمتي. كنت وإياه في نفس المستوى ونفس القسم. ربما سيرافقني أيضا خلال السنة الموالية لمواصلة رحلتنا الثانوية وإلى حدود التخرج والحصول على الشهادة. أما أخوه "سفيان" وأخي "رامي" وهما معا أكبر مني بعامين، فقد انتقلا إلى القسم الأخير من المرحلة الثانوية. بينما كان "جمال" وهو الابن الأكبر لعمتي غارقا تمتصه دراسة الطب في نهاية سنتها الأولى حتى لم نعد نسمع أو نعرف عنه شيئا.
كنا عادة، حين يأتي موسم الصيف، إن لم يكن لوالدي أي مهمة أو برنامج ينشغل به عنا خارج الوطن، يصبح من حقنا أن نرافق أمي لقضاء فترة العطلة في بيت الأسرة بمراكش. كانت لنا فيه فوائد منها المسبح والقرب من قلب المدينة النابض. منه يسهل علينا التسكع بعد أن تتناقص حرارة الصيف في المساء. نتزاحم مع الناس حول مرقصي القرود والحواة والحكائين، نتلذذ بسماع الروايات الساحرة عن أبطال الأساطير القادرين على قهر جيوش الدنيا بضربة سيف واحدة. هناك تشبعنا بمغامرات سيف ابن ذي يزن وعنترة والأميرة ذات الهمة ومعجزات سيدنا الجيلاني قاهر الأسود، وغيرهم.
كان أخي يصر على مصاحبة سفيان في سفره العائلي، ولم يكن أحد يعترض عليه. حين لا اصحبهما في التسكع أبقى وحيدة أتأسف لأن خالي، غير الشقيق، كان يمنع ابنته "أسماء" من مرافقتي. تقول أمي أنه يتعلل بكون بيتنا مملوء بالغرباء والضيوف ولا يطمئن عليها من دون رقيب. يمضي معه أسبوعا أو أكثر قليلا ريثما يملان من المدينة فيجدان حججا كثيرة للعودة لمدينة آسفي. لهما بلا شك هناك أسرار ومغامرات يفتقدان جوها وفوضاها بمراكش.
هنا الجو العائلي شئ مفقود في الواقع. لكل واحد همومه وانشغالاته ومهامه التي تستأثر بكل كيانه ووجدانه. يعيش الصغار في ضياعهم حول المسبح أو في أركان الحديقة والغرف ريثما يحين المساء، بينما يغرق الكبار في تحضير أمسياتهم وسهراتهم الخاصة. عندما تحل نهاية شهر يوليوز يغتنم أبي فرصة حلول مناسبة الاحتفال بتقاليد عيد العرش الملكي. ينظم لقاء لقادة الحزب فترتمي أمي بدورها على الفرصة لتنظم حفلة كبيرة تليق بثقل وعظمة المناسبة. تقول للتبرير إنها كذلك تحتفي بنجاحي أنا وأخي. هكذا كنت أظن دائما قبل أن أكبر أكثر. لاحقا، سوف أعرف أشياء أخرى عن هذا النوع من الحفلات التي تستمر عادة من صباح اليوم إلى آخر الليل الموالي. كل المدعوين يتهافتون لحضور اللقاء لحاجات في نفوسهم لا يعرفها سواهم. تأكدت من ذلك فيما بعد عندما بلغت الجامعة. فجأة يمتلئ بيتنا بالمدعوين...شخصيات معروفة، منهم وزراء ومنتخبون وإعلاميون ورجال سلطات محلية ومقامرون أو وسطاء مختصون في تشمم الفرص للبحث عن مشاريع أو أسواق وعلاقات تجارية أو غرامية جديدة.. قليلون منهم يصطحبون زوجاتهم وأبناءهم. أوصتني أمي أن أكون لطيفة مع بعضهم لو تقربوا مني أو استلطفوني. كان بعضهم مدعوا للمبيت عندنا، بينما سيرحل معظمهم في نهاية السهرة للغرف التي حجزها والدي خصيصا لإرضائهم في فنادق فخمة كالمعتاد، كما لو أنه يشكرهم على الحضور.
تشتغل أمي طيلة اليوم كخلية نحل نشيطة تعد شهدها وعسلها للحاضرين. تحصل من والدي على توصيات دقيقة محددة فتطبقها بأكملها ببراعتها المشهودة، مع زيادات تتطلبها ظروف الاحتفاء والاستقبال. تقدم لكل واحد حسب أهميته ومقامه. تبتسم لهذا وتعانق الثاني بحفاوة مبالغ فيها توحي بأنها تعرفه من قبل عن قرب. كلما زادت القيمة الشخصية زاد الترحيب. تقف مع هذا وتتودد لذاك مبتسمة سعيدة بردود الأفعال. بعض النساء الحاضرات ينظرن إليها بنوع من الغيرة والحسد باد عليهن. تبدل لباسها بين حين وحين وتستحم مرارا وتستعمل من العطور والروائح ما قل مثيله. تبدو سعيدة بنشاطها راضية عن معجبيها وحاسديها. كان الطعام يأتي من خارج البيت من مطاعم ذات سمعة مشهود لجودتها بالإتقان، مما يترك لأمي كل الوقت لتلعب دورها كما تجب بلا توتر.
بعضهم لم يتردد عن استعمال المسبح مع أهل البيت هروبا من حرارة الصيف. غرف عديدة تم تخصيصها لبعض الوزراء من قادة الحزب. هؤلاء لهم معاملة خاصة تكاد تكون عائلية. كلهم يمازح أمي ويضحكون معها. منهم من يعاملني بالمثل وإن حذرتني أمي من العيون الزائغة.
صار أبي عضوا في قيادة الحزب قبل عامين من ذلك اللقاء الذي صادف نجاحي. في نفس الوقت دخلت أمي قيادة مجلسه الوطني. لم يبق سواي أنا وأخي، ولا يستبعد أن نستدعى قريبا لعضوية الشبيبة. بالنسبة لي لا يعني لي ذلك شيئا. طز على سياسة أحزابنا ومن فيها وما يأتينا منها. لا أرى أي فائدة من تضييع وقتي مهما كانت وضعيتي في سياستهم. لم أكن أومن أو أتخيل نفسي عضوة في أي حزب. لو كان الأمر بيدي لشكلت حزبا يطرد منه كل الذين تجاوزوا الثلاثين. حزب يكون له أهداف لا تخطر ببال هؤلاء. ربما لذلك كلما حاورت أحدا من المقربين عن فكرتي يعتبرني مارقة متفلسفة، أبحث لنفسي عن تحرر زائد. حتى أسماء المستهترة، سخرت مني واعتبرتني حالمة. قالت لي مازحة:
= كيف تنجحين في السياسة والأحزاب وأنت لم تفلحي حتى في العثور على ذكر لدبرك؟ ... تقول هذا وتطلق ضحكة عالية.
عندما سألت أمي، كيف ينفق أبي أمواله هكذا بلا حساب على الغرباء؟ أجابتني باقتضاب دون أن تنظر إلي أو تتوقف عن الحركة:
= لا تخافي... أبوك يتقن الحساب ويعرف دوما كيف يخدم مصالحه.
أذكر أني التصقت ذلك اليوم بأمي لا أفارقها. كلما قابلنا ضيفا مهما تقدمني إليه. كما لو أنني كنت أعرف كل من قدموا لي. بدوري، تصنعت السذاجة وأطلقت العنان لأسئلتي كدليل على الفهم والاهتمام. أسأل بعضهم فيبتسم ويطلق لسانه بتفسيرات لا أستوعبها. آخرون أبدي استغرابا لكثرة الصعوبات التي يعانون منها وخاصة منهم أعضاء البرلمان. أشكر بعضهم باسم شباب لم يكلفني منهم أحد بالمهمة. صنابير عديدة مقرفة تنفجر في وجهي بالشرح والتوضيح وأنا أبتسم وأحيانا لا أهتم ولا أفهم. فقط أطلق السؤال كرصاصة وأتقوقع داخلي حتى تمضي العاصفة. أحرك رأسي فقط ثم أختلق حركة كي أنزلق بعيدا عن الهذيان.
*******************
أخيرا، أثناء انتقالنا للسنة الدراسية الموالية. بدأ سعيد يشعر أنه بلغ قدرا من النضج يستحق معه أن يظهر للعالم أنه موجود كرجل. أن تكون له صديقة حقيقية بالمعنى الكامل للصديقة. بدت عليه جرأة طارئة. في التصرفات والنظرات ومخاصمة الأقران. بدأ يدخن أحيانا إلى أن فاجأته عمتي ذات يوم فاشتكته لأخيه الأكبر جمال. ما كادت الدراسة تنطلق حتى اقترح علي أن نسرق زيارة خفيفة لبيتهم. كانت أمه مشغولة في بيتنا تساعد أمي في أمور البيت. فكرة عبقرية، قلت في نفسي، فبيتهم دائما فارغ في مثل هذه الظروف. أمي لن تسمح برجوع عمتي لبيتها قبل أن تجمع صحون طعام العشاء وتغسلها. وسفيان أخوه مشغول صحبة أخي في أمورهم الخاصة ببيتنا أو في بعض المقاهي يتفرجان في مقابلة أو يلعبان الورق. أما جمال، فهو في مراكش. لذلك وافقت على الفور.
في هذا اللقاء الجديد، كان من المفروض علينا معا أن نتجاوز ما تعودنا عليه. توقعت أن يمر الانتقال بين الحالتين بيسر وسهولة. الشروط كلها توفرت أمامنا. انتظرت منه أخذ المبادرة. طفقت أنتظر إليه كقطة جائعة. لكنه ظل تائها يدور حول نفسه. يقبل ويتحسس صدري وظهري. يتوقف، مثل عصفور يتوخى الحذر أمام فخ منصوب أمامه. أصيبت يداه ولسانه بالشلل. قلت في نفسي، ها هو على أحسن ما يرام فلماذا يتردد؟ هناك فرق كبير بين تصور الفعل والإقدام عليه. بين حب الظهور والتجسيد الملموس. تمددت أمامه فوق الفراش مديرة له نصف ظهري. توقعت أنه سينقض علي حين يرى الأكمة تواجه صدره وتستفز عينيه. سعيد الذي كان يزهو في الخارج صار مثل جرو يلعق خيبته وخجله. وجدت نفسي حائرة حتى كدت أطوي الصفحة إلى أجل غير معلوم. كان يقف بئيسا بملامح يائسة لا هو راغب في التراجع ولا هو قادر على الهجوم. تنازلت عن كرامتي وبدأت أستميله بنزع ملابسي. استحضرت بعض نصائح أسماء علني أحفزه. حتى النظر في وجهي صار ثقيلا عليه. يحني هامته ويكاد يرتعد. هل هو الخوف أم العجز؟ لا شيء فيه يعكس حماسه، خيمته المفترضة في ذلك المكان منهدمة ولا دليل على وجودها. خفت أن ينتهي بنا اللقاء إلى فراغ.
مددت يدي إليه أزيح عنه القميص. استسلم لي مثل تلميذ خجول. نزعت سروالي. عيناي تخفقان بعد أن رأيت شبه حركة خفيفة تحت حزامه. نزعت التبان فتحرك الشئ الذي تحت صرته أكثر. أحد ما يحاول أن يبني الخيمة الحائرة. تشجعت ونزعت سرواله أيضا. أمسكت شيأه العجيب في كفي وأحطته بأصابعي. لأول مرة في حياتي أفعل ذلك. غمرتني رعشة مباغتة وارتفعت حرارة وجهي. تحرك الشئ في كفي وبدأ ينتفض ويتمطط. دعكته لتزداد صلابته. يستغرب سعيد من جرأتي ويحملق في وجهي مشدوها. ضممته بقوة ليحتك الجسدان. حين بدأت أقبل الشئ محنية رأسي نحوه، تراجع حجمه ووزنه. في لحظة سريعة تحول في يدي مثل قطعة لحم رخوة وباردة. لم أياس. بدأت أستحثه وأستفزه. الصقته بشفتي. مسدته ودعكته وقبلته. وضعته على صدري، ثم صرتي. مررته على ردفي وجعلته يطل في الأخدود على جوهرتي. كان يزداد انكماشا مثل زعنفة بحرية أو حلزون. أخيرا نطق سعيد خافضا رأسه من الخجل والخوف. جاءني صوته من وراء ألف **** كأنه أنين أو حلم. بضع كلمات يتذرع بها من الحشمة وقلة الخبرة. أحسست برغبة في البكاء. صمت دهرا وفطرت على جرادة ميتة. تعلل سعيد بأن المرة الأولى تكون هكذا دائما. زاد اقتناعي السابق بأن الرجولة سر غامض، أما الفحولة فستظل دائما كنزا مفقودا وحلما لا سبيل إليه إلا للمحظوظين والمحظوظات من أهل الاختصاص. استحضرت المشهد المعلوم وصورة علال وهو يحفر ظهر أسماء بعنفه اللذيذ. ارتعشت أطرافي وأنا ألملم ثيابي وأستجمع طموحي كأني قوقعة تنغلق على ثورتها وشهواتها. قال وهو يفعل مثلي بأنه متأسف، لا شك أن المرة القادمة ستكون أفضل. تركته يرغي ويكذب كما يحلو له. نعم، لعل الصدمة بالنسبة إليه أقوى لكنه لا يبدي ذلك، ربما سيبكي بعد أن أودعه.
صفقت الباب بقوة ورائي وانسحبت غاضبة من حظي التعيس. في الشارع شهقت وتنفست بعمق ملء رئتي كأني خارجة من كابوس ثقيل. قررت ألا أخبر أسماء بما حصل حتى لا تشمت أو تسخر مني ومن سعيد... مر أسبوع بعد ذلك قبل أن يتجرأ سعيد على توجيه التحية لي من جديد.
**************************
بعد أقل من شهر، تشجع سعيد وعاد يقترح علي أن نعيد التجربة. حاول بكل جهده أن يطمئنني ويقنعني أنها ستنجح وأنه أصبح قادرا وعلى أتم الاستعداد... أقسم لي أن النهاية ستكون مغايرة ومضمونة. أعرف أن الحب والجنس أمران لا يلتقيان مع القسم والحلفان. قبلت دعوته على مضض، من باب المغامرة لا غير، وإن بغير اقتناع.
في نهاية المطاف، لم تكن لا ناجحة ولا فاشلة. كانت طموحاتي أعمق وأكبر مما جنيت. كل منا كون انطباعه الخاص حسب ما يتخيله. من جهة المظهر والحركات والأوضاع توفر كل شيء. هذه المرة احتفظت بكرامتي سليمة وتركته يجاهد قدر استطاعته. تلك الطاقة التي ضاق بها صدري شهورا لم تجد سبيلا للخروج منه. الإحساس الغريب الذي طالما روت لي عنه أسماء لم يتحقق. لم يتجاوز ما شعرت به ذلك القدر من المشاعر التي عرفتها من خلال اللمس والتقبيل. بل شعرت معها بألم فظيع على مستوى البطن والعجيزة. أما سعيد فتخيل نفسه بطلا بمجرد أن صب رغوته البيضاء بين فخذي. قفز نشيطا وغنى من قلبه يكاد يطير من السعادة. وكيف لا يسعد وقد أثبت لنفسه أنه رجل؟ لا يهم أي نوع من الرجال، فالرجولة حسب ما يسمع من أقرانه تقف عند حد الاختراق والقذف. ليس غريبا ما دام الأمر هكذا على العموم في سائر المغامرات. لم يكلف نفسه حتى عناء الاستفسار عن مشاعري، أو تشطيب ما تركه بين فخذي.
قفزت بدوري نحو الحمام بنصف خيبة. في داخلي صوت يلعن حظي، ويتساءل عن مصير أنوثتي. فيما بعد، تساءلت لماذا لا يشبه الرجال بعضهم، ولماذا كتب على النساء أن تضيع مشاعرهن بين الأقدام، في غابة يحرسها ويعبث فيها رجال. علال ينسى أنه إنسان كلما ملكته الرغبة وأغرقت الفحولة نظراته الجائعة. تحسبه قادرا على المستحيل من أجل طرد نيرانها من داخله. يتحول على وحش حافر يتحكم في الأنثى بشهوته ويجرها لميدانه. يقتل كبرياءها ويستخرج منها جنون الشياطين النائمة. أما سعيد وأمثاله فهم عاجزون عن تحمل الحرارة التي يعملون على التخلص منها بأقصى سرعة ممكنة. بعض الرجال لا حظ لهم مع السحر الذي يحيل الأنثى بين أيديهم إلى خادمة مطيعة متنازلة عن حاضرها ومستقبلها. لماذا تصبح أسماء أنثى فاتنة ترفع عاشقها إلى أبعد الأجرام، لا يعود منها إلا بإرادتها؟ هل لثقافة سعيد وتكوينه النفسي والجسدي دورا في عجزه النسبي عن السمو بنفسه وبجسدي معه إلى تلك السماوات؟ حتى في الانتقال حيث يطير علال يحتاج سعيد لتأشيرة العبور. ستبقى أنوثتي مهما فعلت معلبة على هامش الفتنة في انتظار حظ قد يأتي أو لا يأتي. فشل سعيد يتسرب منه إلي ويجعلني أشك وأفقد كل ثقة في ذاتي مهما وصفوني بالروعة والجمال.
سعيد شخص مهذب، ذو تربية لا تقبل الشك أو الطعن. تمت تربيته على أسس تميز بين الخير والشر. بين الجميل والقبيح. بين الحلال والحرام. بين احترام الكبير وحماية الشرف والعطف على الضعيف والضرير ومن هو محتاج للشفقة. كل الخرافات والأساطير حشروها في رأسه منذ ولد إلى أن مكنته من جسدي. ربما رغبتي في منحه ما أقدر عليه مما لا يجعلني نادمة يزيد من عجزه على عكس ما تصورت من قبل. الاقتراب من الدبر ولو كان لأنثى حرام في ثقافته. لذلك لا عجب في أن يكون حظه مع المغامرة والعنف بلا معنى. ظلت أمه وإخوته يحذرونه من معاشرة البنات، لا سيما بنات العائلة، فلا عجب إذن حتى لو توفرت له أجمل الفرص، سيكون تصرفه مقتصرا على الخطف والاستعجال كأنه يفر من إحساسه ومشاعره، أو يخاتل المعتقدات والأخلاق التي تربك جسمه وتقلل من طاقته. لا يكاد يصدق أنه هو المعني بما يفعل. يفعل شيئا يراه حراما وهو على الأرجح لا يعيش فعلته. يسرق الفعلة في غفلة من عقله فحسب. لعله يحس كما لو أنه مجرد صورة لنفسه تغامر وتنهي ما تحب عمله في غيبة من أفكاره وتربيته. مغامراته كلها مجرد سرقات مستعجلة، يدخل مجالها بشكل سطحي على عجل، بدون رغبة صريحة بعيشها. يخاتلها ويخدعها كما يخدع نفسه وجسده. لكل هذا لست حاقدة ولا لائمة. نحن كلنا في الهم سواء.
هكذا فسرت الأمر وتركت الاستطراد والأسئلة تغلبني. نسيت نفسي. لاحظت بعد التجربتين أني صرت أقل افتتانا وتعلقا بحكايات أسماء. اعتبرت الموضوع مسألة حظوظ. وحدها مشاهد تلك الليلة في وسط البحر ظلت تهدد استقامتي. أصبح ما رأيت المثال الوحيد الذي يستحق ما يقال عن الحب والممارسة. يوقظني من النوم أحيانا وأنا غارقة في الهم والعرق. جسدي يتلوى من الانبهار ويحلم بالسماء والنجوم والضباب. أنبهر وأحتمي بالخيال وأبكي في صمت. كأنه مزرعة تنبت العواصف في نفسي. صرت أرى كل التفاصيل حتى تلك التي لم أشاهدها فعلا.. يداي تطاوع أحلامي بدون علمي. تعبثان بجسدي باحثتان عن تعبي وشفائي. أندفع وراءهما إلى المجهول. تشدني المشاعر الخفية إليها بلا ملل، أجري خلفها لاهثة كل مساء ناسية ألف مرة مشاعري مع سعيد. ذلك الولد الذي يسعى جاهدا إلى الرجولة قبل الأوان. كل صباح أندم على ما يحدث لي في الليل. بالنهار تراودني فكرة الإقلاع والتوقف عن سكة الإجهاد المجاني. أغرق في الندم وتأنيب الضمير. أكره نفسي وأمقتها. أبكي ابتعاد روحي عن عالمها ومحيطها الهادئ الرزين. لكني في الليل ألتمس لها ألف عذر كي تمارس جنونها الطارئ. تمضي طائرة بي حيث لا وجود للأساطير والتقاليد والأخلاق. أفيض عرقا وتحمر أطرافي ووجداني يحترق. أنسى بسرعة عزيمة النهار وأنبطح تائهة في صحراء الشهوة الغامرة، في كل خاتمة ألعن حقيقتي وأقسم أن تكون هذه نهاية العذاب.
في ساحة المدرسة التقيت أسماء. لم نتقابل منذ مدة. كنت في الواقع أتحاشى لقاءها. بادرتني بسؤال خبيث مبتسمة:
= أين غيابك أيتها المجنونة. تهربين مني لتحتفظي بالأخبار السعيدة وحدك
= كيف ذلك...سألتها. أية أخبار تعنين؟
= لن ينفعك الكتمان. تصرين على الكذب دائما. لقد أخبرني سعيد بأن التجربة بينكما قد نجحت هذه المرة.
أجبتها بانفعال شديد:
= نجحت؟ ربما هي كذلك بالنسبة لمن أخبرك فقط. أما أنا فلم أجد فيها ما يستحق أن يحكى.
= ولماذا؟ ألم تبلغي هدفك ولو مرة واحدة؟
= لا لم يقع شيء مما تتصورين.
= أأأه...هذا ما يسمى عدم التفاعل أو عدم التكافؤ...أحدكما لم يتقن دوره كما يجب، لا بد من تكرار التجربة مرارا كي تنجح.
= التكرار؟ لا... لن أحتمل، أفكر في التوقف والانقطاع، سأنتظر يوم الزواج.
أطلقت ضحكة ساخرة عالية قبل أن ترد:
= كيف؟ ومتى بالسلامة سيأتي زمن الزواج؟ أراك تفكرين مثل جدتنا. من يضمن لك في الزواج أن ما تبحثين عنه سيتحقق؟ هذا علاوة على ما وراء الزواج من متاعب وبرامج يطول شرحها.
= لكني أكاد أجن، لا يمكن أن أستمر مع سعيد، مع احترامي له كشخص ظريف. كل ليلة أجد نفسي في حالة يرثى لها.. إن كان لا بد من تكرار التجربة فليكن مع رجل حقيقي.
= ومن هو هذا البطل المحظوظ؟
= لم أستقر بعد على قرار. المهم أن يكون من نوع علال....
= هذا الاختيار ليس مستحيلا لكنه صعب التنفيذ. لعلمك، أحن كثيرا للزمن الذي أصبح فيه قادرة على الممارسة مع ذكرين في وقت واحد، لكن العكس لم أتخيله بعد. من جهتي لا يمكن أن أتخيل نفسي مع علال بحضور أنثى غيري.
= لكني لم أقل إني اخترت علال للتجريب، كل ما هناك أني أرى إن كان لا بد من الاستمرار، فليكن مع شخص من طينته ...هذا ما قلت.
= فهمت، لست غيورة وما يربطني به ليس حبا على أية حال.. إني أستعمله فقط لأغراض عديدة أهمها أحاسيسي وأنوثتي. لا أحتمل الإبقاء على جسدي مهمشا مثل جثة ميتة أو مومياء محنطة تنتظر من يزيل عنها الغبار في ليلة الدخلة المعروفة.. علال يمنحني فرصة العمر متى ما شئت. أليس هذا أفضل لي من تعزييب النفس كل مساء معزولة عن العالم.. دعي الموضوع لي حتى يختمر، ربما أدبر لك الحل الملائم
الجزء الثالث
لست أدري كيف تمكنا من النجاح في ظل هذا الاستهتار والتميع...أقول هذا عن أخي على الخصوص، أما أنا فقد كنت أعتمد عليه وعلى أسماء كقاطرتين تسحباني باستمرار. بالنسبة لي فإن أسماء، تعد نموذجا ما دامت تنجح دائما بتميز رغم ما تعيشه من لهو وزندقة. حين أستغرب نجاحها، تضحك وتعلق قائلة:
= من يشحن نفسه بطاقة مثل طاقة "علال" لا بد أن ينجح بكل سهولة. أنا لا أشغل نفسي مثلك طول الوقت بالتفكير الفارغ. ساعة الامتحانات أتفرغ بعد أن أستمد ما ينفعني وأطرد كل أنواع التوترات السلبية.
كنت أسألها عند اللزوم كلما اقتربت الامتحانات، فتساعدني بإخلاص.. الواقع أني لولاها مع أخي، لكنت اليوم خارج الدراسة في وقت مبكر من حياتي. يحدث هذا وأبي لا يسأل ولا يهتم. لم يخطر بباله يوما أن يستفسر عنا في المدارس أو يسأل أساتذتنا. كان يلتقي مديرين ومسؤولين وأساتذة في عدة مناسبات، إما بسبب اشغال البناء والترميم التي يباشرها طوعا أو بالطلب. كان مستعدا على الدوام لتقديم العون حبا في الظهور، لا سيما كلما اقترب موعد الحملات الانتخابية. أو في نطاق اجتماعاته وأنشطته الحزبية. أما في مجال الجد والمسؤوليات الأسرية فقد كنت وأخي نحتل عنده نهاية القائمة بامتياز. الأغرب أيضا أن أمي بدورها تسايره وتصر على الغياب. تنشغل بنفسها عن أحوالي وأحوال أخي. عمتي وحدها تدفعنا مع ولديها، تحتج أمام أمي أحيانا عند اللزوم.
حدثت المفاجأة لما بدأ والدي ينتبه لوجودي... كان ذلك إثر الحفل الذي صادف نجاحي في الانتقال من الإعدادي إلى الثانوي. رأيت اهتمامه في تحول نظراته. لا توجد أي صعوبة في اكتشاف الإعجاب من خلال النظرات، سيما حين بدأ يحرص شخصيا على تقديمي لعدد من زوار البيت من ألمقربين إليه. استمر هذا طيلة موسم الصيف. أمي بدورها زاد اهتمامها بي. صارت تسألني عن أمور وتوصيني بأخرى. تصحبني معها في نهاية الأسبوع إلى مراكش إن غابت عنها لأسباب عائلية أو تجارية تستدعي وجودها بآسفي. بالنسبة لي، أعجبني التحول وأراحني. عثرت فيه على ما يشغلني عن ضياعي وراء الهلوسات والأفكار الطائشة الأخرى. قلت في نفسي لعل ترحيبي بهذا التحول يرجع لكثرة الإطراء والإغراء التي أحصل عليها من والدي وأصدقائه، وشخصيات عديدة مشهورة. كل يعبر بطريقته مندهشا عن جمالي وذكائي. للأنوثة دور لأن العيون لا تخفي ما تسره الصدور. إعجاب الكبار والشخصيات يريح ويغري أكثر من إطراء الأقارب والأصدقاء المراهقين مثلي... بل أكثر حتى من محاولاتي اليائسة مع ابن عمتي سعيد. ورغم أن بعضهم يتجرأ ويبالغ في مدحه، إلا أني تقبلت الأمر واعتبرته تشجيعا دافعا ينقلني بسرعة من مرحلة لأخرى بدون خسائر... مغازلات كبار السن مثيرة ومحفزة تغري بحياة حقيقية. تعلمت التغنج والدلال وصرت لطيفة أكثر من المطلوب. أعجبت أمي باندماجي في ثقافتها وسرعة فهمي لما تسميه البروتوكول.. كانت تعلق على سلوكي مع الضيوف المعجبين بقولها:
= هذه الأميرة تذكرني بنفسي عندما كنت في سنها.
من حين لآخر كنت أسمعها تجود علي بمزيد من النصائح الثمينة كخبيرة لا يشق لها غبار. تعلمني كيف أرد إن لم ترقني مغازلة أحدهم... كيف أجيب إن حدثني آخر عن خصوصياتي. تقول لي، اعتبريه فضولا لا غير. ردي عليه بابتسامة ثم انصرفي. أما لو سألوني عنها وعن أبي فالصمت هو أحسن رد ممكن.. لا تغضبي أبدا، تقول، حتى لو اعتبرت السؤال خبيثا أو سبة أو تدخلا في شؤون الأسرة الداخلية... الحساد كثيرون، ومنهم من يهمه أن نتخالف ونسئ العلاقة ما بيننا.. أعجبني خاصة أنها بدأت تسمح لي باحتساء قدر محدود من زجاجات البيرة كلما شعرت بالمضايقة أو اشتد علي الحر، أو كثر من حولي الزوار. تقول لي :" البيرة جيدة لأمثالكن شرط ألا تدخني" هذا أفضل لك من مساحيق التجميل. ترتخي الأعصاب ويتبخر التزمت والانغلاق والتشنج وتذهب عنك الدهشة ويصبح كل شيء في نظرك سهلا قابلا للتنفيذ.. فضلا عن ذلك تحمر الوجنتان ويعلو بريق العينين...وتزداد الجرأة.
كانت أمي تحرص على التسوق أسبوعيا... تخصص صباح يوم الثلاثاء للتجول في الأسواق القديمة المعروفة.. ثم تعود إلى متاجر حديثة في مركز المدينة. عرفتني على بعض الباعة، بعضهم يعرف جدي.. كانت تفضل الخروج صباحا قبل أن يشتد لهيب الشمس المراكشية... أرافقها كنوع من التدريب وملء الفراغ بدلا من البقاء وحيدة بالبيت. خيل لي من تقاربها معي، أني بدأت افهمها كما هي لا كما كنت أتخيل.. كنت مخطئة. اعتبرتها مجرد ظل لوالدي حتى عاشرتها يوميا، لما بدأ الكلام بيننا يتقوى ويحفر مساراته الطبيعية. أمي امرأة هيأتها السليقة الأنثوية، مع ما ورثته من جدتي، إلى الاندماج بسهولة مع أصعب الأمزجة وأكثرها تعقيدا وأنانية.. ومن ضمنها عقلية أبي. ربما لذلك أصبح يوكل لها شرح وتقديم ما يعجز هو عن فهمه وشرحه.. خاصة ما يتصل بعلاقاته المعقدة، ومواعيد لقاءاته حتى السياسة منها... خاصة ما يتصل بالتنظيم. توجه الدعوات بحرص شديد دون أن تغفل أي اسم يستحق الحضور.. تقترح قبل ذلك أسماء معينة فيستغرب، لكنها تلتمس منه عدم الاستعجال وتنصحه بالتفكير في ربط الصلة بين الاسم المقترح وبين الغايات التي يرمي تحقيقها. عندما يعثر على الخيط الناظم، يوافقها فورا... بعد أن تكررت الحالات لم يعد يتردد في الموافقة.
أصبحت أمي بجمالها وقوة شخصيتها، وحسن تدبيرها، مضرب الأمثال. لم تكن تعترض أو تسأل عن الجدوى من أي فكرة أو مشروع.. مما زادها قوة وقبولا لدى والدي. تساعد فقط في الخطوط الكبرى إذا طلب منها ذلك.. أو في اقتراح بعض الإضافات الضرورية، وهندسة الخطوات الأولى... استمدت هذه القدرة من جدتي، مهندسة الديكور التي يعرفها الجميع في مدينة آسفي. أمي ذات خبرة كذلك في إيجاد الوسائل والسبل والأمور اللوجستية. حتى تقدير الميزانيات حسب مستوى أي مشروع... تعرف النقط الحساسة ولا تغفل أي جانب، بما في ذلك متطلبات السفر والإقامة والأكل والسياحة.. تحضر كل شيء وتترك التطبيق لأبي ومساعديه الذين لا نعرف من بينهم إلا القليلين.
تدريجيا، أخذنا نتحدث عن الجوانب الحميمية دون رفع **** الحشمة بشكل كامل.. منذ البداية كانت خطتي هي أن التمسك بالإنكار يؤكد البراءة... مع ما في الإنكار من مخاطر فقدان الثقة التي بدأنا نرسخها بيننا بصعوبة. سألتني إن كان لدي صديق في المدرسة، أو من بين أبناء العائلة. فلما أنكرت، أعادت طرح سؤالها بطريقة لطيفة ومحتشمة:
= حبيبتي هذا أمر طبيعي. لقد أصبحت الآن في الثانوي، أنت فتاة جميلة ومثيرة.. منظرك يوحي بأنك أكبر من سنك الحقيقي. لا بد أن تجدي نفسك تحت المجهر.. صدقيني بعد قليل سيتكاثر حولك المعجبون. لهذا عليك أن تستعدي جيدا لما سيأتي من تغيير في حياتك. وأنا لا أرمي بالسؤال أن أحرجك أو أمنعك. كأم هدفي هو تحضيرك نفسيا وجسديا. بوسعك أن تكسبي أصدقاء، ولكن إياك أن تقعي في الحب.. أحذرك من التعاطي للجنس قبل الأوان... خاصة أن والدك بدأ يهتم بمستقبلك ويخطط لنجاحك. أنت تعرفين أنه لا يضع عينه على أمر إلا حين يتأكد من أهميته ويثق في نجاحه.
اكتفيت بالاستماع والشكر والإنكار طبعا... حرصت على عدم مناقشتها كي لا تستدرجني لحلبة لا أتقن النزال فيها. بدا عليها الاطمئنان رغم كونها لم تصدقني تماما ولم تطرد الشك. قالت لي إن عمتي أخبرتها بأني مؤخرا صرت أمضي وقتا أطول مع ابنها سعيد. قلت لها:
= هذا صحيح، لكنه كان في فترة التحضير والمراجعة قبيل الامتحانات فقط. ورغبة مني في كسب مزيد من ثقتها أضفت قائلة:
= لست حمقاء حتى أسمح لأحد أبناء العائلة أن يتجاوز حدود ما هو مسموح به.
لاحظت أن جوابي أقنعها وأفحم فضولها. فجأة، خطر ببالي أن اسألها عن جمال.. كنت أعلم أنها طالما استعانت به في بعض تمارينها الرياضية، أو للحصول منه على جلسات تدليك بالمجان.. لم تكن هذه ميزته الوحيدة، فقد كان منذ صغره متفوقا في مجموع المواد العلمية، كريما في مساعدة أبناء العائلة. يقدم دروسا في الرياضيات والفيزياء لأخي وأخيه سفيان وأسماء وآخرين مجانا، أو بمقابل رمزي.. أجابتني وهي تحدق في عيني كأنها تبحث فيهما عن سبب السؤال:
= أنت تعرفين أن والدك منعه من زيارة البيت، ومنعني أيضا حتى من مقابلته خارجه. غير أن عمتك حين سألتها عنه، قالت إنه تغير بعض الشئ عن المعتاد.. صار كئيبا محبا للانعزال. بل لم يعد يزورها في بيتها منذ انتقل لدراسة الطب بمراكش. هي التي تذهب لرؤيته عندما نطلب منها خدمة أو مساعدة هنا بمراكش. المهم أنه نجح في نهاية سنته الأولى بالكلية.. ما يثيرني، هو أنه بعث لي مع أمه يلتمس مساعدة مالية، مع أنه عادة ليس مسرفا.
= وكم تبلغ المساعدة المطلوبة؟
= طلب مبلغا يفوق ألف دولار بقليل، حوالي اثني عشر ألف درهم تقريبا.. هذا عدا ما أرسله له في نهاية كل شهر..
عندما سمعت الخبر من أمي فكرت أن جمال ربما يريد شراء دراجة نارية تخلصه من انتظار وركوب الحافلات ذهابا وإيابا للكلية. لكن بعد صمت قصير، استأنفت أمي حديثها:
= ليس المهم هو المقدار، بل التبرير الذي قدمه. إذ حسب أمه، فإنه يريد المشاركة مع جماعة من الزملاء في رحلة إلى تركيا ومنها إلى الديار المقدسة لأداء مناسك العمرة. سوف أخبر والدك وإن وافق سوف أساعده طبعا.
شعرت بفخر كبير وأنا استمع إليها.. هذه هي الأم التي كنت أطمح إليها وأبحث عنها. كم تمنيت أن تكون أمي سخية وسيدة صالحة أفتخر بها وبسمعتها.. مثل جدتي تماما. سيدة تشمل أفضالها جميع المحتاجين.. تحب الخير للجميع وتضحي من أجل ذلك. سموحة رؤوفة بقدر اتساع قلبها. لم أعلم بعد هذا بنهاية ما طلبه جمال. هل قبل أبي مساعدته أم رفض؟ وإن رفض ما هي تبريراته. لقد صادف في نفس الأسبوع فقدت جدتي أحد إخوتها. توفي إثر حادثة خطيرة، اصطدمت سيارته بقطار عند أحد الممرات غير المحروسة. يحدث هذا حتى في بلد كالسويد.. تقرر أن ترافقها والدتي وخالي، بحكم توفرهما على الجنسية السويدية بالوراثة عن جدتي. كان من الأدب أن تشارك الأسرة في العزاء والقيام بواجبات القرابة. ستقضي أمي أسبوعا على الأقل مع جدتي أو أكثر.
هكذا وجدت نفسي من جديد وحيدة، أواجه قرفي ومللي وأستعيد هلوساتي المحنطة قبل أن تزول وتختفي. لم أكن أرى والدي إلا نادرا في المساء. غالبا ما كان يعود للبيت بعد منتصف الليل، في حين كنت ألجأ لغرفتي باكرا في معظم الأوقات. كنت أفعل نفس الأمر حتى في حالة وجود أمي. أحسست بملل ثقيل. تجولت وحدي مرارا واكتشفت معالم لم أكن عرفتها من قبل. أترك البيت مع **** المغرب، حين يخف القيظ وتتحرك بعض النسائم المنعشة.. أتسكع في شوارع وأزقة وأحياء لا أعرف منها سوى القليل. عشية اليوم الثالث بعد سفر أمي، سمعت أذان العشاء بينما أقف في إحدى "حلقات" ساحة "جامع الفنا" أتفرج على مسرحية يرويها رجل أعمى.. قررت العودة للبيت بالحي الشتوي. حينما مررت قبالة **** الكتبية، أمسكت يد قوية بذراعي. التفت نحو صاحبها، فإذا أنا أمام رجلين. أحدهما قوي الهيأة طويل يبدو من نظرته، عند التركيز عليها، أنه ما يزال في بداية الشباب. الآخر قصير أصلح مستدير يشع الفراغ المخيف من عينيه.. ارتبكت خائفة لكن الرجل الطويل تأملني ثم ابتسم، أخيرا تبينت أنه ابن عمتي جمال. نعم هو بالذات بغير صفاته المعروفة. كانا معا يطلقان شعر اللحية حتى تدلى فوق الصدر بلا نظام. كان حليق الشارب والرأس، كلاهما يضع فوق رأسه طاقية مراكشية قصيرة ومدورة لا تغطي مجمل الرأس. ذات شبه كبير بكوفية اليهود، تستقر بالقنة وحولها بقليل. يلبسان جلابيتين لونهما أسود بدون قب أو غطاء. تحتها أقمصة بيضاء مصنوعة من القطن. وينتعلان صنادل تطل من مقدمتها أصابع الأقدام نافرة. سألني جمال مبتسما حين رآني مشدوهة بعد أن زال خوفي:
= ما هذا يا "نورا" ألم تعرفيني؟ إلى هذا الحد تنسين ابن عمتك؟ ودون انتظار الرد، أشار إلى صاحبه:
= أقدم لك الأستاذ محمود حامد الشعراوي، ثم لف رأسه جهة مرافقه، وأكمل التقديم:
= وهذه "نورا" بنت خالي وابنة السيدة التي حدثتك عنها.
كان يبدو عليه الاستعجال. دون أن. يفلت ذراعي من كفه، قال:
= لو سمحت، أرجوك انتظريني قليلا ريثما أصلي العشاء.. لدي الكثير مما أود أن أقوله لك أنت بالذات. لا تخافي، سوف أرافقك في عودتك إن كنت ذاهبة للبيت. لن أتأخر عنك طويلا.
وقفت منفذة طلبه وأنا أستغرب في داخلي مستوى التحول.. عهدي به رياضيا وسيما، فكيف يطلق لحيته هكذا بين يوم وليلة؟ كيف يرمي "تي شورتات" التي تبرز عضلاته وتقدم شبابه ومظهره بهجة للناظرين؟ اين اختفى الشاب اللطيف المبتسم دائما. ذلك النشيط المعروف بخفة دمه، ومعشره وميله للهزل والضحك؟ من أين هبت عليه مسحة الرزانة المبالغ فيها حتى أضافت لعمره سنوات لم يعشها؟ صارت صورته كئيبة حزينة تحمل هموم العالم.. صحيح ما حكته عمتي عن تحولاته الغريبة. لم أتوقع أن يكون جمال الذي أحمل عنه ذكريات طيبة قد انمحى تماما وحل مكانه شخص أكاد لا أعرفه. وهذا الأستاذ الذي يرافقه، ألا يبدو غريبا عنه؟ اسمه الثلاثي يدل على أنه قادم من الشرق.. يبدو سنه فوق الأربعين. فكيف يعاشر جمال رجلا يكبره بعشرين عاما على أقل تقدير؟ ما الذي كان يعنيه بقوله" ابنة السيدة التي حدثتك عنها"؟ ما دخل والدتي في الموضوع؟ ومنذ متى كان جمال من هواة النميمة؟ ترى ماذا قال له عن أمي؟ لماذا طلب مني انتظاره؟ هل بلغت خطورة الموضوع إلى هذه الدرجة؟ هل من الضروري أن أنتظر أم يجب علي الانسحاب؟ وبينما أنا أتساءل بداخلي، لمحته قادما صحبة أستاذه القصير المدكوك الذي يدعو منظره للضحك. وقفا بعيدا عني قليلا، فهمت من خلال الحركات والإشارات أنه يودعه. يبدو أن الأستاذ يعتذر بلباقة ليتيح لجمال مرافقتي وحده.
عبر الطريق في اتجاهي. بدلا من إلقاء التحية باحترام كعادته، باغتني بسؤال مباشرة دون مقدمات:
= ماذا كنت تفعلين هنا وحدك في هذا الوقت؟ نظرت إليه مستغربة قبل أن أرد:
= وعليكم السلام ورحمة **** تعالى وبركاته.
ابتسم محرجا، نظر في عيني
= سألتك من باب الحرص والخوف عليك فقط.. أنت عائدة إلى البيت بدون شك؟
= بالطبع.. وأين تريد مني أن اتجه؟ ليس لدي أصدقاء هنا ولا أحباب.
= وأنا؟ ألست من ضمن الأحباب؟ أم تراك تحرمين لقائي مثل أبيك؟
= لا داعي للحديث عن أبي من فضلك. كل ما في الأمر أني لا أعلم بالضبط أين تقيم، كما أني سمعت من عمتي أنك صرت تحب الوحدة والانعزال بعيدا حتى عن والدتك.
= فعلا، ولكن ليس معك أنت...
= أمرك عجيب حقا. هل نسيت الرسالة التي بعثتها لي مع هديتك الغريبة؟ لقد فهمت منها أنك تريد قطع العلاقة معي أنا بالتحديد.... لكن كدت أنسى.. هل أنت عازم فعلا على أداء العمرة؟
= نعم. لولا أن أباك، سامحه ****، غير موافق.. الحمد *** أن جدك الحاج عبد الإله سمع بالخبر، فأدى جزاه **** خيرا ثمن تذكرة السفر. أمك أيضا بعثت لي بمبلغ محترم قبل سفرها بيوم واحد.
كنا نسير في شارع محمد الخامس نحو مدخله الغربي.. كانت العتمة تغطي بعض المساحات بسبب المصابيح المعطلة أو لوجود أشجار كثيفة الأغصان.. اقترب مني جمال أكثر حتى لامسني جانبه الأيمن.. سألته:
= ما حقيقة هذا السفر إذا جاز لي أن اسأل؟
= هناك جماعة من الطلبة لم يلتحقوا ببيوتهم بحلول عطلة الصيف. اتصل بعضهم بوكالة أسفار معروفة تنظم رحلات إلى السعودية مرورا بتركيا بأسعار مقبولة.. سجلت نفسي معهم لأني وجدت الفرصة مواتية لأداء فريضة العمرة، لا حرم **** منها مسلما. هذا كل ما في الأمر.
= ومن هو الرجل الذي كان معك قبل قليل؟
تريث قليلا يفكر قبل أن يجيب. أحسست كما لو أنه يحترز أو يتوجس. لكنه عاد بسرعة لهدوئه السابق، قال:
= إنه أستاذ مصري معروف. طبيب متخصص في أمراض وجراحة الغدد.. كان يدرس الطب بليبيا.. ثم هاجر منها على إثر انفجار ضرب كنيسة قبطية في بلده مصر، وكان أن ورد اسمه ضمن التحقيقات.. فصار مقامه بليبيا غير محمود لقربها من مصر.. وقد جاء منذ حين للمغرب سائحا عاديا.. اتصل به بعض الإخوة لإلقاء محاضرات في مواضيع معينة وخصوصا الطب وعلاقته بالإسلام.. هو اليوم مجرد ضيف لأن السلطات لم ترخص للمحاضرات.. يتنقل من بيت إلى آخر حتى تنتهي العطلة.
توقف عن الحديث فجأة. انتبهت فإذا نحن على بعد أمتار قليلة من بيتنا.. لم أشعر نهائيا بالمسافة الطويلة التي قطعناها. كنت مركزة ومشغولة بحديث جمال وأخباره. سألته قبل توديعه:
= هل تقيم وحدك؟ أليس معك طلبة آخرون؟
= بالطبع أقيم وحدي. أستقبل أحيانا بعض الضيوف ليوم أو يومين، ثم ينصرفون. لماذا السؤال؟
= تعلم أن أمي لن تعود قبل أيام، وأنا وحيدة هنا اشعر طول النهار بالضجر.. أسبح وأقرأ كثيرا ومع ذلك أحس بالضيق والملل.. لا أعرف مكانا هادئا ألتمس فيه الراحة والمؤانسة.
= ألف مرحبا... يمكنك زيارتي متى شئت قبل سفري. هل ما زلت محافظة على رقم هاتفي؟
= نعم...
= إذن اتصلي بي مسبقا للاستعلام والتأكد من وجودي... بالمناسبة أرجوك لا تخبري والدك أننا التقينا. أنت تعلمين أنه يكرهني بلا سبب معلوم.
= شكرا... لا تخف، لن أخبره...إلى اللقاء
عند وصولي، قصدت المطبخ مباشرة بسبب العطش الشديد. لم تغب صورة جمال الجديدة عن دهني.. كان من المفروض أن يدفعه وضعه كطالب في الطب إلى الانفتاح لا إلى التزمت والانعزال عن أهله.. وجدت السيدة الجديدة التي لجأت إ أمي لخدماتها ما تزال تنتظر عودتي. حييتها واعتذرت لها عن التأخر. سمحت لها بالمغادرة. استعجلت خروجها لأن الحرارة صارت تدفعني للبحث عن البرودة في الاستبرار) من البيرة( كانت "لولا" كلبة والدتي تقف بجوار الثلاجة محدقة في تحركاتي.. عيناها حزينتان تستعطفان.. تذكرت أنها لم تأكل شيئا منذ أمس.. لعلها تفتقد صاحبتها التي كانت تدفئها باستمرار قرب صدرها.. كل المخلوقات تبحث عن الحنان والحب حتى الكللابب.. وضعت أمامها قليلا من طعامها المفضل، علبة من سمك السردين المعلب مرفوقة ببعض المقرمشات.. فتحت زجاجتي وقصدت غرفتي. في الحمام، ما كادت أصابعي تنزلق بالصابون على جسدي متجولة بين الهضاب والشقوق والمخفضات حتى هاجمتني هلوساتي بجوعها المعتاد.. كنت أرتعش ملسوعة أتقافز كمن أصابها مس كهربي مع المياه الباردة. لن أستطيع النوم بهدوء هذه الليلة ذهب بي شيطاني فورا إلى لقائي المفاجئ مع جمال.. تأسفت كثيرا لحاله، إذ بقدر ما كان مظهر جسده ووسامته يستفزني من قبل بقدر ما نفرت منه وأنا أستعيد مظهره الجديد..
تذكرت رسالته التي سبق أن بعثها لي رفقة أمه. أحسست بيأس أعاد لي بعض الهدوء. رسالة مملوءة بالحقد والنصائح ومزينة بنصوص قديمة.. يعترف لي فيها بحبه ويعتذر في نفس الوقت بحجة أن أبي لن يوافق لو طلبني للزواج..
في تلك الليلة، لم يعد أبي نهائيا للبيت.. ربما شغله عني بعض اجتماعاته وأعضاء حزبه. شعرت بالخوف قبل أن أتذكر أننا نتوفر على حارس ليلي مصحوب بكلب مدرب. ندمت لأني لم أطول جولتي خارج البيت.. لو كنت أعرف أني سأبقى وحيدة أثناء الليل لكنت تأخرت في العودة. ابتسمت كحمقاء حين خطرت لي فكرة اغتنام الفرصة للتعرف على حياة الليل.. سأفعلها ذات ليلة قبل أن ترجع أمي، رغم أنه لا أحد يرافقني..
بعد يومين من لقائي معه، هاتفني جمال صباح اليوم الثالث:
= صباح الخير "نورا"
= صباح الخير جمال
= لماذا لم تتصلي؟ ألم تعد أمك من سفرها بعد؟
= لا.. ليس بعد.. هل من جديد؟
= لا جديد تحت شمس هذه الأرض. سوف أسافر مع أصحابي قريبا. فكرت أنه من الضروري أن أراك. لدي بعض الأسرار أود لو أمكن أن أطلعك عليها.
= خير إن شاء ****... ما هي طبيعة هذه الأسرار؟ ألا يمكن أن تخبرني بها الآن؟
= خير... لكن بخصوص الأسرار فإنه يستحيل علي أن احكيها لك بالهاتف. لا بد أن نتقابل
= إذن نلتقي عشية اليوم بعد العصر...
= أفضل أن نلتقي قبيل العشاء... ستكون مناسبة لنتعشى معا.. أود أن أحو من ذهنك الانطباع السئ الذي تركته رسالتي السابقة. شرفيني بقبول الدعوة.
= لكني لا أعرف اين تقيم بالضبط..
= انتظريني أمام بناية البريد، في شارع محمد الخامس.
= أوكي...إلى اللقاء إذن. ثم أقفلت السكة.
لم تثرني الدعوة المباغتة بقدر ما استفزني موضوع الأسرار.. استغرقني التفكير والتخمينات إلى درجة أن رنين الهاتف جنبي أفزعني. اتصلت أمي عبر الواطساب تطمئن علي... سألتني عن كلبتها "لولا" وعن البيت ووالدي.. قالت إنها تطلبه لكنه لا يجيب.. وافقتها فيما تقول. كان من المفروض عليه أن يعزي جدتي في وفاة أخيها. أجبتها أنه ليس هناك ما يدعو للقلق، باستثناء الفراغ والملل واليأس والضجر الشديد.. نصحتني بالخروج قليلا كل يوم للتجول، دون الابتعاد كثيرا عن البيت. في الأخير حذرتني من الخروج ليلا عندما تسود العتمة ويكثر المغامرون.
وقفت طويلا أمام المرآة قبل مغادرة البيت. لم أتعود بعد على تلطيخ وجهي بالمساحيق.. لولا خوفي من تعليقات جمال، وخوفي من إعطائه فرصة جديدة لاستعراض عضلاته الأخلاقية، لكنت تسلحت بجعتين فقط... صدقت أمي في وصفها لتأثير الكحول على الجمال. شعري وحده يحتاج لتسريحة تعيده لبريقه ولمعانه وانسيابه. عدلت وضع الخصلة المتمردة المتراقصة على الدوام حول عيني اليسرى. عقصت الباقي خلف عنقي.. تأملت لون عيني، كان لونا يتأرجح بين الرمادي الفاتح والرمادي الأزرق.. جينات جدتي تقاوم الاندثار.. لم يبق مجال للشك أني نسخة طبق الأصل من الممثلة الأمريكية "جنيفر لورانس"... كل من رآني أو عرفني يشهد لي بالشبه.. تواطأ الكل على ذلك حتى صدقتهم بدوري. استثناء واحد في لون الشعر وطريقة تسريحته.. تساءلت عن اللباس المناسب للخروج. لون كتفي صار نحاسيا لكثرة استمتاعي بأشعة شمس الصيف جوار المسبح العائلي.. من العيب أن أخفيه عن النظرات الفضولية المتفحصة..
ارتديت قميصا اسود، نصف شفاف.. بدا لون البشرة تحته مثل كوب من الحليب الممزوج بالقهوة. أسفله بنطلون جينز ممسوح الزرقة به تقطيعات على مستوى الركبتين.. على قدمي وضعت صندلا بخيوط مذهبة وكعب متوسط الارتفاع عن الأرض، ثم أسرعت للخروج. أدركني أذان العشاء وأنا أنتظر سيارة أجرة تقلني لبناية البريد. شاهدت جمال واقفا أمام باب البناية قبل أن أترك الطاكسي. لاحظت بسرعة أنه شذب قليلا من شعر لحيته. حجم وجهه استعاد تقريبا شكله المعروف، لم يعد محيطه مشتتا بالشعر المستفيض الذي أهمل من كل جانب. بدا لي بلباسه الرياضي الأخضر الملتصق بعضلات جسده أجمل وأطول. علامة "نايك" على كتفه كأنها نجمة مزهوة بوضعها.. على جانبي بنطلونه خطان أبيضان لامعان يسيلان من الحزام حتى القدمين، يضفيان عليه مزيدا من الطول..
كنت أعرف موقع العمارة لأنها ملك جدي، لكني لا أعرف في أي دور تقع الشقة. يجب علينا الانحدار نحو غرب الشارع مسافة كلم تقريبا أو يزيد. بعد التحية، سألني شاكرا لي قبول الدعوة، أين أفضل تناول طعام العشاء. خارج أم داخل الشقة؟ أجبته أنه لا فرق عندي، خصوصا أني أتجنب هذه الوجبة حرصا على رشاقة الجسد. رد علي أنه بدوره لا يميل كثيرا للأكل خارج البيت.
تقع الشقة في الدور الثالث بعمارة بها خمسة أدوار. ركبنا المصعد. ما كدنا نفتح بابه عند الوصول حتى انسابت إلى خياشيمي رائحة بخور.. باب الشقة قريب من المصعد يفصله عنها بضعة أمتار. فتح جمال الباب فارتفعت حدة الروائح مثقلة بالبخور، كأن الشقة كلها مغسولة به. كدت أختنق. أمضيت وقتا طويلا نسبيا كي أتعود على الروائح المبثوتة من الصالون والمطبخ وغرف النوم. فتحت نوافذ الصالة والمطبخ وحجرة نوم جمال. مع هذا بقيت الرائحة لاصقة بالفراش والستائر.
كانت الشقة مفروشة بتقشف كبير.. قال إن أمي اشترت له السرير وفراش نومه ذي القوائم الأربعة، التي ترتفع عن مستوى سطح الفراش.. استغل جمال القوائم ليثبت عليها من كل الجهات قماشا شفافا يقيه من لسع الناموس وإزعاج الذباب والحشرات الطائرة عند النوم.. حرارة الجو في مراكش دائمة لا يفيد معها سوى عزل الفراش عن جو الغرفة وفتح النوافذ ليلا كي يحصل على بعض النسائم المنعشة.. حيلة تغني من ليس بوسعه شراء مكيفات..
جدران الشقة، في الممر والصالة وغرفة النوم، وحتى في جزء من المطبخ كلها مغطاة بزرابي صغيرة بها صور نخيل، أو صور الكعبة المنورة، أو بضع آيات وسور من الذكر الحكيم. اتجهت بعد فتح النوافذ إلى الصالة. لم يكن بها سوى بعض الزرابي الحمراء. معظمها سوسية من جبال الأطلس.. بعضها كنت شاهدته في بيت جدي وجدتي.. عليها وسائد مملوءة بالصوف تستعمل للنوم أو الجلوس. في المركز مائدة مستديرة لا ترتفع كثيرا عن البساط. وجدت في المطبخ كرسيين جلست على أحدهما بينما وقف جمال أمام صحن الغسيل يغسل في صنبوره بعض الخضر، شاهدت منها حبات من البطاطس. اعتذر لي قائلا إنه سيهيئ الطعام.
أردت الهجوم فورا على الموضوع الذي جئت من أجله. كنت أفكر في طريقة لبقة لافتتاح الحديث... بينما أنا أبحث عن الكلمات المناسبة، سمعته أخيرا ينطق قائلا:
= هل تعلمين أن والدتك زارتني هنا عدة مرات قبل أن يمنعها ابوك؟
تركت كلماتي حائرة تفتش لنفسها عن مخرج، انحرف تفكيري ناحية السؤال:
= وما الذي كان يدفعها لزيارتك يا ترى؟ ... سألته باستغراب ظاهر
= تلك قصة أخرى تحتاج لوقت طويل، قد أحكيها لك من بعد لو سمحت الفرصة. في الأول، ساعدتني قليلا.. هي التي نقلت لي الأواني والزرابي في سيارتها "رونج روفر". صراحة تعاملت معي كأخ، لكنها حافظت بعد ذلك على زيارتي مرة في الأسبوع بصفة منتظمة.. كلما حلت بمراكش تجد دائما وقتا مناسبا لتزورني.. فسرت الأمر بداية على أنه نوع من الاهتمام والرعاية، فإذا بها تفعل ذلك رغبة في الحصول على تمارين التدليك، بحجة إزالة العياء بعد تمارينها الرياضية الأسبوعية. وأحمد **** أن والدك منعها مني زيارتي نهائيا. في قاعة الرياضة كان الأمر عاديا، أما هنا، وحدنا، فلا أخفي عنك أني وجدت نفسي في غاية الإحراج. كان حضورها بمثابة استفزاز مدروس.. ما زلت إلى الآن أستغرب من قدر ما تبديه من سذاجة وعفوية تصرفاتها تلك.
= ولماذا كل هذا الحرج إن كنت تنظر إليها كأخت؟
= أنت على حق.. إنها تكون أختا حين تلبس ثيابها. أما حين تستلقي أمامي عارية، تسلمني كل جسدها الفتان للتدليك، فذلك أمر آخر.
= كيف تستلقي أمامك عارية؟ هل جنت؟ ألا تخجل منك؟
= وهل سمعت بامرأة تطلب التدليك دون خلع ملابسها كاملة؟
كان يوليني ظهره المفتول العضلات تحت تي شورت أبيض بلا أكمام. مستغرقا في تقشير البطاطس. كادت كلماته تصعقني.. فاجأتني صراحته وجرأته. جمال شاب رياضي وسيم جدا. لونه ذو سمرة خفيفة وعيناه حوراء شديدة السواد والبياض على السواء.. باختصار هو من النوع المثير الذي تحلم به النساء.. دمه خفيف ميال للهزل باستمرار.. لم يكن سابقا يحس بثقل التقاليد وكثيرا ما خاصمته أمه لهذا السبب.. في آسفي كان إلى جانب الرياضة وحرصه على أوقاتها، كثير التسكع في المقاهي والساحات، حتى ساءت سمعته رغم براءته... كان هذا قبل تحوله الظاهر نحو الانعزال والتطرف السني... وأمي بدورها سيدة رائعة الجمال. صورتها لا تختلف عن جدتي السويدية.. عيناها ميالتان للزرقة وشعرها كثيف ينساب خلفها كشلال ثائر تتراقص خصلاته مغطية ظهرها وكتفيها. جسدها رغم سن الأربعين رشيق لا يختلف عن جسدها في العشرين إلا قليلا.. تحرص بكل الطرق على طقوس وحركات مدروسة وحتى طريقتها في الكلام متأنثة زيادة عن المألوف.. صدرها لم يترهل قيد أنملة عن زمن المراهقة، لم نفز منها عند الميلاد بحظنا من الرضاعة إلا لحظات. وفي كل تمارينها حركات وأثقال حديدية تحافظ على حجم نهديها وصدرها بصورته الأولى.. حتى أني أغير منها وأنا ابنتها... أنثى مثالية في المشي والوقوف والنظرات. كل حركة منها تفيض دلالا حتى اتهمت بالتصنع أحيانا... فكيف لجمال أن يصمد أمامها عارية؟
قلت في داخلي، لماذا لا يكون حديث جمال مجرد كذب في كذب؟ لعله يستدرجني لمواضيع لم يجد الطريق لطرحها معي بصراحة أو بلا حرج. لا يمكن لأمي أن تتعرى أمامه هنا، وهما وحيدان بلا رقيب.. لو حدث فعلا ذلك، فليس له سوى معنى واحد.. لعلها تتحرش به أو تحبه. غير أني أعرف أمي جيدا من هذه الناحية. فهي تثق بأبي وتحبه وتكاد تعبده. فلماذا تتحرش بابن أخته؟ ألا تخشى الفضيحة؟ ولماذا أصدق ابن عمتي وأمي غائبة لا تملك حق الدفاع أو التوضيح؟ ألا يمكن أن تكون العادة هي السبب؟ لقد كان يدلكها في بيتنا وربما من ناحيتها ما زالت تعتبره صبيا غير قادر حتى على الدخول في الهلوسات والخيالات الجنسية. لعل هذا المنطق هو الأقرب للصواب، فكثير من نساء الأسر، خالات وعمات وغيرهن يجدن أنفسهن فجأة محرجات من الاكتشاف المفاجئ لبلوغ صبيان طالما حظين بضمهم وعناقهم ومداعبتهم.. أمي مخطئة فعلا لكنها لم تقدر فداحة صنعها... هذا جزء من عفويتها كما قال جمال نفسه. وحتى لا قدر ****، لو كانت تراودها فكرة الخيانة فإنها لن تختار جمال بالتحديد، لأنه من العائلة.. عندها ما لا يحصى من الرجال كل أسبوع. جميعهم غرباء وأهم من جمال، وكلهم يشتهون لحظة واحدة في حضنها.
= لم أصدق ما قلته يا جمال.. ألا يمكن أن تكون حالما أو هي استيهامات تتغلب عليك؟
لوى رأسه نحوي دون جسده.. ركز عينيه في عيني
= أنا آسف لأني هجمت عليك بهذا الموضوع. أفهم أن تدافعي عن أمك بهذه الصلابة. وحتى هي أعذرها، لأن من يعاشر رجلا كخالي لا بد أن ننتظر منه أي شيء.
= كفى هراء من فضلك.. هل تتخيل نفسك في حجرة العمليات؟ انتقلت إلى أبي قبل تصفية حسابك مع أمي.. لم أتصور أنك ستواجهني بهذه القسوة.. هل هذه هي أسرارك التي وعدتني بها؟
= أعتذر لك إن كنت قاسيا. لكن أقسم لك، وأنا رجل مؤمن كما ترين، أن ما قلته هو الحقيقة.
= لنفرض أن ما قلته صحيح، لكني أعرف أمي وأثق في استقامتها ربما أخطأت بالتعري، لكني واثقة أنها تعاملك كأخ أو كأحد أبنائها.. لعلها استمرت على ما تعودت عليه نحوك، لم تنتبه لتقدمك في السن...
= يا لك من محامية صلبة. إن ما خفي أعظم لو تعلمين. فأنا لم أخبرك بالتفاصيل كلها.. المرة الوحيدة التي أتفق فيها مع خالي وأبارك قراراته، هي أنه منعها ومنعني من لقائها. لقد أكد بمنعه أنه رجل يعرف زوجته جيدا ويستبق ما يمكن أن يأتيه منها.
= كمل، تكلم أفرغ ما في جعبتك.. يبدو أنك تخفي عني أكثر مما سمعت.. هل لديك دليل واحد؟ أنت تزعم إذن أنها تتحرش بك، يا لك من مريض جاحد للجميل
= لا تغمضي عينيك يا نورا، حتى لا تصابي بصدمة نفسية حين تكتشفين حقيقة أمك بنفسك.. أما. عن نفسي، فأنا واثق مما أقول. ما يدفعني لإخبارك هو تقديري واحترامي لك وللحاج عبد الإله جدك، الذي لا يستحق أن يكافأ بمثل تصرفات أمك.. من حقك الدفاع عنها لكن لا تتبعي سياسة النعامة..
= لن يصدقك أحد ما دمت لا تتوفر على دليل ياج...
= إن أردت الدليل فهو موجود. سوف أعطيك دليلا واحدا فقط. جربيه عندما ترجع أمك من السفر. حاولي أن تغني في حضورها أغنية) يا جميل يا جمييييل، يا جميل / على حبك باااان لي دليل (أو أغنية) جميييل جمال / مالوووش مثال (وكلاهما لفريد الأطرش.. ركزي عينيك على وجهها وردود فعلها، وكل ما قد يصدر عنها من أقوال وحركات. سوف تنقبض وتتلون وتتحرج بالتأكيد... لا بد أن تسألك عن سر غنائك لهاتين الأغنيتين بالضبط، أو كيف ومن أوحى لك بهما...
= وما هو فعلا سرهما؟ ابتسم قبل أن يرد:
= كثرة الهم تضحك، كما يقال، الأغنية الأولى تنطلق من أمك في ظروف محددة.. كنا نبدأ حصة التدليك، وفي مرحلة معينة تنتبه وهي ممددة أمامي على بطنها تحت أناملي إلى أسفل بطني. بمجرد أن تلاحظ درجة انفعالي وأنا أجاهد كي أخفي الذي لفت نظرها تحت صرتي، تشهق بعمق كما لو أنها كانت تسبح في أعماق بحر من الشوق واللوعة.. تتنهد وتصيبها رعشة، أحس بها تنتشر في عروقها والأعصاب. تكاد اصابعي تلمس تيارها العنيف.. تركز بصرها في نقطة محددة وتبدأ فجأة في الغناء مرتبكة أو متعصبة أغنية " يا جميل يا جمييييل يا جميل/ على حبك باااان لي دليل" أما الأغنية الأخرى فهي لازمة، تكاد لا تفارقها بسبب أو بدونه.. كل وقت عندما نختلي وحيدين، وهذا ما أثارني لأنه يدل على إصرار مقصود، بدليل أنها تخفيه كي لا يسمعها غيري.. في الأول كنت أعتبرها مجرد مدح وإطراء، أو تعلقا طبيعيا بفريد الأطرش وفنه... لكن اختيارها لأوقات معينة جعلني أتأكد من نواياها.
= ولماذا لم توقفها وتمنعها عندما بدأت تحرجك؟
= لقد فعلت ما في جهدي، كانت النتيجة أنها قاطعتني ساخطة كأني طعنت كرامتها وقللت من تأثير أنوثتها، لدرجة أنها مؤخرا كفت عن تسديد ما التزمت به من مساعدة لفائدتي أمام جدك.
= وهل اشتكيت منها لأمك أو لجدي؟
= لست غبيا لأفعل. لأني لا أسعى لخلق أي حرج لها أو للحاج. خفت أن تتطور المسألة، أو أخضع عند التشكي للتساؤلات التي قد تفضي، لا قدر ****، لمشاكل أو فضائح.. على كل حال، فإنها قد انتبهت من ذات حالها. بعثت لي مع أمي مبلغا محترما يغطي ما أحتاجه وأكثر، أي أنها ربما اضطرت لرفع الحظر حين شكت في خطورة ما فعلته معي. كما أنها كفت عن ملاحقتي بعد أن تدخل أبوك لمنعها من الاتصال... ربما تكون قد كلمته عني أو اختلقت أي سبب لتدفعه إلى الشك وإساءة الظن، وقد تكون نوعا من كيد النساء حتى تمارس مزيدا من الضغط علي.
أكمل جمال إعداد الطعام. بطاطس مقلية، شرائح لحم، ثم أخرج من الثلاجة سلطات سبق له أن هيأها أثناء النهار. طماطم مخلوطة بالبصل مع قطع صغيرة من الخيار.. وباذنجان مشوي مخلوط بالبقدونس والليمون)الحامض(. وضع كل ذلك أمامي مع كأس ماء وحبات خوخ وموز... ساد صمت مريح اثناء الأكل. فكرت في الدليل الذي قدمه جمال.. من المحتمل أن يكون اخترعه. لكنه إن كان حجة مخترعة، فلن تثير أو تستفز والدتي. ستتعامل معها كالعادة عندما أغني بحضورها لأم كلثوم والعندليب والحياني وبلخياط وغيرهم.. لن يحدث غنائي في أذنها ومزاجها أي تأثير أو اهتمام، هذا إن انتبهت إليه أصلا.. هكذا ستفعل نفس الشئ إن كانت بريئة.. أما إن كان جمال صادقا، فإن علاقتي بها سوف تتعرض لهزة قوية.. سترتبك وتستغرب وتمد عنقها وتفتح عينيها لتسألني بانفعال قوي عن الداعي لغناء هاتين الأغنيتين. على طريقة "اللي فيه الفز يقفز" كما يقول المثل العامي.
لا مصلحة لي إذن في تجريب مصداقية الدليل من عدمه. بدأت أتراوح بين تصديق جمال وتبرئة والدتي.. ليس من السهل على فتاة في مثل سني أن تتقبل صورة أم شهوانية يتقاطر الشبق من عينيها وجسمها، إلى درجة التحرش بشباب في سن أبنائها.. لا أريد في نفس الوقت خلخلة الصورة الجميلة التي خلقتها أمي لنفسها في نظري، قبل سفرها... لن أربح أي شيء لو حاولت إثبات التحرش أو البراءة.. بالعكس، سوف أخسر أمي من جديد. من الأفضل أن يبقى الحال على ما هو عليه الآن، خصوصا بعد انقطاع فرص الاتصال بين جمال وأمي. حمدت الخالق من قلبي لأن الأمور لم تذهب بينهما إلى أبعد قدر ممكن.
قادني التفكير إلى وضعية أبي في هذا المشهد.. شعرت أنه يشبه الربان الذي يقود باخرة ضخمة، يسيطر من أعلى على كل الصغائر والتفاصيل.. لا يهم كيف يكتشف ما يجري من حوله. المهم أنه موجود يتحكم في مصير نفسه وعائلته. بدأت أميل أكثر لتصديق جمال، إذ لا مصلحة له في تشويه سمعة عائلة وأسرة وسيدة أحسنوا إليه واعتنوا به، وحرصوا على تعليمه وتربيته حتى لا يشعر بفقدان والده.. لا شك أن غرضه شريف ونبيل حينما ألح أن يخبرني. يجب علي الاعتذار:
= جمال.. قلت له، أنا جد آسفة إن كنت قسوت عليك وأسأت ظني بك... إعذرني لأنه ليس سهلا علي تقبل ما ذكرته. وفي الوقت نفسه لا أرى لك مصلحة في خلق سوء التفاهم أو الإساءة لأسرتنا.
= أنا بدوري متأسف.. فقد استدعيتك من أجل أغراض أخرى.. أنا نادم فعلا لأني صارحتك بأمر يخص والدتك وحدها، كان علي تسوية الأمر بطريقة مخالفة معها... المهم...
= المهم آت ما عندك، فالوقت يمضي بلا فائدة...
= بيت القصيد عندي هو أنت يا نورا.. لا يتقبل ضميري أن أغشك أو أغدر بك. حديثي عن أمك يدخل في هذا الإطار وهو أول الأسرار فقط...
= المسألة عبارة عن مسلسل إذن... هات ما تبقى في جعبتك.. **** يسمعنا أخبار الخير.
= خير إن شاء **** تعالى. السر الثاني، وهو الأكبر والأخطر، هو أني أحبك إلى درجة لا يعلمها إلا من خلقني. لكنه كما تعلمين حب يائس، طالما أن والدك لن يرضى بي زوجا لك حتى لو جعلتك تتعلقين بي... إذن فأنا أحبك بصمت من بعيد.. وقد بعثت لك رسالتين أشرح فيهما أحوالي.. واحدة مع أمي والثانية مع سعيد أخي.
ابتسمت عند سماع الاسم معلقة:
= أما سعيد، فأنا أتفهم لماذا أخفى عني الرسالة. وأما والدتك فلا أفهم السبب.
= أنا كذلك توقعت ألا تصل الرسالتان، وقد حانت الفرصة لتفهمي كل شيء... قلت إني مغرم بك إلى درجة الجنون.. وقد بت أراك حورية من الحوريات، وربما بسبب اليأس صرت أراك في المنام مرصودة لأمير من الأمراء الموعودين بالجنة، من هؤلاء الشهداء والمجاهدين يوميا في أرض ****. ولعلمك ف\\\\غن الأستاذ محمود الذي كان معي حين التقيتك بالصدفة أعجب بك أيما إعجاب. وهو كما لا تعلمين في منزلة الكبار المعصومين من الخطإ. وقد تنبأ لك بمستقبل زاهر ولا سيما إن هداك **** إلى السراط المستقيم.. لقد تأسف كثيرا حينما حكيت له عن أمك وأبيك، وأحوالهما العائلية، وعن لقاءات اللهو والشراب والترف الزائد. فكان أن نصحني بأن أعمل على إنقاذك من الضلال وأنصحك مهما كان المصير...
أردت أن أقاطعه للتعليق على كثير من أقوله وأفكاره المتعسفة والغريبة... لحسن حظي كنت ألتقط من أفكار جدي، وما يبلغني من حديث ضيوف والدي ما يسعفني للرد على كل التهم البليدة التي أمطر بها سمعي. لكنه أوقفني بأدب ظهر عليه التصنع الزائد طالبا مني الانتظار حتى ينتهي من سمومه:
= الآن جاء دور السر الثالث. هذا الذي نتحدث عنه كأيها الناس، شخص هام، ذو منزلة ربانية عالية.. له دور كبير في تنظيمات الإخوان، وهو من الرجالات الذين تركوا الأهل والوطن للدفاع عن راية الإسلام في أنحاء الأرض. نعم، كان أستاذا في مصر ثم في ليبيا. هو اليوم مكلف بأمور أكثر أهمية. لقد وصل إلى بلادنا بأوراق مزورة للتخابر والتحدث مع أناس لا أعرفهم. ولأنه اقتنع بإمكانياتي، ودرس أحوالي، وعاشرني أياما فقد اقتنع بكفاءتي... ووعدني أن يتدخل في تركيا أو إنجلترا لفائدتي... إنه يضمن لي معادلة الشواهد والتسجيل والحصول على منحة هامة لدراسة الطب.. اتفق مع جماعة من الطلبة في مختلف الكليات لإرسالهم لتركيا وأنا من بينهم... نحن ننتظر فقط بعض الترتيبات. غالبا سنرحل بداية الأسبوع المقبل.. لن أعود من هناك، هذا إن عدت أصلا، إلا بعد إكمال دراستي. لا أحد يعلم بالأمر سواك. لهذا، أرجوك لا تخبري أمي أو أمك. على الأقل حتى نرحل، الأمر لا يتعلق بي وحدي بل بكل الجماعة المسافرة في حفظ **** ومعونته. لا نريد مشاكل، لهذا اسمعيني جيدا. أنا الآن أعترف لك بحبي.. وكم أتمنى لو تقبليني بعلا في الحلال. في هذه الحالة ستكونين معززة مكرمة صحبة فتاتين موجودتين بنفس البعثة.. هذا هو الظرف الوحيد الذي يمكنني فيه أن أتزوجك بأمن وسلام. أما هنا فالأمر مستحيل.. والآن لك حرية الكلام والتعليق.. فكري جيدا ولا تتسرعي.. لكن أرجوك، لن تخرجي من هنا حتى أحصل منك على جواب قاطع ومقنع.
أي عبث هذا؟ أي تخريف؟ الخلاصة أني صعقت وصدمت.. كيف لابن عمتي أن يعرضني في المزاد غير العلني بهذه الطريقة الشنيعة؟ ككيف يسمح لنفسه أن يقرر مصيري؟ يزوجني متى شاء لمن شاء دون استشارتي أنا وأهلي؟ من أخبره أو اشتكى له أني راغبة أصلا في الزواج؟ لم أتمالك نفسي فكان الرد عبارة عن ضحكة هستيرية جعلته يهتز مفزوعا.. ماذا كان يتوقع؟ أن أركع أمامه شاكرة له جميل التفكير لأنه زوجني؟ أي حب هذا الذي يدعي؟ بل أي تفكير هذا الذي يجعلني سلعة وبضاعة لا تتنفس ولا حق لها في الكلام والاختيار؟ كيف يخطر بباله المريض أني سأقبل الهجرة إلى بلاد غير آمنة كي أتزوج منه أو من سواه؟ هل يتخيلني ضائعة معرضة للزبالة والعنوسة؟ كيف يغمض عينيه عن أهلي لمجرد أنه هو أنكر وجودهم من أجل الطمع في شيء غير مضمون؟
سبحان ****...انفجرت في وجهه بكل قوتي.. كنت أحسبك مهذبا محترما، ومشروع طبيب تفتخر به العائلة، فإذا بك مجرد أحمق أناني مسلوب الإرادة والوجدان... تذكر العذاب الذي عانته أمك كي تصبح ما أنت عليه اليوم... فكر في إخوتك بدل الهروب بدعوى البحث عن الجنة. طالما وقفت في صفك للدفاع عن مستقبلك واختياراتك... أنا التي ترجيت جدي كي يتوسط لك ويمنحك الشقة والمنحة والفراش وكل ما تملك من ثياب. كيف تكافئني بجنونك وطمعك؟ إن أردت الهجرة فاذهب إلى الجحيم، ولا تعد لأن رجوعك سيرميك في جحيم أكبر بيننا. تريدني عملة تربح بها رضى أمرائك الذين يستعبدونك بالتلويح بالخرافات، كأنهم يملكون مفاتيح سرية يفتحون بها أبواب الجنة لمن سقطوا ضحايا بأيديهم... أبقى مع أهلي عانسا وأتزوج أحط زبال في وطني خير لي ممن يجرونك من أنفك وهواجسك. من أخبرك أيها الجاهل، المحرف أني لست على السراط المستقيم؟ إن كان سراطكم يجعلني أفكر مثلك فإني أرفضه. بجرة قلم نسيت وضعك وبدأت تقرر في حياتي ومصيري، كما لو أنك ورثت بقرة. ما الذي ينقصني في بيتي كي أتخلى عنه؟ أما ما تسميه ترفا ولهوا فهو عالم بعيد عن أمثالك، عالم تتحقق بفضله الحياة وتكبر البلاد والعباد. تبنى فيه علاقات وتجارة وصناعة وأموال ومشاريع اقتصادية. بفضل هؤلاء الذين تسبهم وتتبرأ منهم يعيش أمثالك من حثالة القوم المغضوب عليهم. تأكلون النعمة وتسبون الملة.. حتى السلام عليك حرام..
الجزء الرابع
بينما أنا أرغي وأزبد، رن جرس الباب فأسرع جمال ليطل من العوينة السحرية.. فتح وهو يحيي ضيفه قبل أن يكمل الباب دورة الانفتاح.. كان القادم هو الأستاذ الذي أفاض جمال في شكره ومدحه. يكاد يعبده. يصفه بالرجل المعصوم من الخطإ بعدما أوهمه أن الطريق إلى الجنة مفتوح في وجهه فصدقه ونسي أمه وإخوته.. ألقى القادم التحية من بعيد دون أن يتوقف. اتجها معا مباشرة نحو الغرفة التي ينام بها الضيف. سمعتهما يتناقشان قليلا بصوت مرتفع.. بلغتني منه نتف متقطعة بلا خيط محدد يتيح لي أن أفهم شيئا. أسماء وأعداد، أرقام بالعملة الصعبة المختلطة.. دولار وجنيه وأورو... بدا أن الأستاذ غاضب، ربما تواجه المخطط مشكلة طارئة. وربما علم أن جمال أخبرني بالموضوع. بعد عدة دقائق خرجا من الغرفة ولحقا بي.. حياني الأستاذ دون أن يمد لي يده. طلب من جمال أن يحضر له كأس شاي، فسألني هذا إن كنت أيضا أرغب في مثله.. قلت له لا بأس، وإن كنت أعاني من تعب وصداع مزمن يمنعني من التحدث والتفكير. أعطاني حبة أسبرين بعد امتداح فعاليتها.. قال لي أن الحبة ستمحو كل ما أحس به بعد قليل. خفف وصول الأستاذ من غضبي. سألته من باب المجاملة حتى لا يشعر بسوء التفاهم الذي طغى قبيل مجيئه:
= كيف وجدت حال المغرب يا أستاذ؟
أجابني وهو يمشط لحيته وعيناه مركزتاه على وجهي:
= الحمد ***... على ما يرام، لا ينقصه سوى قوة الإيمان ليكون حاله أفضل... ثم سكت. فاجأت جمال ينظر إلى وجهي وحاجباه مقوسان إلى أعلى علامة الخوف، كأنه كان يتوقع مني ردود فعل قاسية
شربنا الشاي. شعرت بغتة بدوار خفيف، وألم يعصر بطني. حاصرتني فجأة رغبة في زيارة المرحاض.. أسرعت إليه. بمجرد فتح الباب أدركت مقعد البالوعة قبل أن أنفجر.. إسهال قوي مباغت لم يدع شيئا مما أكلت قبل قليل في أمعائي.. ربما لم يغسل جمال أواني الطبخ جيدا.. زاد صداع رأسي. سألت معتذرة، إن كان بوسعي أن أعتزل قليلا طلبا للراحة. عندما قادني جمال للصالون ليدلني على جانب منه على مقربة من النافذة، أخبرته أني سأنام قليلا لعل الدوار المؤلم يختفي، قبل أن أنصرف... اقترح علي أن أتصل بالبيت لأستفسر الشغالة عن والدي، هل عاد أم لا... وافقته على اقتراحه، واستلقيت فورا حيث أشار دون أن أفعل.. فترة بسيطة كانت كافية لأستغرق في النوم.. لم أتمكن من ارتداء الجبة البيضاء التي وضعها بجانبي..
لا أدري كم مر من الوقت. هاجمتني كوابيس مخيفة ومثيرة... رأيت وجه أسماء وجسدها العاري.. تقف فوق منصة مرتفعة تشير نحوي ضاحكة تخرج صراخا ملتاعا شبيها بما سمعته منها ليلة جولتنا البحرية... علال يرقص وقضيبه منتصب أمامه يرقص معه.. أمي بدورها تجري هاربة عارية فوق رمال شاطئ لا أعرفه.. خلفها شخصان يلبسان أقنعة سوداء. يمسكان بها وتنبطح أرضا بينهما. أبي بدوره يحمل فأسا بيده، أمام حقيبة مملوءة بالعملة الصعبة وهو يراقب ما يحدث دون تدخل..عيناه مركزتان على نخلة يجثم على رأسها غراب.. علال يكتشف جسد أمي بين الرجلين. يخطفها ويجري بها نحو مركبه. يقلد معها نفس الوضع الذي تعوده مع أسماء. ترد عليه بضحكة وتلصق مؤخرتها بصدره.. أصداء صراخها لا تلفت انتباه أبي.. عيناه لا تفارق الغراب فوق النخلة السامقة. أسمع صراخ أمي ولهاثها فأرتعش وأنتفض. أتصبب عرقا مثل جبل ثلجي ذائب تحت الشمس.. أتلوى وأبكي حين يبلغني أنين أمي تئن وتتأوه.. أصوات رجال هادرة تأتيني من بعيد، ممزوجة بضحك وهمهمة.. كأن أحدا ما يحفر أو يحطم جدارا..هه، هه، هه.. نفس الصوت يتكرر متأرجحا بين التشكي والاستلذاذ. يتكرر مرارا وينتهي بتأوهات... أتقلب فوق فراش خشن، وأحس نفسي عارية أحك ظهري وفخذي، حلزون رطب ساخن يزحف فوق جسدي. أحك لحمي وراء عبوره.. صوت مرايا تتكسر ونباح كلاب تلهث جائعة خلف سيارة عابرة... ألهث بدوري محاولة اللحاق بحافلة تفر حاملة أمي مع الرجلين.. تلوح لي مشيرة من وراء النافذة المغلقة.. وجوه كثيرة تتأرجح أمامي ثم تختفي. كوابيس وراء بعضها بلا رابط أو علاقة منطقية.. استمر العذاب إلى أن جاءني صوت ناعم يؤذن لصلاة الفجر.. غابت معه كل الكوابيس وتبخرت الأصوات.
استيقظت صباح الغد على صوت شخير مرتفع يشبه نعيق غراب. خاااق. خاااق. خاااق. خاااق. رتيب لا ينقطع. فزعت حين فتحت عيني.. الساعة تشير إلى التاسعة والنصف وبضع دقائق. كنت شبه عارية باستثناء غطاء خفيف يستر عورتي.. مضت لحظة قبل أن أتذكر أني لجأت لهذا الركن من الصالة ليلة أمس، بعد أن أفرغت أمعائي، استلقيت حسبما اتفق على الزربية الحمراء لأستريح. تذكرت نزاعي مع جمال، قبل إحساسي بدوار ثقيل. لم أتمكن من نزع ثيابي. ربما أكون تملصت منها أثناء الليل بفعل الحرارة المرتفعة. وربما بفعل الكوابيس أيضا.. كانت المفاجأة الكبرى أني رأيت الأستاذ المصري نائما بالصالة غير بعيد عني. صدره عار بشعره الكثيف مثل قرود الغوريلا.. كلما تنفس يفتح فمه ليخرج الهواء ومعه يرتفع نخيره وشخيره. تتراقص شفتاه محدثة صوتا قبل أن يتنفس بعمق ليطرد الهواء بعد ذلك بنفس الطريقة.. أحسست بالتقزز من متابعة أنفاسه.
ما الذي جاء به قربي في هذه الصالة؟ ألم يكن معتادا على النوم في غرفة خاصة منذ حل ضيفا على جمال؟ هل وقع شيء ما حين نمت؟ أين جمال؟ فكرة خطيرة هجمت علي بغتة.. فزعت وأنا أتخيل أني قد تعرضت لحالة ****** ربما.. وهذا الوحش الذي يغط في نومه جني، هل بلغت به الوقاحة أن يتحداني لعلمه أني لا أتوفر على حجة أو دليل اثبت به الجريمة؟ لماذا لم يكلف نفسه الانتقال لغرفة النوم بعد أن ذبحني وقطع أوصالي؟
حاولت الجلوس حيث أنا فشعرت بألم فظيع في رأسي وظهري ومؤخرتي. تلمست إليتي فلم أعثر على التبان الذي كنت أغطي به جزءا منها. نصف حمالة الصدر والنهدين يطل علي من تحت الوسادة.. حاولت الوقوف بعد أن أدخلت عجيزتي في التبان، وثبتت حمالة النهدين على صدري.. صادف كفي نقطة لزجة كالغراء اللاصق.. شممتها فإذا بها تذكرني بروائح لم أتبين كنهها ولا أين شممتها من قبل. في الحمام تأملت ظهري في المرآة. ثمة بصمات داكنة مطبوعة على خصري وأردافي. كما لو أن أصابع قوية تحكمت بي تعصرني وتركت بصماتها هناك. كانت بقع لزجة تيبست قرب ركبتي اليمنى.. تذكرت حبة الأسبرين، والمرحاض ودوخة الرأس ثم غيبوبتي المفاجئة.. لم يبق لدي لأدنى شك أن جمال وأستاذه افترسا جثتي بغير إرادة مني.. ترى هل فعلها وحده أم...؟ مجرد تخيل أستاذه يحسسني برغبة في الغثيان. هل يكون الخالق تعالى قد هداني بهما إلى سراطهما المستقيم؟ الألم الفظيع في شرجي يؤكد لي أني سقطت في يد عصابة حقيقية تتشح بالوقار..
فتحت باب الحمام مسرعة لأبحث عن جمال.. كنت طامعة في إقناعه لعله يعترف لي وينقد نفسه من السقوط اللانهائي نحو القاع. لم أجد له أي اثر في البيت.. لعله هرب من مواجهتي. يبيعني ويهرب. لم أستغرب من سلوكه لأن الذي يبيع أمه وإخوته يستطيع بيع نفسه لو طلبت منه.. وبماذا يمكن تفسير تصرفه، ألم يقل إنه قد لا يعود من رحلته؟ توقعت أن يكون خارج البيت لشراء الحليب أو الخبز. انتظرت نصف ساعة لكنه اختفى بدون تفسير. كان حضرة الأستاذ يغط في النوم رافعا الشخير والنفير. ألقيت نظرة على حديقة الثكنة العسكرية. كان الجو معتدلا والشارع هادئ على غير العادة.. لبست ثيابي كيفما اتفق مستعجلة ثم أغلقت الباب بقوة ارتفع صداها في جنبات العمارة كلها.
في طريق العودة نحو بيتنا أجهشت باكية.. تنفست بعمق وأنا أمشي، علني أتخلص من الغصة التي تكاد تخنقني. الخيانة والغدر شيء لا يحتمل، خصوصا من الأقربين.. أمر مؤلم أن تأتيك الطعنة من شخص تحبه وتطمئن إليه. لسنين طويلة بعد ذلك، كنت كلما خطرت بالبال ذكرى تلك الحادثة، أبكي وأكاد أنفجر.. لو كنت في ذلك الوقت أعرف "ميلان كونديرا" لتخيلت أني عشت حفلة تفاهة على مقاسي. كل شيء بدا لي تافها بلا معنى.. أليست قمة التفاهة، كما يلمح كونديرا، هي أن تعيش بدون علمك قصة لا يصدقها العقل؟ حتى أني، لكي أتملص من المسؤولية وأطرد الحقد والضغينة، فكرت لو أن جمال راودني عن نفسي بلطف وأدب، لربما كنت سأتفهم وأسامح.. ربما كنت سأفكر في صناعة ذكرى فريدة تجعلني أستلذ كلما ذكر اسمه أمامي أو خطر بذهني.. سيما بعد أن علمت أنه راحل بلا عودة. لسوء الحظ أنه فضل المراوغة والغدر.. تساءلت كيف يمكنه أن يعيش بعد فعلته، وهل ما زال بشرا يحس بتأنيب الضمير أم أنه ودع الإنسانية كلها طمعا في جواز المرور لجنة يحملها أستاذه المصري في جرابه. لا شك أنه كان متحمسا ليحصل منه على الرضى والتزكية.. ربما اعتبرها تضحية لتأكيد استعداده وإخلاصه.. كل الحجج مقبولة إذن حتى لو طلبوا منه ذبح ابنة خاله.. لا يعرف المسكين أن هذا يسمى استغلالا وقوادة لا يمكن إقحامها، في أي ملة في ركن الإيمان، كدليل على الامتثال الأعمى.. في الأخير انتهيت إلى قرار عملي.. لا بد لي من دفع جمال للاعتراف بالجريمة قبل أن تعود أمي من السفر.. لا بد أن أستخرج ما تبقى لديه من الأحاسيس والمشاعر العائلية، بأي شكل كان ولو بالضغط والتهديد. ليس ضروريا أن أزوره بالليل. سأعود لزيارته غدا خلال النهار، وسيكون لي معه حساب عسير.. أراحتني الفكرة رغم أني لم أتبين ساعتها كيف أتصرف لتحقيقها...
خلال النهار وأنا ممدودة جوار مسبح الفيلا، حاولت عبثا الاتصال بأسماء لعلها تفيدني فيما يمكنني فعله.. بالطبع سوف أخبرها بما وقع.. لكن هاتفها للأسف لا يرد.. كررت الاتصال مرارا دون جدوى.. لعلها مسافرة إلى مكان ما خارج عن التغطية. لا شك أن جمال يظن أني لا أملك الشجاعة الكافية لأشتكيه أو فضحه. يعتقد أني ما دامت أمي غير موجودة، فإني لن أتجرأ للاقتراب من أبي.. ما زالت الصورة القديمة لأبي عالقة في عينه وذاكرته.. ما زال معتقدا أن أبي لا يهتم بي ولا يفكر سوى في مصالحه.. يظن أن القطيعة بيني وبينه قائمة، وحين تعود أمي في الأسبوع القادم يكون هو وأصدقاؤه قد غادروا بلا رجعة.
ابتسمت وأنا أتخيل صدمته حين أخبره أني لن أشتكيه لأحد، وأني قادرة على الانتقام وحدي.. لن يكون الرد عنيفا كما قد يتخيل.. فكرت طويلا كي أهتدي لانتقام من نفس طينة عمله.. سأبلغه أنه من السهل أن أباشر الاتصال بالسلطات، لأن أستاذه الكبير هارب من العدالة. ولأنه يستضيف شخصا مطلوبا للعدالة، بتهمة ثقيلة.. شخصا يتجول بأوراق مزورة. يمكنني التقدم ضدهما بواسطة رسالة من مجهول مع تقديم المعطيات الكافية، بما فيها عنوان الشقة التي تطل من أعلى على ثكنة عسكرية. هذا سيعقد الوضع أكثر ويعجل تدخل الشرطة الوطنية.
بهذه الطريقة سأحصل منه بسهولة على اعتراف كامل بكل التفاصيل الممكنة. سأضغط عليه خصوصا كي يفسر لي إن كنت مخدرة بلا إحساس نهائيا، أم أني تفاعلت بطريقة ما، وما هي ردود فعلي عندما تمت الجريمة الشنيعة. هل شارك أستاذه أيضا أم يتحمل وزرها وحده؟ حتى أمي يجب ألا تعرف شيئا عن القضية كي لا تنتقم من أمه، وقد تحرض والدي وجدي ضد أسرته بكاملها.. سمعتها مرات عديدة عندما يحدث أي مشكل بسيط، تلعن وتقول : "هؤلاء لم يأتنا منهم سوى المصائب السوداء".. تعتبر كل أسرته، خاصة بعد أن أبعدها أبي عن جمال، قوما منافقين يبحثون فقط عن منافع محدودة، ينقلون أسرارنا لغيرنا.. حتى أخي، صارت تنصحه بالابتعاد عن سفيان رفيق عمره المقدس.. هؤلاء لا ذنب لهم.. ولست أدري ما يجب فعله إن اعترف لي جمال. ماذا علي أن أفعل لو اعتذر؟ هل أتركه يرحل؟ مع ما في رحيله من خطورة عليه وعلى عمتي؟ وماذا لو افتضح الأمر ولم يكتب له السفر، حين تعلم عمتي وأمي أني كنت مطلعة على تفاصيل ونوايا جمال قبل أن يفتضح؟ في النهاية قررت الاستمرار في ثوب البراءة والسذاجة وأن أتصل صباح الغد بالمعني بالأمر، وليحدث بعدها ما هو مقدر ومكتوب..
ركبت الرقم على صفحة الهاتف وانتظرت الرد:
= صباح الخير جمال...
= صباح الخير نورا، كنت أنوي الاتصال بك لأطمئن عليك.
= ولماذا تريد الاطمئنان علي؟ هل أنا مريضة دون علمي؟
= لأني خرجت أول أمس من البيت باكرا... تركتك نائمة ولم أودعك
= هل يمكن أن أراك اليوم؟
= طبعا... متى؟
= بعد ساعة من الآن...
كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحا. سكت قليلا يفكر ثم قال....:
= ولم الاستعجال؟ أفضل كالمعتاد أن نلتقي في بداية المساء
= في المساء أنا مشغولة. إنتظرني بعد ساعة في المقهى المقابل لبناية البريد.
= لكنك تعلمين أني قاطعت المقاهي واقسمت ألا أرتادها من جديد..
= إسمع.. لا بد أن تجلس معي بالمقهى لآخر مرة في حياتك وبعدها قرر ما تشاء... ثم قطعت الخط دون انتظار الجواب.
لبست ثيابي وخرجت فورا من البيت.. نويت الذهاب للمقهى ماشية لأستفيد من الجو الصباحي اللطيف.. بعد حوالي نصف ساعة، بلغت الهدف. اخترت الجلوس في زاوية مظلمة بعيدا عن مدخل المقهى، تجنبا لعيون وآذان الفضوليين. مكان صالح للأحاديث والمناقشات الطويلة الساخنة دون خوف.. بعد قليل أطل وجه جمال.. رفعت يدي وحركتها لأثير انتباهه. حياني وجلس. حاول مباشرة العودة لموضوع الجلوس بالمقاهي، لكني أوقفته قائلة:
= دع عنك هذا المنطق الغريب، فهو منطق لا يناسبك.. المفروض فيك أنك تدرس العلم وستتخرج طبيبا، أي لك صلة وطيدة بالمنطق والتجربة والخبرة.. وإلا أجبني كيف ترفض التردد على المقهى، في الوقت الذي تغتصب فيه ابنة خالك وتخدرها دون أن تحس بالذنب أو الحرج؟
في لحظة، تغيرت ملامحه رغم كوننا نجلس في زاوية مظلمة. أحنى رأسه وبدا أنه لم يكن ينتظر مني مثل هذا الهجوم المباغت. غمس وجهه بين كفيه وهو يتكئ مرتبكا على مرفقيه. أحسست به يتضاءل كأن عضلاته وجسمه الطويل تتبخر في العتمة.. ساد صمت مريب لبضع لحظات.. بعد قليل استرد جزءا من وعيه. بدأ يتمتم ويتعتع بدون معنى
= إذا سمحت...هذا إن تعاملت مع... بدم بارد... في صالحك لو... قاطعته:
= على مهلك، تريث في الكلام. خذ نفسا عميقا وحاول أن تبعد عنك كل ضغط. لقد حضرت هنا لا لتأنيبك أو مخاصمتك.. جئت ألتمس منك أن تشرح لي بهدوء وبتفصيل ممل، كل الذي حدث.. يعني أني لست غاضبة، ولا أود معاتبتك.. فقط كن صادقا وعاقلا وأخبرني بالحقيقة..
= طيب... لقد ارتكبت أخطاء فادحة عندما حكيت للمصري، المسمى محمد محمود الشعراوي عن كل أحوال العائلة. تصوري أنه استطاع إقناعي بأن الجماعة لا تعتبر أمثال خالي وعائلته الصغيرة مسلمين، بل شياطين كفرة. وطبقا لذلك فإن التلاعب بهم، والاستمتاع بنسائهم حلال، بل أجره كبير في الدنيا والآخرة.. هو باب من أبواب الجهاد المقبول عند الباري عز وجل.. كنت وإياه قد اتفقنا على استدراج أمك إلى الشقة بأي طريقة لتأديبها بنفس الطريقة، لكن سفرها المفاجئ أفسد الخطة. وعندما التقيناك بلا موعد ذلك المساء، فسر الأستاذ الموضوع بأنه قدر مكتوب، هدية من السماء قبل الرحيل، وأقنعني أن نتخذك بديلا عن أمك.
= يعني بكل بساطة، أنت الآن تعترف أن اغتصابي تم منكما معا؟
= هو كذلك
= وأنك بكل بساطة قبلت لعب دور القواد بالمجان...
= .........
= لماذا لا تجيب؟ قل لي أين ذهبت كرامتك وشهامتك المعروفة؟ مسحها الأستاذ بكلمتين لا أكثر.. كيف تتنازل بهذه السهولة عن شرف ابنة خالك لأول شخص غريب، مقابل وعد لا يضمنه لك أحد؟ هل ترغب في الجنة على حساب أسرتك؟ ما هو الجزاء الذي به أقنعك؟
= .... آآآه، لقد أدخل في روعي، أن الأمر ما دام فيه نضال وجهاد فلا حرج علي... بل هو أحسن دليل على كفاءتي واستعدادي لبذل الغالي والنفيس...لبلوغ مرتبة أسمى و...
= بل قل إنك قبلت التضحية بي لضمان الحصول على ما وعدك به من منحة وانتقال للدراسة ببريطانيا وغيره.. المهم أكمل. كيف نفذت الجريمة؟
= بعدما أخضعني لجلسات عديدة لإقناعي، شعرت أنه تحكم في كل أعصابي. صرت بين يديه مثل شخص منوم، أنفذ أوامره بحذافيرها بلا قدرة على التفكير... رسم الخطة.. أعطاني حبيبات للتخدير أو التنويم.. قال لي إن من يتعاطاها يفقد السيطرة على أفعاله. مفعول الحبة مضاعف.. تخدر الأمعاء وتخفض من حساسيتها وتفرغها من كل ما فيها بسهولة، هذا زيادة على إلغاء أي شعور بالألم.. من يتناولها يشعر بدون وعي بكل الذي يحصل له، لكنه لا يستطيع التقرير أو التحرك... يحس فقط ولا ينطق، يستجيب طوعا لغرائزه الفطرية.. بكامل إرادته.. يصبح كالخاتم في أصبع من يأمره... وهو ما حدث لك بالضبط..
= يعني أني كنت أحس بكل الذي تعرضت له، وأنا فاقدة للوعي..
= تماما. بل تتفاعلين بشكل ميكانيكي. شخصيا اعتقدت أنك في أتم درجات الوعي، وأن الخجل وحده أسكتك... كانت لك استجابة وردود فعل تتجاوب بأريحية... ومن شدة تفاعلك، قال لي بأن أحد أدوار الأسبرينة هو إبعاد رقابة الدماغ، حتى يسمح بانفجار الغرائز المدفونة... هي حبوب تستعمل في الطب النفسي لتجنب الكآبة المرضية وإبعاد فكرة الانتحار عن المرضى. لولا وجودي معه لكنت اليوم فاقدة لبكارتك.. من شدة تأثره بتفاعلاتك الإيجابية..
= كأني أشاهد فلما هنديا.. أيكما باشرني في البداية؟
= صراحة، أنا الذي نزعت ثيابك بما فيها الداخلية وماسكة الصدر والنهدين.. أما هو بمجرد أن شاهدك عارية، حتى تحول إلى شيطان رجيم لا علاقة له بالرجل الفاضل الذي أقنعني مسبقا. اختفى العلم والوقار والجزاء والعقاب وظلت الغرائز وحدها تشتغل بحرية مطلقة...
تأملك لحظة طويلة حتى انقلبت عيناه. اختفت بؤرة البصر تحت الجفنين ولم يبق ظاهرا منهما غير البياض. أدركته رعشة مباغتة.. تذكر أنه لم يتوضأ فذهب مسرعا للحمام. عاد مسرعا وأطرافه يقطر منها ماء الوضوء. صلى ركعتين كأنه يودع جنازة ميت، أو سيضحي بكبش فداء.. ثم تربع قريبا من جسدك دون أن يلمسك. أصابته موجة انفعال طارئة قوية جعلته يترنح ويرمي ثيابه بعيدا وهو يلهث ويتنفس بصعوبة.. خلت أنه سيختنق. بدا عليه أنه غير مصدق ما يرى، كأنه لم يلامس قط أنثى في حياته.. كأن السماء أنزلتك قربانا أو هدية ثمينة في تلك اللحظة.. توقعت أنه سيدخل في غيبوبة، أو أنه مريض بداء الصرع... الغريب أنه طلب مني أن أفعل مثله سواء بسواء، كنوع من الشكر. التمس مني أن أتأمله بانتباه قوي، ثم انكفأ بوجهه وشفاهه ولسانه على ظهرك وصدرك.. يبدأ زحفه من الأذنين نازلا إلى الرقبة والكتفين ثم فقرات العمود إلى قصعة الظهر عند منبت الأرداف. كان يأمرني أن أصعد إليه عابرا قدميك وربلة الساقين والركبتين ثم الفخذين إلى كمال دائرة الردفين. نلتقي في نقطة مركز الجسد ثم نعيد الكرة مرارا. كنت سأنفجر مستغربا شدة صبره وغرابة طقوسه.. ألح على مزيد من البخور فاستجبت لطلبه.. قال أن الإطالة ضرورية للتعبير عن التقدير لنوع وقيمة الهدية، مضيفا كطبيب عارف، أن الصمود يقوي الصبر ويساعد على التحكم في القذف.. سرح بأصابعه تعقيصة الشعر ونشر جدائله حتى غطت الكتفين وجزءا من الظهر.. ثم أعاد نشره على الوسادة ليبرز له ظهرك وعمودك الفقري، لامعا كجوهرة ضائعة.. دس أنفه وسط الخصلات. شم عطرها وتمتم كلمات لا معنى لها.. فجأة قام وهو يحرك رأسه واتجه للحمام ليغسله بصبيب ماء بارد.. عاد دون أن يجفف رأسه.. كان في يده مراهم وعلبة من زيت السمسم. صب منها قليلا على فقرات ظهرك من العنق إلى الردفين، على شكل خيط رفيع. أطفأت النور ولم ينطفئ نور ظهرك الذي حافظ على بريقه تحت نور متسلل من النافذة...
سمعته يسألني والحيرة بارزة في حركاته:
= أنت متأكد أنها ما تزال بكرا؟ فكرت بدوري لحظة، لكني خفت أن يجره ترددي إلى التأكد بنفسه، أجبت بارتباك
= بالتأكيد.. لا مجال لأي شك..
عندئذ أفرغ نصف قنينة من زيت السمسم قريبا من الإليتين وجعل يدفع الزيت بلسانه نحو الأخدود.. ثم سألني ثانية
= هل أنت على يقين أنه ليس لهذه المحمومة سوابق، لا يبدو الأمر كما تدعي.. هل عندك بيض؟
استغربت لطلبه.. فلما أجبته بنعم، التمس مني أن أسلق واحدة جيدا وأحاول تبريدها بسرعة بوضعها في الفريزر.. في انتظار عودتي قلبك على ظهرك. صار وجهك وصدرك أمام عينيه. بدأ يكرر ما قام به على الظهر. توقف طويلا عند الصدر والنهدين حتى عدت إليه بالبيضة المسلوقة. أخذها مني وجس حرارتها وهو يشرح لي الغرض:
= ستنفع هذه في توسيع الخرم حتى لا نجني عليها وقد أكرمتنا بحضورك المبارك.
لم يتوقف عن الحركة وهو يتحدث. أعاد تمديدك على بطنك. فسح فجوة ما بين الردفين ليضع البيضة في المكان العلوم. تركها لحظة وبدأ يحرك الردفين صعودا ونزولا ويضربهما ببعضهما، يمنعها من السقوط أحيانا بلسنه، استمر هكذا حتى تعودت البيضة على المكان وكادت تغيب في أحشائك، فقام بسحبها. صب ما تبقى من السمسم على ظهرك ومد بعدها كفه ما بين الفخذين ليوقف تسرب الزيت نحو الفراش.. من هذه اللحظة بدأ جسمك يستجيب ويتفاعل. لم يبق علينا بعد ذلك سوى الضياع في حدائقك الغناء استجابة لنداء الطبيعة، حتى ارتفع أذان الفجر يدعونا للصلاة والصلاح.
= كنت أحسبك أسدا تحمي العرين يا جمال.. كم خدعتني يا جمال.. ألهذا القدر افترسوا مخك؟ دعنا الآن من المحاسبة. هل تستطيع أن تتدبر لي بعضا من تلك الحبيبات؟ بعدها سأعرض عليك اقتراحا ستنقذ به ما تبقى لك من الشهامة، أتمنى أن تقبله بلا مشاكل.. وإلا..
= سأحاول، لا أريد أن تحتفظي عني فقط بالذكريات السيئة. ابتسمت وركزت نظري في عينيه، ثم أجبته:
= على كل حال، إن صدق ما تقول، فهي ليست سيئة مائة بالمائة. هل تحدد موعد السفر؟
= نعم. صباح الأربعاء بحول **** وقوته.
= عجيب، في نفس اليوم ستعود أمي
= أتمنى من كل قلبي أن أتمكن من توديعها. لي أمل كبير أن احتفظ منكما بذكريات أفضل تكون لي خير زاد في الغربة..
= أنا أيضا أتمنى ذلك. قل لي.. كم تستمر فعالية وتأثير تلك الحبيبات؟
= تقصدين حبات الأسبرين؟) قالها مبتسما( ... بالنسبة للمرأة ما بين أربع إلى خمس ساعات على أكبر تقدير، أما الرجال ففي الأقصى لا يتعدى ثلاث ساعات، لم السؤال؟
= خطرت لي فكرة سوف تعجبك. أشرح لك الأمر فيما بعد. الآن إلى اللقاء وإياك أن تنسى الحبيبات. ربما أزورك غدا بعد العشاء.
= مرحبا في أي وقت.. أرجو أن تغفري لي زلتي.. إلى اللقاء
الجزء الخامس
افترقنا عند منتصف النهار... لم تكن لي رغبة للعودة إلى البيت.. عبرت الشارع على مقربة من فندق كبير لا أذكر اسمه. كنت أعرف أنه في ملكية شخص قريب من معارف الأسرة.. عبرت الشارع ثم قدمت نفسي لدى قسم الإرشادات.. بعضهم تعرفوا علي ورحبوا بي.. صادفت وجود برامج تسلية وتنشيط فانغمست في بعضها لأنسى جو جمال ومشاكله.. توجهت لقاعة الأكل لتناول قطعة جبن مع بعض الفواكه الباردة ثم خرجت للمسبح بعد أن استعرت منشفة مع شورت قصير وحمالة الصدر للسباحة.. استمتعت كثيرا بفقرة الرقص الشرقي، وتمارين الرياضة المائية.. عدت بعدها متعبة للبيت بعد غروب الشمس بقليل..
في صباح اليوم الموالي، صادف أن كان يوم أحد، نويت الاتصال بجمال، غير أن والدي أيقظني باكرا ليطلب مني عدم مغادرة البيت، خصوصا عند منتصف النهار والظهيرة.. كان عنده ضيوف محترمون حسب قوله.. حيث قرر استضافة اللقاء الأسبوعي لقيادة الحزب. أخبرني بجدول أعمال اللقاء كتمرين في حالة ما إن رغب أحدهم أن يفتح معي الحديث... سيدور النقاش حول موضوع " المبادرة الوطنية للتنمية البشرية". وهو المشروع الذي كان الملك، قبل سنوات قد ألقى في شأنه خطابا توجيهيا مهما، لذلك كان من الضروري أن تبدي كل الأحزاب كالعادة ترحيبا وتقدم رأيها مطلع كل عام مصحوبا بمقترحات تسعى لإدراجها في البرنامج الوطني للمبادرة. معبرة بالمناسبة عن كامل التنويه والاستعداد للمساهمة في تنفيذه، سواء من الموقعين الوطني أو الجهوي...
تذكرت حسب التجربة، أن نقطة بداية مثل تلك اللقاءات من السهل معرفتها، غير ألا أحد بوسعه تخمين زمن الانتهاء منها. معظم من يحضرون اللقاء في الحقيقة، يتخذون المناسبة فرصة سانحة لتسوية حسابات وبرامج أخرى، قد لا يكون لها أدنى علاقة بموضوع الاجتماع المعلن.. كلفني أبي بتقليد ما تقوم به أمي عادة في مثل هذه الظروف. كنت متخوفة أن يتلاشى إصراري على تنفيذ ما عزمت على فعله، لو تركت اجتماع والدي يأخذ كل طاقتي. لهذا اتصلت بجمال لأعتذر له ملتمسة منه تأجيل لقائنا إلى الغد.. شعرت بحرج لأني كنت أعتمد على أمي في كل شيء تقريبا.. سيكون علي أن أبحث عن قفطان أو أكثر أرتديه لاستقبال الضيوف والترحيب بهم.. اللباس النسائي التقليدي يعتبر في عرف الضيافة من مؤشرات كرم الأسرة. هذا اللباس يتعبني ويضايقني كثيرا خلال الصيف، لولا أن أبي يلح علينا، أنا وأمي خصوصا، أن نحترم طقوس الاجتماع ونتهيأ له بكل ما لدينا من طاقة وزينة ومظاهر مثيرة.. يجب علي إذن الاستجابة للطلبات سواء رغبت أو رفضت. أريد تحسيس أبي بأني أهتم بتوجيهاته بعد أن تغيرت تصرفاته معي.. لا بد إذن من تزيين وجهي والاتصال بالمطعم الذي كلفه والدي بإطعام ضيوفه.. شركة الحراسة أيضا يجب ألا أنساها. هناك دائما أشخاص يحبون الإساءة لغيرهم، يتحينون أي فرصة للتعبير عن وجودهم. عندما سألت أبي عن مدة الخدمة اللازمة قبل الاتفاق مع الشركة، أجابني بضرورة أخذ ما يكفي من ساعات العمل، وأن علي تمديد الزمن إلى ساعة متأخرة إلى حدود منتصف الليل..
من الضيوف الذين قدمني لهم والدي، هناك شخص مهم بالنسبة للأسرة.. كان لفترة زمنية وزيرا لكنه اليوم مجرد برلماني.. ما زال طامعا، حسب أبي في العودة من أبواب غير منتظرة للوزارة بفعل موقع والد زوجته، وموقعه في الحزب كذلك. هو أيضا محام في الأصل. حيث ما زال مكتبه مكلفا بقضايا شركة مقاولات البناء والتعمير التي أنشأها أبي بمعرفته وتوجيهاته.. ظل يرعاها ويسهر مع أمي وأبي على نموها وازدهارها.. كان منصبه كوزير، يمكنه من الحصول للشركة على مشاريع عمومية في البداية قبل أن يشتد عودها وتنطلق بأجنحتها الخاصة إلى أسواق واعدة كثيرة.. حضر معه ابنه "إلياس" الذي لي به معرفه من قبل.. عائلة الأب موجودة في نفس مدينتنا.. تعتبر أسرة الوزير، خاصة جد الفتى "إلياس" من جهة الأب، من أقرب أصدقاء جدي.. كان أب الوزير قد جاء مباشرة بعد تخرجه من مدرسة المعادن بالرباط، مسلحا بتوصية وساطة، من أحد معارف جدي في الرباط، ليتدخل لصالحه لدى بعض معارفه في المركب الكيماوي التابع للفوسفاط، هنا بآسفي. كان محظوظا لأنه قبل بدون مشاكل. كان عليه أن يستقر في بيت جدي مدة شهرين مع أسرته ريثما يتسلم العمل. حصل بعد ذلك على بيت للسكن تابع للمركب الكيماوي.. صارت والدته من أقرب المقربات لجدتي، تشاركها في نشاطها الخيري مع عدة جمعيات.. إثر حصوله على شهادة البكلوريا سافر الوزير للرباط لمتابعة الدراسة في كلية الحقوق. حين تخرج توسط له جدي لدى شخصية هامة ساعدته على افتتاح مكتبه في وسط المدينة غير بعيد عن قبة البرلمان. وما لبث بعد نجاح مكتبه أن تزوج ابنة هذا الشخص وبقي في الرباط إلى اليوم.. وقد تسربت أخبار أنه كان قبل زواجه قد وقع اتفاق بين الأسرتين أن يتزوج أمي، لكن هذه قصة طويلة أخرى سوف أحكيها فيما بعد.. أما إلياس ابنه، الذي يكبرني بأربع سنوات تقريبا، فقد حافظ على زيارة جده وجدته خلال عطلة الصيف والربيع.. سبق لي أن التقيته عند جدي في إحدى ورشات الخزف.. كان يحمل باستمرار تحت إبطه كتابا. لا أذكر أني رأيته صفر اليدين. مرة سألته مازحة عن أنشطته، فرد علي بأنه يمارس رياضة الجري ويذهب بين الفينة والأخرى للسباحة بالبحر، لكنه يفضل القراءة ويرافق جده، خصوصا عندما يخبره أنه ذاهب لزيارة جدي..
اغتنمت فرصة حضور "إلياس" ذلك اليوم مع أبيه لأتعرف عليه أكثر.. كان كعادته يحمل معه كتابا.. سألته:
= كيف تتصور أنك ستجد المناخ الصالح للقراءة في جو صاخب كهذا؟
= أولا لم أكن أتصور أني سأعثر على جو من هذا الصنف، ثانيا أستطيع دائما البحث عن مكان يتيح لي الفوز بلحظة هدوء في جهة ما.. وهذا يكفي.. ثم إني استفدت بما يكفي خلال رحلة السيارة، وهي فرصة تتيح لي التهرب بأدب من كثرة أسئلة الوالد وتعليقاته المستفزة.. أجابني.
= هل يمكن أن أعرف نوع الكتب التي تثيرك أكثر.
طرحت عليه السؤال وأنا أفكر في نوعية كتب "أسماء"، التي ابتليت بها حتى صارت تشتت تركيزي..
= لا تنسي أني طالب في السنة الثالثة حقوق.. هذا يفرض علي قراءة كتب ذات صلة بالدراسات القانونية والاقتصادية والسياسية، لأن دراسة الحقوق تتطلب تكوينا شاملا في مختلف العلوم الإنسانية.. وأنا أنوي بعد التخرج الاشتغال في مكتب الوالد كمحام متدرب..
= إذن أناديك ابتداء من اليوم بحضرة المحامي؟ قلت هذا وأنا اضحك.
ابتسم، وتقبل الدعابة. عندما سألني بدوره عن نوعية ما أقرأ. خجلت من الرد لأنه أفحمني.. هل أخبره أني أقرأ بعض الروايات الغرامية، وأني أقلعت عنها منذ بدأت أسماء تزودني بكتبها النادرة المستفزة؟ أو أعترف له أني لا أعرف إلا أسماء كتاب ضيعوا أوقاتهم في تفسير ما لا يفسر، أجاهد كي أفهمهم باستمرار، من أمثال أحمد بن يوسف التيفاشي، وعلي بن نصر، ونصر الدين الطوسي، والنفزاوي.. والسيوطي، والتيجاني وغيرهم كثير فيما يعرف بتراث العرب في مجال الأدب الجنسي؟ قلت له كاذبة:
= ليس عندي كتب مفضلة.. أقرأ ما أستطيع الحصول عليه، روايات بالخصوص
= مثل ماذا لو سمحت.
تذكرت بعض الأسماء التي مررت منها سابقا.
= قرأت لمحمد عبد الحليم عبد ****، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي وعلي أحمد باكثير وآخرين نسيتهم منذ مدة.
= كلنا بدأنا بقراءة هذه النوعية، أظن بالتأكيد أنك بعد حين ستنتقلين لنوع جديد.. فكري في يوسف إدريس ونجيب محفوظ وصنع **** إبراهيم وعبد الرحمن منيف، وغسان كنفاني، وجبرا إبراهيم وغيرهم كثير.. هذه الأسماء ستنقلك للوعي والمعرفة الحقيقية بالواقع العربي الحالي وقضاياه العميقة..
انتقل الحديث بعد ذلك بيننا لمواضيع أخرى.. أعجبني كثيرا أن أستمع إليه ينتقد حزب أبيه وأبي بكل حرية.. ضحكت في الحقيقة، لأنه كان يعبر بكلماته عن مشاعري بالضبط.. أول مرة تصلني ذبذبات ترسلها مصطلحات لم أعرفها سابقا.. كان متمكنا من ألفاظه كأنه صحفي كبير.. قبله لم أكن أميز ما بين هذا الحزب أو ذاك.. لمست من حديثه نوعا من الاحتقار لحزب والده لأنه سماه بالحزب الإداري، وحين سألته عن المعنى، قال لا داعي للتوضيح الآن.. ستعرفين الفرق بنفسك مع الزمن.. لا أخفي أن فكرة استشارته فيما وقع لي مع جمال وصاحبه راودتني بقوة.. ترددت حين قدرت خطورة الأمر.. خفت أن يغير رأيه بي إذا رويت له قصتي معهما.. مجرد تصور وقع الحكاية عليه جعلني أشعر بفداحة الأمر.. ربما سأجعله يحتقرني أو على الأقل، سيشفق علي. فرحت عندما توقف الحديث بيننا قبل أن يغادر صحبة والده. ترك حضوره أثرا واسعا في نفسي.. وعدني أن نبقى على اتصال بعد سفره..
قبيل منتصف الليل بقليل، اتصلت بجمال لترتيب الخطة المتفق عليها بيننا.. وجدته نائما فاعتذرت.. قال إنه يلجأ للنوم باكرا منذ أصبح يستيقظ لأداء فريضة الفجر. أخبرته أني ساهرة بطلب من أبي.. لم أرد تضييع الوقت مخافة النسيان.. سألته عن حبيبات الأسبرين فأخبرني ضاحكا أنها معه في جيبه.. سألته إن كان أطلع صاحبه على الحديث الذي دار بيننا، فطمأنني قائلا بأنه ليس عبيطا إلى هذا الحد.. نبهته بعد هذا إلى أن كل شيء في الخطة يتوقف على مدى قدرته أن يحفظ السر ويتمسك بالصمت القاتل.. طلبت منه أن يكون طبيعيا كعادته، ويتصرف كأن شيئا لم يقع.. أخبرته أني سأقوم بتحضير العشاء وألتمس من الأستاذ أن يمتعنا بما لديه من العلم.. سأحضر بعض الأسئلة عن المرأة في الإسلام وغير ذلك لكي أحسسه بأني ساذجة.. وأني أسعى لحتفي بيدي.. سأجعله يطمع في ليلة ثانية من الجنة الحقيقية التي على الأرض... بعدها لها مدبر حكيم.. اعرف ما علي فعله بدقة.. يكفي أن تكون يا ابن عمتي هادئا وسيتم المشروع كما نحب.. سنذيقه من سموم جرابه.. السن بالسن والبادئ أظلم كما يقال...
سألني عما سيحصل بعد ذلك.. اجبته ببساطة، لا شيء.. سنتفرج عليه نائما يغط في صحرائه.. ونضحك قليلا، ثم يذهب كل منا إلى سبيله مطمئنا مرتاح البال.. سألني كيف سيكون موقفه معه حين يصحو؟ أجبته أن عليه أن يتصنع النوم بدوره. قلت له: دعه يوقظك معتقدا أنك تناولت مثله نفس الحبوب المعلومة.. دعه يعتقد أني انتقمت منكما معا. وإذا سألك كيف حصلت على حبات الأسبرين منك، اعترف له أنك ارتكبت خطأ إطلاعي على مفعولها، وأنني توسلت إليك كثيرا بحجة أني سوف أستعملها مع أسماء ابنة خالي من باب التسلية لا غير..
أجابني مستغربا:
= كم أنت خطيرة فعلا.. لقد فكرت في كل شيء.... أجبته:
= كن حذرا.. عليك توخي الحذر ما أمكنك.. لا بد أن ننجح وإلا تأكد ألا أحد منكما سيسافر يوم الأربعاء.. ثم أغلقت الخط.
كان ثمة إجراءات تفصيلية أخرى أخفيتها عن جمال.. لم أر من المفيد إخباره بالتفاصيل حفاظا على حظوظ تطبيق الخطة كما تخيلتها.. التفاصيل ستجعله يحس بارتباك وتدخله في تخوفات كنا في غنى عنها. قد يضطرب ويثير الشكوك في نفس صاحبه.. كنت عازمة أن أطبع عبوري في ذهنية أستاذه حتى يغير نظرته في الأنثى المغربية على الخصوص.. حرصت على وضع مقص حاد وآلة حلاقة كهربائية وبيضة مسلوقة، في حقيبتي اليدوية.
لم أنم جيدا تلك الليلة. ظل ذهني متحفزا يستعرض فصول الخطة خطوة خطوة.. حتى أني وضعت بدائل عديدة في حال لم يطاوعني جمال أو تردد في تنفيذ ما يؤمر به.. اكتشفت أن نقطة ضعف السيناريو هي أني كنت مترددة بين تنويم جمال أو إبقائه في حالة صحو كامل... صراحة أن ما شرحه لي جمال جعلني أضعف وأحن لتجربة أخيرة مع جمال، ولن يكون قادرا على شيء لو نومته.. تذكرت تجاربي السابقة مع أخيه سعيد وخامرتني رغبة انتقام منه ومن نفسي.. ليس لدي أي شخص مضمون مثل جمال أعيش معه تجربة تستحق الذكر.. سيما بعد معرفة أنه سيسافر مباشرة، وأنه لن يلتقي أحدا من الأسرة لتتاح له فرصة فضحي.. ستكون أول وربما آخر تجربة فعلية حقيقية واعية.. هذه الفكرة خطرت لي لفائدة إبقائه في صحو ويقظة.. ورغم التردد إلا أني فضلت عدم تنويمه في انتظار مشاعري ساعة تنفيذ الخطة..
تعلق فكري بحكاية البيضة المسلوقة على الخصوص.. كان هناك صوت قوي من داخلي يتحمس لإعادة ما سمعته وأنا بكامل الوعي والإحساس.. ستكون تجربة فاصلة. إما أن تنتصر علي أسماء أو أقتلها بداخلي إلى غير رجعة.. إما أن أقفز من ترددي إلى الإيمان بحظي من المتعة، أو أسقط دونها في هاوية النسيان مطمئنة للصبر، منتظرة ما يجود به الزمن علي من احتمالات.. نفس الصوت المتحكم بي، زين لي أن أستثمر غيبوبة الأستاذ إلى أبعد ما يمكن.. لا أدري بالضبط كيف، لكني سأجد لا محالة وسيلة للذهاب بعيدا في الانتقام. كانت تلك أول مرة أشعر فيها بحرارة جسمي بهذا الشكل... كنت راغبة في الاستسلام الكامل بدون أي احتياط أو رقابة كيفما كانت..
لن أخفي هنا، أني حاولت في ليلتي تلك اجتياز تمرين مماثل عساني أكتشف مدى صحة ما سمعته من جمال... زاد التفكير من استثارتي وتحميسي.. لكني قاومت واكتفيت بالخيال.. عندما خارت قواي أستسلمت للراحة حتى أدركني النعاس...
حين اقتربت ساعة الذهاب إلى الموعد، هيأت نفسي وجسدي بما يناسب الخطة. ارتديت جلبابا بلون أزرق فاتح. عليه من جهة الصدر والرقبة والأكمام زركشات أندلسية بلون أزرق داك.. كان الجو شديد الحرارة، ولهذا لم اضع تحت الجلباب شيئا تقريبا.. اكتفيت بحاملة النهدين، وتبان أحمر نصف شفاف، وفوق الكل سروال جين ضيق يحاصر مؤخرتي ويعكس بإتقان كل الدوائر والانحرافات والأقواس على جسدي. كنت متحمسة لاكتشاف خفايا الأنوثة المدفونة الغائبة عني.. أترقب بالأحرى كيف سيكون تأثيرها على شاب رياضي، تكاد تسحبه أفكار معلمه بعيدا عني إلى غير رجعة.. كنت شبه مغيبة، كأن نفسي تسبقني لما سيأتي، أو كأني أتفرج على حياة فتاة أخرى تشبهني وتعرفني وأنا أجهلها. أحس مسبقا بما هي عازمة على فعله وأكتفي بمتابعتها كشاهدة، أسير غير مصدقة، وغير شاعرة بما يدور من حولي... أخيرا وصلت أمام الباب.
هاجمتني نفس الرائحة.. العطر والبخور نفسه.. فتح لي جمال الباب وكاد يقبلني.. تفاديت مصافحة وجهه وحييت الأستاذ من بعيد. رد على تحيتي دون أن يرفع رأسه. كان يرتدي جبة واسعة ناصعة البياض ويغطس لحيته ورأسه بين صفحات كتاب. بدا أنه غارق في جوه الخاص.. يمشط بين حين وآخر شعر لحيته بكف يمينه.. كل شيء يبدو عاديا وأنا متوجهة نحو المطبخ..
وضعت حقيبة يدي جانبا فوق كرسي لتبقى قريبة مني تحت ناظري.. لحق بي جمال الذي بدا أكثر اطمئنانا مما تصورت.. حركاته تعكس أنه وثق بي وصدقني. بحركة سريعة مستفسرة من عيني، أسرع بإخراج ورقة ملفوفة مدها لي وهو ينظر نحو باب المطبخ متوجسا. أمسكتها وأسرعت بإخفائها في جيب السروال.. كان بها حبتان فقط..
شرعت مباشرة في تحضير العشاء. كنت ألتحق بهما بين الفينة والأخرى إلى الصالة.. خيل لي أن الأستاذ ظل ينظر لي بجانب عينه ويبتسم.. باغتته يحك غير متعمد تحت صرته.. لعله يستعجل أو يحضر نفسه لخوض معركة بعد الطعام.. حاولت بصعوبة تهدئة أعصابي.. كنت خائفة أن أتهاوى وأفقد التحكم في توقيت الخطة.. كان يجب علي البقاء في قمة التحفز واليقظة.. لا ينبغي أن أعطي انطباعا خاطئا يفضحني. التسرع والرغبة في الاستعجال وحرق المراحل قد يؤدي إلى توجس الأستاذ ويفشل خطتي.. طلب مني كأس ماء بارد، فتساءلت فورا عما إن كان علي اغتنام الفرصة، والإسراع بوضع حبة الأسبرين في الكأس، رغم أن الطعام لم ينضج بعد. وضعت أمامه كأس الماء، وتجرأت لأسأله:
= منذ التقيت حضرتك يا أستاذ وأنا أستغرب بيني وبين نفسي، كيف لطبيب جراح مثلك أن يستغني عن مهنته النبيلة هاته ويتفرغ كفقيه لأمور بعيدة عن تخصصه..
أجابني مبتسما:
= أليس التفقه في الدين أحسن وأكثر اجرا عند الخالق سبحانه من كل المهن الأخرى؟ أجبته بسرعة وأنا أستدير عائدة للمطبخ:
= بلى.. ولكن لمهنة الطب أجرها الذي لا يبلغه إلا المؤمنون الصادقون، أما الفقه فثمة كثير من الفقهاء من حولنا.
سمعته يغمغم بكلمات لم تصلني كاملة ولم أسع لفهمها.. كنت فقط راغبة أستفزه وأثير أعصابه.. كنت موقنة من خلال مرافقة جدي أن المؤمن العاقل خير من المؤمن الجاهل، وأن التساؤل لا يتعارض مع الإيمان.. أحسست أني أزعجت حضرته بأسئلتي. عرفت مقدار انفعاله عندما عدت للصالة مرة ثانية. باعتني بسؤال فضح حالته:
= هل الطعام جاهز؟ لا تنسي أن وراءنا أشغالا كثيرة.. ثم عاد لكتابه دون انتظار أي رد مني.. تركته وعدت للمطبخ.. بعد فترة وجيزة ناديت على جمال.. لأسأله عن بعض التفاصيل:
= ما هو رأيك؟ هل أصب الطعام في إناء واحد مشترك بيننا أم أصبه في أطباق فردية مباشرة؟
= كما يحلو لك، ولو أن الأفضل أن تضعيه وسط المائدة وتتركي لك واحد حرية التصرف على قدر احتياجه.
= نعم الاختيار... سمع الرد واطمأن على مستوى الملح في الأكل ثم عاد مسرعا لصاحبه.
مباشرة، قلت لنفسي، هاهي فرصة أخرى قد اقتربت.. أخرجت لفافة الورق واخترت منها حبة. سحقتها تقعر كأس فارغة.. صارت مسحوقا أبيض مثل الدقيق.. كنت قد أعددت سلطة مغربية، عبارة عن فلفل مشوية مخلوطة بالطماطم والثوم المفروم، ومخللة بزيت الزيتون وقليل من الكمون.. صببت منها معالق كبيرة في ثلاثة أطباق ثم وضعت المسحوق في أحدها وحرصت على تذويبه بالكامل مع السلطة... حملت طبقين أولا إلي مائدة الصالة. عدت للمطبخ لاصطحاب الطبق الثالث، ولم أكد أرجع للصالة حتى وجدت الأستاذ قد ابتلع طبقه.. مد لي الإناء فارغا وقال مازحا:
= لذيذ مثل صاحبته.. هل من مزيد لو سمحت؟
هاهي الطريق أصبحت سالكة بعد ارتفاع العرقلة الأولى.. لم يبق أمامي سوى القليل.. علي أن أسرع حتى لا ينبطح الأستاذ قبل إتمام الطعام... استحليت فرص استفزازه ونويت أن أعيد الكرة.. لدي أسئلة كثيرة عن معاملة المرأة في الإسلام، ورأي الفقه والشرع في أمور عديدة تهم الحياة الراهنة للمسلمين، مثل وضعية النساء وتعليمهن ولباسهن وحقوقهن وعن تعدد الزواجات، وحق المرأة في طلب الطلاق حين تسوء المعاملات مع الأزواج.. وغير ذلك من الأسئلة التي تشغلني كمراهقة لم تدخل الحياة بعد.. غير أن رياح الاستعجال عصفت برغبتي في سماع رأي الشيخ المحترم.. تنفست بعمق وأنا أتذكر المهم من وجودي في المشهد، كان يجب علي التركيز والاستعداد لما تبقى من الخطة قبل كل شيء آخر.
الجزء 6
لم تمض سوى بضع دقائق حتى بدأ الشيخ يتثاءب ويفرك عينيه.. قام للحمام دون استئذان.. فتح الحنفية وترك الصبيب البارد يغمر عنقه ورأسه.. عاد والماء يتقاطر من لحيته، لكنه لم يلبث سوى لحظات قليلة حتى عاد إليه التثاؤب، شرع جمال نفسه يقلده ويتثاءب مثله إمعانا في تطبيق الخطة المتفق عليها... مع هذا سأله جمال للتأكد عما ألم به. أجاب بأنه شعر فجأة برغبة طافحة في الاسترخاء ولهذا سوف يتمدد قليلا ريثما تجتازه الرغبة ويعود لكامل صحوه ويقظته.
جمعت رفقة جمال كل الأطباق. رتبناها حيث كانت بالمطبخ. دار بيني وبينه حوار غريب أثناء ذلك، عددت له تفاصيل ما أخفيت عنه من قبل. كان مصباح الشارع ومصابيح أخرى ناصعة البياض في فناء معهد البعثة المقابل تنير الشقة بكل وضوح.. قلت في نفسي لا داعي إذن لاستهلاك مزيد من الطاقة.. انعكس الضوء القادم من الخارج على ظهر جمال فبان جسده مثل كتلة ضخمة مظلمة تحيط بها هالة منيرة. كان علي أن اتأكد أنه سوف يبقى في صفي يساعدني إلى نهاية المطاف.. مهما تكن المهمة التي أكلفه بها. بدأنا أولا بإطفار أنوار صالة الجلوس.. ثم نزعنا ملابسنا وتعاونا على تجريد الشيخ من جبته وتبانه. حاول جمال أن يصدني عندما أخرجت من حقيبتي المقص وألة الحلاقة.. بدأت أشذب لحية الشيخ وجزءا من شعر عانته.. قال جمال إنه يتخوف أن يكتشف الأستاذ ضلوعه في المسرحية.. ضحكت من تخوفاته دون أن أتوقف..
عجبا لتفكير مثل هذا.. يعتبر حلق اللحية والعانة جريمة واغتصاب فتاة من العائلة أمرا عاديا، بل جهادا موعودا بجزاء إلهي...
قلت له لا عليك. ستقص أنت أيضا لحيتك بإرادتك كي لا يشك فيك.. ثم إنها لا تناسب شكلك.. بهذا الشكل لن يشك أحد في إخلاصك له ولجماعته. قلت له: " أمامك خيار واحد، إما أن تفعل أو ألجأ للفضيحة.."
عندما أنهيت عملي، أعطيته الآلة ليباشر العمل على وجهه وعانته.. في انتظار إكمال ذلك، انشغلت بأمور أخرى.. من بينها التمعن في أسلحة الشيخ وأدواته المخفية عن العيون، تلك التي ينجز بها جرائمه في الأرض.. بدا لي عضوه في الظلام مثل قنفد شائك يحاول التخفي وسط الأحراج.. التفت نحو جمال أحذره:
= أسرع عملك.. لا تنس أني مرتبطة بموعد مع سائق التاكسي الذي أحضرني.. لم يبق أمامي سوى ساعتين. عند منتصف الليل تماما سأغادر.. إن كنت حريصا على إكمال الليلة سليمة بدون مشاكل فما عليك سوى أن تعجل العمل.."
قلبنا الشيخ ليصبح ممدودا على وجهه. حان وقت الظهر والردفين. تناولت البيضة وركزتها في المكان المطلوب بعد أن غطستها في زيت الزيتون.. تلاعبت بها بيدي حتى أوشكت أن تختفي بداخله حينئذ سحبتها وطلبت من جمال أن يعوضها بقضيبه.. لكنه تراجع خائفا مستغربا من طلبي. أصر على الرفض رغم إلحاحي فلم يبق أمامي سوى إخراج حبة خيار من الثلاجة.. قمت بدفها في استه بهدوء ورفق مكان البيضة. تحرك الشيخ مهتزا كأنه يحاول تخفيف ألمه الطارئ.. كانت حركته مباغتة قوية حتى كادت أن تسقطني.. كنت جالسة فوق فخذيه.. أمهلته كي يعود لهدوئه السابق.. نظرت نحو جمال فإذا به ما زال يرتعش خائفا.. كان يمكسك وجهه المحلوق بين كفيه، فمه شاغر يتفرج مستغربا غير مصدق ما يرى.. سمعته يقول هامسا " ... ويلاه ...ماذا سأقول له غدا عندما يصحو ؟" قلت له مجيبة عن تساؤله : " لا شيء... لن تقول له شيئا لأنك قبل أن ينطق ستزعم أنك تحس بألم في شرجك، هذه الخيارة ستبقى هنا ليتأكد من سلاح الجرم.. لا تدعه يشعر بأنه تعرض وحده للعنف والاغتصاب"
تناولت البيضة وغسلتها ثم بللتها من جديد بالزيت.. توجهت إلى جمال مبتسمة، وأنا أقول له:
= ما رأيك في هذه؟ هل ستحتاج إليها لتصالحني ؟
استلقيت أمامه على وجهي.. لكنه فضل جلب بعض المراهم والزيوت المقدسة.. سبق أن طلبت منه تدليك ظهري بنفس الطريقة التي يسحر بها أمي.
بدأت حصة التدليك من العنق.. أحسست جسدي يتمرد ويهرب عن سيطرتي.. لم أتعود مثل هذا الذل والاستسلام من نفسي.. أنامله وكفه ومرفقه تتجول فوقي حرة بلا رقيب.. كأنه يقود في جسدي دمي حيث يريد. ينزلق برفق ولزوجة . توقف طويلا عند مستوى الكليتين.. تغير الحال حالما بلغت أصابعه الردفين وما بينهما أصابتني رعشة خفيفة.. عندها توقفت كفاه وعوضهما بلسانه.. ألحت علي في الحين خواطر وصور وذكريات.. نزل لسانه ساخنا مباشرة فوق فتحتي فاهتز جسدي للنداء.. تمنيت لو أستطيع دفع لسنه إلى الأسفل ما وراء الفتحة ..أحسست كأننا نسير على شاطئ البحر.. ثمة أمواج غير بعيدة قادمة متوسطة الارتفاع والامتداد... تلامس نهاياتها أقدامنا قبل أن تتلاشى مخلفة بقعا وفقاعات بيضاء.. كلما أوغل اللسان راسما حدودي أو منزلقا أحس أني أحتل شيئا فشيئا مكان أسماء في قمرة المركب المتأرجح.. نعتلي متن موجة شاهقة ثم ننحدر فوق سطح هادئ.. نلتقط أنفاسنا لحظة ثم نمتطي الموجة القادمة، نغوص بعدها في أحشاء البحر المعتمة.. شعرت برجة عنيفة عندما بدأت الأمواج تترادف قوية متسارعة... ثمة ثقل هائل يحميني من التأرجح والسقوط والغرق.. أزحت كف جمال عن صدري حيث كانت تعصر نهدي.. وضعتها فوق جبهتي.. تذكرت قوة علال وهو يجر بعنف رأس أسماء ليلصق بها حوضه حتى يتماهى فيها ويكاد يختفي. أشرت على جمال أن يجذبني من الشعر بقوة . شعرت أنه بكامله يبحر داخلي.. شهقت وتوقف تنفسي.. جحظت عيناي ولم أستسلم بعد.. تراجع حتى ألتقط نفسي ثم أعاد الكرة حتى خرجت روحي مني ثم عادت بشعور لذيذ.. دقات قلبي تنبض بقوة متوالية متصاعدة.. شق المركب سطح البحر وغاص رأسه إلى نصفه تحت الماء حتى خلت أنه سيسحبنا معه إلى الأعماق.. عاد المركب لتوازنه وأنا أسرق أنفاسي قبل أن يغوص من جديد.. ساد من حولنا صمت قاتل فجأة وسط ظلام البحر فهدأ المركب يستريح ونصفه تحت الماء.. كنت أحس بشئ غريب داخلي يتنفس وينفخ مثل أنابيب الإطفاء ماءه بقوة كأنه يطفئ ناري.. ثم خيل لي أن أنوارا بعيدة تنادينا فأغمضت عيني كمن أصابته صعقة كهربائية لم تقتله.. لا أدري كم مر علي من وقت وأنا على تلك الحال من الغفوة والغياب... تحركت أخيرا لأزيح جمال عن ظهري فقبلني بحنان وهمس في أذني :
= كم أنت رائعة يا نورا...
كانت تلك أول مرة أعيش فيها، بكامل وعيي ، مع رجل حقيقي. وقد كانت للأسف تجربة مطبوعة بمقاسات عالية.. كثير من المحاولات التي عشتها بعد ذلك في حياتي لم تبلغ نفس المستوى من الإثارة.. كان جمال يملك جسما نموذجيا بكل ما فيه.. ورغم أنه كان مثلي مبتدئا في استعمال يده ولسانه وباقي أطرافه إلا أنه قطع أشواطا محترمة في ممارسة سحره... وعوض أن أحتفظ من الذكرى بما هو رائع وجميل، اكتشفت أنها ستغدو عائقا أمامي في كثير من التجارب التي سيكتب لي أن أعيشها من بعد.
قلت له وأنا ألبس ثيابي:
= للأسف أنك ستسافر.. كان بوسعي أن أجد فيك معلما بارعا في نهاية كل أسبوع.. لا تنس أن تبقي الشعر المقصوص كله موزعا ومشتتا في الصالة، وكذلك حبة الخيار.. إذا شعرت أنه يصحو، لا تتسرع.. تصنع الإغفاء حتى يوقظك هو.. بهذه الطريقة لن يتهمك بشئ... سوف يقتنع بأنكما معا ضحيتي.. مع السلامة الآن. أتمنى لك كامل الحظ في السفر...
قبل نهاية نفس الأسبوع، تمت إذاعة إعلان عبر مختلف وسائل الاتصال.. أعلن من خلاله عن خبر إلقاء القبض في مطار مراكش، على عصابة دولية تتاجر في ترويج العقاقير والحبوب المهلوسة، وهناك شكوك حول علاقتها بتهريب البشر واستقطاب مقاتلين في صفوف منظمات إرهابية.. تتخذ أميرا لها إمام مصري سابق يزعم أنه طبيب.. وقد كان ابن عمتي جمال ضمن المعتقلين.. حيث ظل رهن الاعتقال لمدة قاربت الشهرين إلى أن تم التأكد من عدم وجود أي صلة بينه وبين هذه العصابة قبل إخلاء سبيله..
عادت أمي من السفر في مساء نفس اليوم الذي اعتقل فيه جمال مع العصابة.. بعد يومين فقط جمعت حقائبها.. استنتجت أنها كانت على موعد مع عدد من أصدقاء الوالد مصحوبين بنسائهم. كانوا جميعا متفقين على قضاء عطلة أسبوعين على متن باخرة إيطالية يزورون خلالها عددا من المدن الساحلية، ويمضون معظم الوقت داخل البحر... كان المحامي ضمن المسافرين، وبدا انه العنصر الوحيد الذي لم ترافقه زوجته. كما أنه العضو الوحيد المصاحب لوالدي من شلة الحزب..
اغتنمت بدوري الفرصة لأتصل بإلياس ابن المحامي لألتمس منه الحضور.. كنت أنوي أن أعرفه بأخي وسفيان ابن عمتي وسعيد وأسماء ابنة خالي.. كانوا كلهم لحسن الحظ قد عادوا من سفرياتهم، حتى علال كان حاضرا.. وبدلا من مطالبتهم باللحاق بي إلى مراكش حيث كنت مع إلياس، اقترح علي هو أن نستعير سيارة أمي ونلحق بهم إلى مدينة آسفي.. كان يود أن يستعيد بعض ذكرياته فيها، ويتعرف على الجديد ويستفيد من البحر والأسماك الطرية وخاصة السردين في نفس الوقت.
في أول يوم كادت جرأة. إلياس أن تفسد الجو وتؤدي إلى معركة طاحنة.. لأنه لم يستطع إخفاء إعجابه بأسماء، بل ظل يحاول مداعبتها وحرص عدة مرات خلال السباحة أن يثير فضولها ويجرها إلى قاع المسبح.. وهو ما أغضب علال وأثار غيرته فانقلب اللقاء بينهما في أول يوم إلى خصومة ساخنة.. تدخلنا جميعا لتهدئة الوضع وإبرام الصلح بينهما، وأرغمنا إلياس على الاعتذار.. كان يعنبر جرأته مجرد إعجاب وقال إنه لم يخطر بباله نهائيا أن. يتحرش بها أو يستفزها.. كان ينوي المداعبة وخلق جو مرح لا غير.. وقد كان من أعجب الأمور أن هذه الخصومة السريعة سرعان ما انقلبت إلى مودة وإعجاب متبادل، مما جعل المثل القائل أن كل مودة قوية لا شك شبقتها خصومة قوية.. هكذا الأنداد يعرفون بعضهم ويفوزون من بين الكل بمحبة حقيقية لا تزول..
صار كل منهما يقدر الآخر، خصوصا بعد أن علم علال أن والد إلياس محامي وأن إلياس نفسه لم يبق أمامه وقت طويل كي يصبح بدوره محاميا متدربا.. قضينا بقية الأيام في نقاشات طويلة حول أوضاع البلد وخاصة بسبب الاحتجاجات التي يقودها الشباب في الشهور الأخيرة من عام 2010 وكذا في التسلية والاستمتاع ببعضنا البعض.. أقمنا جميعا ببيتنا باستثناء علال، الذي كلفناه بتمويل اللقاءات بما تيسر من السمك الجيد على مختلف اشكاله.. حيث كان يبقى معنا لفترات متقطعة بعد أن استقرت مشاعره من ناحية إلياس وبدأ يطمئن لإخلاصه وجديته..
في اليوم الثالث اصطحب علال معه أحد أصدقائه المقربين، واسمه عبد الصمد، وهو يعمل كسائق بالميناء وسبق لأسماء أن حدثتني عنه بإسهاب، محاولة أن تقدمني إليه كهدية ساذجة عندما كنت أشتكي إليها عجز سعيد وفشله وتقصيره العاطفي معي..
كانت أسماء وسفيان وأخي على أعتاب السنة الأخيرة بالثانوي، لهذا اقترح علينا إلياس أن ندرج عددا من المواضيع الحساسة ضمن نقاشنا الجماعي.. كان من بينها مسائل لم أستوعبها حينئذ لا أنا ولا سعيد.. واستغربت من علال وعبد الصمد السائق البسيط، اللذين كانا يتجرآن على خوض النقاش والمساهمة فيه بأفكار يتولى إلياس تهذيبها وترجمتها بلغته لتصبح مقبولة ومستساغة.. كان يهنئهما على بعض الاقتراحات وعلى مستوى الفهم.. باختصار صار إلياس في نظري مثل قائد أوركسترا يضبط إيقاع الكلام ويوضح الغموض وينتقل ما بين الجد والهزل كي لا نمل.. كانت له قدرة هائلة على جعل فضولنا لا ينقطع ولا يدب إلينا الملل، كما لو أننا نلعب ولا نناقش أمورا جدية..
ضحكت مرار عندما يتدخل عبد الصمد أو علال في النقاش، معتبرة أن طريقة تعبيرهم ليست سليمة ولا مقنعة.. لكن إلياس قال لي بأن مسألة الشكل أو طريقة التعبير ليست هي الهدف من النقاش بل المهم هو الفكرة.. ثم يحول نفس ما قيل إلى جمل منمقة بتعبير يضمنه مصطلحات فيصبح الكلام ناصعا واضحا وذا مغزى.. قال إلياس مفسرا التحول بأن معرفة هذه الأمور تأتي من باب التجارب الفردية في الحياة وليس من المستوى الدراسي، لأننا لا ندرس كل شيء وخاصة مثل هذه المواضيع.. فنحن سواء دارسين أو أميين نعيشها فقط ونصادفها ونتعامل معها.. لا نحتاج للدراسة لنختبر الحريات الفردية مثلا.. ولا نحتاج لها لنفهم العقائد أو نتكلم عن المرأة عموما في علاقاتها الزوجية أو علاقاتها مع الأصدقاء أو في كيفية لباسها وهل من الضروري أن تنفذ ما تسمعه من أمها بحذافيره وتطيع الأوامر بدون جدال.. ليس ضروريا أن تتزوج بحسب ما يختاره أهلها.. ونفس الشئ عندما يتعلق بشرفها أو سمعتها.
ومما أثارنا جميعا حديثه عن حرية المرأة في ممارسة الجنس حتى قبل الزواج.. معتبرا أن ذلك ضروري لأنه يساعدها على اختيار الشخص المناسب.. هذا إن أحبت طبعا وليس بصفة مطلقة، ليس تجربة من أجل التجريب فقط.. لأنها ليست سلعة تستغل وتلقى على الرصيف.. فالمهم من هذا أن تعرف المرأة أنها حرة وأن جسدها لا يملكه أحد إلا بإذنها، وهي تسلمه لزوجها حين تحبه وحين يتعامل معها بتفاهم ومودة، لكنه أبدا لن يتملك جسدها بصفة إلزامية مطلقة.. كنت أعتقد أن من حق الرجل على زوجته أن يضاجعها متى شاء فجاء إلياس، مشروع المحامي القادم ليقول العكس.. قال لو ضاجعها الزوج بدون رغبتها فهذا عنف يدخل في باب الاغتصاب والتعدي على الحرية..
غير أن ما لم يرقني تماما هو تهجم إلياس وعلال على الأحزاب والحياة السياسية بشكل عام... اعتبرت مواقفهما عبثية وعدمية كما يقول إلياس نفسه عن أمور أخرى.. شعرت كما لو أنه يحسد والدي أو يطعن في جهوده ومشاريعه وعمله.. لكنه ذكرني بأن أباه أيضا معني بالنقد أكثر من أبي بحكم المناصب التي احتلها سابقا أو بحكم المهنة.. وأن البلاد لا تتحمل مزيدا من الانحلال السياسي والتسلط الاقتصادي والاستغلال الممنهج ولا مزيدا من القضاء على القيم الوطنية وغير ذلك من الكلام الذي لا أفهمه كله..
بعد قضاء أسبوع كامل مع الشلة قررت العودة صحبة إلياس إلى مراكش، حيث ودعني في اليوم الموالي عائدا للرباط.. بقي الاتصال بيني وبينه، ومع بقية الشلة بواسطتي قائما، إلى أن استدعانا إلياس بعد شهور لزيارته بالرباط..
صادفت عودة أبي وأمي من الرحلة البحرية موعد انتهاء التحقيق مع جمال.. نقلوه إلى السجن من مفوضة الأمن، فأصبح من الممكن زيارته للاطمئنان عليه. كان والدي، كعادته مصرا على منعنا من الزيارة رغم إلحاح عمتي وأمي عليه.. ظل يردد أنه متأكد من انتماء جمال لجماعة ذات نزوع إسلاموي، وأن مسيرة حياته وتعليمه قد انتهت عند هذا الحد.. أحسست عندها أن الاعتقال أراح أبي، لأنه يوفر له حجة دامغة، لو تحققت، لتبرير معاداته لجمال.
حضرت عمتي المسكينة باكية مصحوبة بابنها سعيد وحضرت أسماء وسفيان وأخي.. حاولنا كلنا إقناع والدي بضرورة الصبر حتى تتضح الأمور أكثر.. لأن التهم غير ثابتة وأن من الواجب على كل أفراد العائلة أن يزوروه لرفع معنوياته والدفاع عنه إلى النهاية، وإلا فإن الناس والمعارف سوف يستغربون، وقد ينقلب الوضع إلى عداوة مع عمتي فيما لو أثبت التحقيق التفصيلي براءة الولد... في الأخير قبل أبي تحت الضغط، في حين طلبت أمي من المحامي، والد إلياس أن يتدبر المسألة، وينوب عن جمال فيما تبقى من مساطر وإجراءات قضائية.
كانت عمتي تائهة لا تعرف ما تصنع ولا تكف عن البكاء ليل نهار.. أما سعيد فقد بدا مصدوما، تعكس ملامحه رعبا غير طبيعي كأنه عضو في منظمة سرية يخاف أن يفضحه أخوه أثناء التحقيق. كان يردد ببلاهة سؤالا لا معنى له أمام الجميع. هل سيعتقلوني معه؟
تغير لونه إلى الاصفرار رغم الصيف وحرارته. طغت أخبار المجموعة على محطات الإذاعة والتلفزة وكل وسائل الإعلام الأخرى.. اشغلت الأسرة بكاملها فيما تبقى من أيام العطلة بهذه الأخبار.. حتى الهاتف لم يتوقف عن الرنين صباح مساء.. بعض الخبثاء اغتنموا الفرصة ليكيدوا لوالدي، وبعض المنافسين يتربصون به للانقضاض على مرتبته ومنصبه في المكتب السياسي للحزب..
بعد أيام أخبرنا المحامي بأن الملف فارغ بالنسبة لجمال، وأنه بالتالي على الأرجح سوف تحكم النيابة العامة لصالحه بعدم المتابعة. وهي منزلة بين البراءة والإبقاء على مراقبته من باب الاحتياط والتشكك. أما باقي الملف، فإن المحاكمة ستنتقل إلى البيضاء لعدم الاختصاص... وقد تم هذا بالفعل بعد حوالي شهر ونصف.. ومن حظ جمال أن أطلق سراحه قبيل انطلاق الموسم الدراسي فالتحق بالكلية صامتا مهزوزا.. ظل مطرقا برأسه يخفي عني عينيه كلما سألته أو نظرت إلى وجهه. حاولت زيارته في الشقة لمعرفة تفاصيل ما حصل بالضبط، غير أنه ظل يراوغني إلى أن عدت بدوري إلى الدراسة بمدينتي.
الجزء رقم 7
في طريق عودتنا، أنا وإلياس، من مدينة آسفي إلى مراكش، خطرت لي فكرة خبيثة مفاجئة. سادت بيننا لحظات صمت باردة، وانهمك كل منا يفكر أو يتأمل.. كان الوقت قريبا من ساعة الأصيل.. بدأ الظلام يهاجم الساحات الشاسعة والأشجار القليلة المتناثرة هنا وهناك من الجهة التي نتجه إليها.. في مثل هذه الساعة تمتلئ الطريق بحافلات النقل بين المدينتين هربا من شمس النهار القائظة.. كان إلياس يسوق بتمهل شديد رغما عنه، مع هذا ظل هادئا دون أن يفقد أعصابه.. تأملت قسمات وجهه وبعض حركاته.. يبتسم بلا مناسبة ويحرك رأسه بين حين وآخر كأنه يتابع بداخله نغمات خفيفة غير مسموعة..
مددت يدي اليسرى فوق كتفيه كما لو أني فجأة أنوي معانقته.. في نفس الوقت راودتني رغبة جامحة أن أقبل خده.. كان رد فعله أنه التفت نحوي بنظرة سريعة مبتسما وعاد يركز نظره على الطريق. لأول مرة منذ عرفته أتساءل في داخلي: " كيف لم يخطر ببالي أبدا أن أتقرب أكثر من هذا الشاب الوسيم المهذب والمجتهد؟ سبع سنوات فقط تفصل بيننا.. يزورنا متى شئت.. يقضي ليله ونهاره بجواري، يسبح ويتجول في شوارع مراكش معي.. شاب مكتمل العقل والرجولة.. راجعت كل الأفكار والمناقشات التي اقترحها، وكل ما استفدناه منها.. لكن كيف لم يخطر بباله أن يستغل هذه الظروف ليتحرش بي؟ كيف سمح لنفسه أن يداعب أسماء ولم ينتبه لي، مع أني أجمل منها قواما وأحلى شكلا ومعاشرة؟ وكيف بي لم أفكر أن أراوده عن نفسه؟
فكرت طويلا في الأمر وأنا أنظر إليه معجبة بصمته ورزانته وهدوئه.. كان من الوارد جدا أن أغرم به لو بقي بجواري لمدة أطول.. لكن قبل هذا، يجب أن اعرف لماذا لم يحصل ما تخيلته.. هل أسأله عن السبب؟ حين فعلت اكتفى بالضحك لحظة، ثم بدأ يقطر الجواب في شكل كلمات متباعدة متقاطعة.. بدا كأنه متردد فيما يقول، أو كأنه غير واثق أصلا بكلماته وغير مقتنع بها. سمعت منه أفكارا غريبة لم أسمع بمثلها من قبل، أو على الأصح، لم أتوقع سماعها من شخص قريب مني مثل إلياس.
قال إن الفرق بيني وبين أسماء، أنها بلغت سن الرشد.. بينما أنا لم أتجاوز سن الطفولة بعد، وهذا يترتب عنه أن الخوض في مواضيع العشق والجنس معي يعد جريمة يعاقب عليها القانون.. وأنه باعتباره طالبا يدرس الحقوق والقوانين، فإن اقتراف جريمة كهذه يعرضه لظروف التشديد، أي يضاعف من العقوبة التي قد يحصل عليها.. وليس هذا فقط. فهو أصلا منع نفسه من تجاوز الحدود لكونه مرتبط بحب فتاة من حيهم، تدرس معه في نفس الكلية، تقاربه في السن، ومن غير المعقول أن يفاتحني في موضوع الحب وهو بعيد جغرافيا عن مكان إقامتي، ولذلك سيتعرض لتأنيب الضمير مباشرة لو خولت له نفسه القيام بأي مغامرة معي.. فضلا عن كونها لو حصلت ستبقى مجرد مغامرة بدون مستقبل وهذا سلوك بعيد عن الاحترام ومسئ لكرامتي، كما قال.. إلخ
لهذا، فضل أن تبقى علاقتنا في حدود صداقة بريئة نقية، بعيدا عن أي لحظة ضعف أو استهتار من شأنه أن يفضي بنا للندم. في النهاية، قال إنه عموما لن يقبل لنفسه أبدا أن تدخل في مغامرة غرامية مع أي فتاة لا تربطه بها علاقة حب حقيقية متبادلة، شريطة أن يسمح لها السن القانوني بذلك..
ساد الصمت بيننا من جديد. دخلت السيارة في ظلام دامس.. كانت الأضواء تسمح برؤية مساحات بسيطة أمامنا. بدأت أفكر في كل الذي سمعته من إلياس، وتوزعت مشاعري بين القلق والسخط ومحاولة تفهم وجهة نظره.. عادة في مثل هذه المواقف يرفض العقل تصديق ما سمعته الأذن لأنه في الداخل لا يرى أي لذة أو مصلحة فيما وصل إليه حتى ولو كانت كل الحقيقة ساطعة من خلال الكلمات. أغمضت عيني وألقيت برأسي على زجاج النافذة المجاور.. ترى ما الذي كنت سأسمع منه لو علم بقصتي مع جمال وأستاذه.. هل كان سيحترمني كما يفعل الآن؟ ربما كان سيحرضني على رفع شكاية ضد ابن عمتي وصاحبه، خصوصا بعد أن علم بخبر الاعتقال.. انتقل تفكيري إلى تفاصيل ما عشته مع جما أياما قليلة قبل اعتقاله.. تنهدت بعمق دون أن أفتح عيني، وسرعان ما أدركني النعاس... أيقظني إلياس لأفتح باب البيت عند الوصول إلى مراكش.. اعتذرت وذهبت مباشرة لغرفتي بينما فضل هو أن يستحم في المسبح ويستعد للسفر في صباح الغد..
منذ أن حدثني جمال عن الميول الشبقية لوالدتي، أصبحت كثيرة الشك والانتباه لتصرفاتها.. لم أكن من قبل اعير أي أهمية لطريقة لبسها، أو لنظراتها ودلالها.. كنت أفسر الميوعة الزائدة والتغنج بحب الأنثى وغريزتها، ورغبتها في الظهور ولفت الأنظار فقط.. وكان مما زادني شكا وارتيابا في تلك الصورة التي تكون عليها، أنها تبالغ بصفة خاصة عندما يزورنا المحامي، والد إلياس...
تعرف أمي بالسليقة والحاسة النسائية كيف تبرز نقط قوتها.. ترمي سروال دجين الذي ترتديه عادة أثناء العمل أو التسوق، لتعوضه بتنورات قصيرة تبرز جمال فخذيها وساقيها.. تفك الرباط الذي يجمع شعرها خلف الرأس في شكل ذيل حصان، لتحرر خصلاته الثائرة خلفها كالأمواج، سابحة تغطي القفا والأذنين.. الشئ الذي يعيدها عشر سنوات للوراء.. تحرر صدرها من الحمالة كي يتراقص النهدان الثابتان عند الانحناء.. وترفع صوت ضحكتها مجلجلا في الفضاء كأنها تسعى لإثارة الانتباه من كل الحاضرين..
اهتمام أمي بمظهرها يذكرني بجدتي السويدية الأصل، التشابه الكبير بينهما مثير حقا.. لون البشرة ولون الشعر والعينين كأمهما شخص واحد، مما يجعلها تبدو مثل ضيفة قادمة للتو من إحدى دول الشمال الأوروبية. كنت سمعت بعض الإشارات عن علاقة قديمة كانت تربطها بالمحامي قبل زواجه... كان ما يزال ضيفا في بيت جدي، قبل أن ينتقل إلى الجامعة ليحصل على إجازة في القانون ثم يتحول بسرعة إلى المحاماة.. هي قصة حب فاشلة كان لها أعمق الأثر في كل العائلة بسبب تنكره لوعوده.. لهذا لم يكن اعتناؤها المبالغ فيه بمظهرها يثير شكوكي، لأني اعتبرت تصرفاتها مجرد رغبة في التذكير والانتقام ورد الاعتبار للذات الجريحة..
في فترة التحقيق التفصيلي، إثر عودة أمي وأبي من رحلتهما البحرية، تم توكيل محامي شركة الوالد، بإلحاح من أمي، لمتابعة التحقيق والدفاع عن ابن عمتي جمال.. ظهرت في أسرتنا بوادر نزاعات قوية ومسموعة بين أبي وأمي حول الموضوع.. كان أبي كعادته غير مهتم ولا واثق بمستقبل ومصير جمال، لهذا لم يوافق على توكيل محامي الشركة للدفاع عنه، أو هذا ما استنتجته من خصومة المستمرة مع أمي.. ربما حدث الخلاف بسبب اضطرار المحامي للتردد على بيتنا طيلة شهرين تقريبا.. إذ كان يحل ضيفا علينا ثلاث مرات كل أسبوع.. خلال هذه الليالي كلها تعود البيت على طقوس جديدة كل مساء.. تعقد فيه جلسات طويلة بعد العشاء. تستمر المناقشات بحدة حول نتائج التحقيق في قضية اعتقال جمال، ثم ينتقل الحديث لمواضيع تتعلق بمختلف أنشطة الشركة، وببعض الذكريات الجميلة حين كانت البراءة والود يحلقان في أجواء العائلتين..
وما يكاد الحديث يبلغ حدا من التكرار، حتى تنزل على الطاولة كؤوس الويسكي والبيرة على الأشكال.. يسمح لي أن أفض سدادة زجاجة أو اثنتين ثم يعلو صوت أبي يأمرني بمغادرة الاجتماع، بحجة أن السهر يفسد صحة وأخلاق المراهقين من أمثالي..
بعد إطلاق سراح ابن عمتي، ارتحنا جميعا من هذا الضيف الثقيل مدة أسبوعين.. لكنه ما لبث أن عاد بتبريرات تتصل ببعض الملفات، أو بسبب عروض منتظرة، سمع عنها في كواليس بعض الوزارات بالرباط.. في أحد زياراته تلك كان مزهوا بنفسه بشكل مبالغ، لأنه، حسب ادعائه تلقى خبرا من نسيبه يهنئه فيه بمنصب وزير في الحكومة المقبلة، إثر تعديل يدخل على الحكومة الحالية.. وحسب ما يبدو فقد لقي الخبر ترحيبا قويا من طرف أبي وأمي، إلى درجة أن أبي صار يخاطبه بلقب معالي الوزير.. لذلك انقلب موقف والدي فجأة وأصبح متحمسا لكل شيء له علاقة بالمحامي، كما أصبح حضوره لبيتنا مرغوبا فيه.. وقد فسرت هذا التحول بطمع الوالد في الخدمات والتدخلات التي سوف تستفيد منها الشركة بعد تنصيب المحامي كوزير، خاصة أنه سيكون ممثلا عن نفس الحزب..
ولما كانت الغرف الأربعة المخصصة للضيوف تقع في نفس الطابق الذي تقع فيه غرفة نومي، فقد اعتدت على سماع النقاش والغناء والضحك وبعض الصخب أثناء الليل في غرفة الضيف، كما لو أن الجماعة تنقل أنشطتها إلى غرفة نومه، خصوصا لو جلست في البلكونة المطلة على المسبح والحديقة بسبب حرارة الصيف..
في إحدى تلك الأمسيات، كنت جالسة في البلكونة أتنفس بعض الهواء المنعش في منتصف الليل. كنت قد شربت بيرتين، مما زاد من عطشي وألهب صدري.. شعرت بضيق شديد.. فتشت في ثلاجتي الصغيرة عن الماء فلم أجد ما يسعفني ويخفف من عطشي.. قررت النزول للمطبخ.. حملت قنينة ماء باردة بسرعة وعدت مسرعة لغرفتي.. فجأة خيل لي أني سمعت عندما مررت أمام باب غرفة الضيف، صوت كلبة أمي التي لا تفارقها.. اقتربت أكثر من الباب، فبلغني صوت أمي.. وضعت أذني متجسسة لعلي أسمع صوت أبي أيضا.. كانت أمي تتحدث وحيدة مع المحامي..
= أووووف... دعني أعيد كلبتي لمكانها المعتاد، لأنها بدأت تزعجني.
= مسموح لكن بشرط أن تعودي.. ما زلت مشتاقا إليك
= بالطبع سوف أعود.. أنا أيضا ما زلت مشتاقة إليك.. لدي مفاجأة جميلة لك، هذه المرة لن أعود بمفردي.
سمعت مباشرة صوت خطوات تقترب من الباب.. كدت أصعق في مكاني.. التفت نحو الأدراج وقفزت مسرعة في اتجاهها. فتحت أمي الباب عندما بدأت النزول..
= نورا.. ما ذا تفعلين هنا في منتصف الليل؟
= أأأ... شعرت بالعطش ولم أجد ماء في غرفتي.
أجبتها دون أن أتوقف، حاولت استرجاع هدوئي دون تمكينها من اكتشاف تلصصي عليها، أو ملاحظة ما كنت عليه من الاضطراب.
= هيا أسرعي وعودي لغرفتك،
أسرعت نازلة أكاد أقفز.. كأن ثقل الصدمة يدفعني للغرق في بحيرة آسنة.. تناولت من الثلاجة قنينة الماء وعدت لغرفتي بنفس السرعة. كانت أمي قد اختفت بداخل شقتها. تركت باب غرفتي مواربا وأطفأت النور وجلست على كرسي أمام مدخل الغرفة.. كان الفضول يدفعني لمعرفة ما سيحدث بعد رجوع أمي.. كنت أنتظر المفاجأة التي أعلنت عنها.. تهاطلت علي الأسئلة كشلال جارف. ما الذي تفعله أمي في منتصف الليل وحدها بغرفة الضيف؟ ولماذا يلح عليها كي يضمن عودتها إليه؟ وما هي المفاجأة التي وعدته بها؟ وما هو موقف أبي مما يحصل؟ كيف يتركها تسهر في جلسة خمر مع شخص غريب حتى لو كان هو محامي الشركة؟
استحضرت ما سبق أن حكاه لي جمال عن شبق أمي وشهوتها الزائدة.. تذكرت نصيحته حين قال لي :
=... لا تغمضي عينيك يا نورا، حتى لا تصابي بصدمة نفسية حين تكتشفين حقيقة أمك بنفسك..
بدأت تتضح لي الحقيقة. تجاوزت مستوى الشك لأن القرائن والحجج كثيرة.. لهذا جلست في الظلام أرقب عودتها.. تمنيت لو تكذبني ولا تعود..
جلست حائرة لا أدري بالضبط حقيقة مشاعري في تلك اللحظة.. أصدق أم أكذب ما تراه عيني وتسمعه مشاعري قبل أذني. بعد حوالي ساعة تقريبا، بلغني صوت حفيف أقدام تنسحب بحذر فوق البلاط.. فتحت عيني جيدا لعلني أرى من فجوة الباب ما يجيب عن أسئلتي.. وليتني لم أفتحها.. رأيت أمي قادمة تتبختر في قميص نوم براق يلمع تحت أضواء خفيفة تنبعث من نوافذ بعيدة منسلة من أنوار الحديقة.. يبدو أن أمي غيرت بذلتها الرياضية التي كانت تفضح كنوزها بإخلاص مفرط. ثم عادت محيطة جسدها بثوب البيجامة الحريري الذي يظهر أكثر مما يخفي.. لا يبدو بثوبها هذا أنها عائدة لجلسة نقاش أو تدارس أرقام ومشاريع. أما الطامة أو المفاجأة المنتظرة فهي أني شاهدت أبي ينسحب خلفها لابسا سروالا قصيرا وتي شورت فقط.. أعرف أنه يحرص دوما على الظهور بلباس مغربي تقليدي حين يكون بالبيت وأنه لا يقبل حضور أي لقاء عملي بهذه الصورة..
نقرت أمي على الباب نقرتين ثم فتحته وتركته خلفها مواربا ريثما تبعها الوالد المحترم.. لكن العجيب أني سمعت بعد دخوله صوت مزلاج الباب يوصد من الداخل. قلت في داخلي، هذه حركة الغرض منها ضمان الخلوة بغير رقيب، إذ ليس من عادة أي من سكان البيت أن يقتحموا الأبواب المغلوقة على أهلها بدون ترخيص. مع هذا الاستنتاج تقوت شكوكي وتخيلاتي. اسرعت نحو الباب من جديد أتابع ما يمكن من الأصوات.. وإذا بالمحامي يرحب بأبي في بيته قائلا:
= أهلا بحضرة المدير.. فعلا مفاجأة سعيدة، ها قد بدأت أخيرا تتواضع وتفكر بطريقة عملية..
= قلت لك سابقا لا تستعجل... كنت شاعرة أنه سيتغلب على تردده ليقبل الحضور معنا يوما ما..
= تفضل أرجوك، لا مبرر للخجل.. خذ كأسا استمتع معنا كما تشاء.. يسعدنا حضورك الليلة.
نزلت الكلمات كالزلزال في أذني.. سارعت عائدة لغرفتي. لم يبق هناك أي شك. ولا يمكن لي تحمل صدمة أقوى وأفضح من هاته التي سمعت..
لم يكن من السهل على فتاة مراهقة مثلي أن تجد نفسها فجأة في موقف صادم كهذا. كيف لي أن أتقبل سقوط المثال الذي من المفروض أن أحتمي به وأتخذه قدوة لي في الحياة؟ كدت من هول الصدمة أن اصرخ لنشر الفضيحة ومنع استمرارها.. ها هو أبي يبين بالمكشوف أنه متواطئ في نفس الجريمة. هل بلغ به الطمع إلى درجة استعمال جسد زوجته للحصول على مكاسب مادية؟ هل كل الذي كنا نراه من لقاءات واجتماعات سياسية ومشاورات سببها الجشع والطمع والرغبة في تضخيم الثروات فقط؟ الأن فهمت انتقادات إلياس للحزب وتذكرت كيف أني اعترضت عليه من قبل.. كيف لأبي أن يتحمل منظر مشاهدة زوجته المحبوبة في حضن الضيف غير العزيز، تضحك وتمارس وترتعش وتبكي من اللذة؟ ألا تشفع له أصوله الصحراوية أن يكون مثالا في هذه الأمور التي تجعل النساء تركع لمن يملكها؟ كيف لأمي نفسها أن تضحي بسمعة وشرف الرجل الذي أنقدها من صدمة حبيبها الذي تركها تنتظر عودته وتزوج من ابنة رئيسه؟ هل بلغ الضعف بالكبار إلى درجة الاستسلام للغرائز والشهوات بلا حساب أو بلا قوانين؟ أم أن هناك قوانين أخرى لا يعرفها سواهم، تبيح لهم أن يحطموا كل التقاليد والأعراف؟
لم يبق لي سوى أن أتصنع السقوط من أعلى الأدراج مصحوبا بصرخة مدوية، ربما يؤدي انتحاري لتوقيف الجريمة قبل أن تستفحل.. لكن من يضمن لي أن الجريمة لم تكن وقعت مرارا قبل تلك الليلة؟ ربما الشئ الجديد فيها، أن الإخراج فقط تغير بدخول والدي للحلبة بعد تردده السابق.. عدلت عن فكرة الانتحار لما تخيلت أنني سأكون ضحية لا قيمة لها.. فمن يبيع زوجته مقابل الربح المادي لن يهتم بانتحار ابنته.. الحي أبقى من الميت كما يقال.. أدفن وتعود حليمة لعادتها القديمة.
بعد حين، تلقت أذناي صوت ضحكة أنثوية صاخبة، تبعتها أصوات متداخلة فيها نفس التأوهات والأنين الذي سبق لي سماعة من أسماء وصاحبها علال في قمرة الباخرة داخل البحر.. صرخة أعادتني إلى الموقف الغريب الذي كنت غارقة في تتبع فصوله رغما عني.
اكتشفت أني أضيع وقتي وأني لن أتمكن في كل الأحوال من فعل أي شيء.. كل ما توصلت إليه وقدرت عليه، هو أن أزور غدا محلات البازارات السياحية، التي يشرف عليها خالي، علني أحظى في بعضها بلقاء جدتي.. لم أفكر بالطبع في نقل ما يجري إليها كي لا أصدمها أو أتسبب لها في سكتة قلبية.. كان غرضي هو اللجوء إلى الأصل ومنبع الفخر والصفاء.. لعل ابتسامتها البريئة تهدئ من احتراقي وحيرتي..
الجزء رقم 8
تأكدت من عجزي وخيبتي.. انسحبت عائدة إلى غرفة النوم.. جلست على نفس الكرسي دون إغلاق الباب بالكامل.. كنت أتحرك وأتصرف بطريقة أوتوماتيكية لأن اكتشاف مزيد من الخيانة أصبح لا يهمني.. أتحرك كآلة مسيرة عن بعد لا تفقه ما تراه العين وتسجله الأذن.. الأمر يتعلق بمصيري ومصير أسرتي، وهو مصير لم يعد ثابتا أو باعثا على الافتخار. الخيانة فعل شنيع غير مقبول، فما بالك في حالة الخيانة المزدوجة.. تذكرت حالات وحالات، كلها انتهت بالتسامح لأن المتهم فيها رجال.. المجتمع العربي يتساهل نوعا ما مع خيانة الرجل.. يكفي أن تتنازل الزوجة، فيطلق سراحه ليسوي أحواله معها ومع أسرته.. يدافعون عن تساهلهم معه بمبررات من قبيل أنه رجل، وأنه مسؤول عن عائلة وأبناء، ولا يعقل إنزال عقوبات قاسية عليه.. بينما خيانة الزوجة تواجه بالقسوة والتشدد من الجميع، حتى في حالة تسانح الزوج وعفوه عن زوجته، تستمر معاقبتها وتأديبها.. وكل ذلك إمعانا في التحكم في الأنثى والانتقام منها حتى لا تنتشر الرذيلة والفساد في الناس..
غمرني حزن عميق وتاهت بي السبل والأفكار في كل مذهب حتى غفوت وغبت عن الوعي.. لم يمنعني جلوسي على الكرسي من النوم.. لست أذكر كم مر علي من الوقت حين صحوت على صوت أقدام واشخاص يتكلمون.. فتحت عيني ورميت بصري عبر شق الباب الموارب نحو الممر.. كانت غرف الضيوف مصطفة على الجانب لأيسر منه.. أمام واحدة منها رأيت والدي وأمي يخرجان مترنحين.. يمسك أحدهما بالآخر بينما وقف المحامي شبه عار يودعهما ضاحكا.. كادت أمي أن تسقط لولا أن أبي أمسكها. كانت تريد أن تستدير لتسير نحو جناحهما في الواجهة الأخرى عند نهاية الممر.. كانت خطواتهما، خصوصا أمي تقول كل شيء.
عقارب الساعة المعلقة فوق جدار غرفتي تشير إلى الخامسة صباحا.. منظر أبي وهو يخرج من غرفة المحامي أحدثت لي ثورة وقلبت كياني ووجداني.. لم يبق من هيبته سوى خيال منسحب لا قيمة له.. لم أعد أنظر لأمي أو أحملها مسؤولية ما يقع.. إذا حضر القواد لا تلتفت الأنظار للضحية. هي مجرد جسد ممتثل للأوامر، حتى ولو كان للغرائز الأنثوية دورها.. حتى ولو كانت هي المستفيد من العملية.. خيانة أمي حاصلة بإذنه وإرادته.. أراها الآن مثل حشرة قاتلة فوق رأسه.. كيف أختبئ من الفضيحة وقد صار أبي حشرة في نظري، وأصبحت أمي المقدسة مجرد عاهرة مدفوعة الأخر، تفوح منها رائحة الشهوة؟ كيف يمكنني العثور على تبرير واحد مستساغ قابل للهضم؟ تبرير يقنعني بالبقاء لحظة واحدة في جو خبيث كهذا؟ هل بوسع البكاء وحده أن يخلصني من الورطة؟
تبدو لي جدتي هي المخلص الوحيد الممكن.. لكن حتى لو كان مزاجها كالعادة يدفعها لتقديم المساعدة لكل المحتاجين، فإني لن أستطيع إبلاغها بالحقيقة كاملة.. لم يبق لي سوى جمال أو إلياس.. في الأخير استقر اختياري على زيارة جمال، لأنه أول من حذرني ولفت انتباهي للصدمة قبل أن أجد نفسي غارقة في حبالها العفنة.. أما إلياس فربما لن يتقبل مني اتهام والده وإقحامه في حدث غريب كهذا..
أسرعت لحاسوبي أفتحه لأبعث رسالة إلكترونية لإلياس.. شعرت بحاجة ملحة لفلسفته وتحليلاته علها تنقدني من الحيرة وكثرة السؤال.. فتحت البريد وكتبت:
عزيزي إلياس، تحية طيبة وبعد
لا تدري كم أشتاق لرؤيتك من جديد.. أمر هذه الأيام من مأساة عائلية حطمتني.. كم يسعدني لو تجيبني على سؤال كبير يحيرني..
هل الكبار الذين نقتفي آثارهم، ونطبق أفكارهم وأوامرهم كلهم مجرد محتالين وممثلين، يفعلون ما لا يقولون؟
أغلقت الحاسوب ولجأت لفراشي ألتمس راحة النوم لو أستطيع إليه سبيلا.
تمنيت لو أني كنت ميتة قبل هذه المأساة..
في الصباح، بمجرد أن استيقظت، خرجت مباشرة متجهة نحو شقة جمال، ابن عمتي.. ليس من أجل أن اشتكي وإنما للهروب فقط من الحيرة والعذاب..
كانت هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها منذ أن غادر السجن.. حين فتح لي الباب بدا بشوشا وقد حلق لحيته وعاد يلبس )تي شورت( وسروال بذلته الرياضية من نوع )نايك ( سلم علي بسرعة وعاد نحو المطبخ.. كان المكان مكهربا ومضطربا.. لمحت ثلاث رجال بغرفة الجلوس منهمكين في إعادة ترتيب الديكور.. أما المطبخ فبدا أن كل شيء فيه قد تغير. حتى صباغة الجدران تبدلت.. كانت الشقة كلها عبارة عن ورش مفتوح، كما لو أن صاحبها يستعد للزواج.. تبعته فلما وصلنا لوسط المطبخ التفت نحوي:
= أحب أن اشكرك كثيرا.. اشعر نحوك بالخجل.. كم تاثرت بكل ما صدر منك من مساعدة أثناء اعتقالي، لا أدري كيف أرد لك الجميل.
= هذا واجب، أنت فرد من العائلة.. ثم لا تنس أني لم أفعل شيئا. عليك في الحقيقة أن تشكر التي ساعدتك بالملموس...
= تقصدين أمك بدون شك.. لقد شكرتها فعلا
= دعنا نبتعد عن هذا الضجيج.. أشعر بالاختناق، هيا بنا نتناول الفطور بالخارج لو سمحت
= كما تحبين.. فترة ثم أعود إليك
في طريقنا إلى المقهى، لاحظت أنه يطيل النظر إلي ويبتسم.. كان ممسكا بذراعي.. فجأة توقف عن السير ليباغتني بسؤال:
= أرى أنك لست على ما يرام.. يبدو أن شيئا ما يضايقك. هل هناك سوء تفاهم جديد مع أمك؟
فاجأني السؤال.. تملصت منه مخلصة ذراعي من كفه لمواصلة السير متجاهلة سؤاله المحرج.. لحق بي دون إلحا، بينما أتاح لي صمته فرصة للتفكير.. تساءلت بداخلي.. " ترى ما الذي جعله يربط قلقي وحيرتي مباشرة بتصرفات أمي؟" هل الأمر مجرد توارد خواطر أم أنه على معرفة ببعض ما يدور داخل أسرتنا؟ هل تكون له صلة بأمي؟ زادني الموقف حيرة واضطرابا.. شعرت بدقات قلبي ترتفع وأحسست برودة ثلجية تغمرني رغم حرارة الجو..
= لماذا تفسر حالتي دائما بتصرفات أمي؟ سألته
= لأني توقعت أن تكوني الشخص الوحيد الذي يزعجه التردد المستمر لحضرة المحامي على بيتكم
= من أخبرك أنه يتردد دائما على بيتنا؟
= هذه أشياء لا تخفى.. دعينا الآن نفطر بهدوء، وسأحكي لك عن بعض المستجدات التي للم تصلك بعد.
قلت في نفسي وأنا أتناول فطوري، لو كانت الفضيحة قد وصلت لجمال بهذه السرعة، فلن يمنعها أي شيء من الانتشار.. بعد قليل ستغدو مثل مأدبة يلتف حولها الجميع.. لحسن الحظ أن جمال شخص كتوم لا يحب النميمة. زيادة على أن علاقته بالأسرة علاقة مصالح، فهو أكبر مستفيد من جدي وجدتي وأمي.. لهذا لن يكون من صالحه أن يتحدث عنا بسوء. كان أول شيء ارتسم بذهني، أنه لا شك على صلة مستمرة بأمي، وأنها تلجأ إليه لأسباب لا أعلمها. كنت مستعجلة لسماع ما سيقوله جمال، مما جعلني أنهي فطوري بسرعة.. ثم نطق أخيرا فقال:
= قبل عدة أيام زارتني أمك. اعتقدت في البداية أنها تزورني لنفس الغرض القديم، لكنها فاجأتني بتقديم مشروع متكامل.. لكن قبل أن تعرفيه أود تنبيهك للطبيعة السرية للمشروع، فقد ترجتني أمك ألا أخبر أحدا عن وجوده حتى لا يعلم أبوك بأمره..
سكت قليلا لترتيب الأفكار في ذهنه، ثم واصل حديثه بتسلسل سريع كشلال منهمر:
= أظن أن أمك تبحث عن تكفير بعض أخطائها. هذا ما استنتجته على كل حال.. يرتكز المشروع على جانبين.. الأول عبارة عن مكتب للدراسات المعمارية، حيث كما تعلمين، تعتمد شركة الوالد عندما تتوصل بأي عرض جديد، على بعث ملفاتها لأحد مكاتب الدراسة بالرباط أو البيضاء، وهذا يكلف الشركة مبالغ هائلة كل مرة.. وقررت أمك تأسيس المكتب هنا بمراكش. أما عن المسؤولية فقد أصرت أن أتحملها أنا نظرا لثقتها في شخصي، وقد تعاقدت مع ثلاثة مهندسين وكاتبة محترمة وعبد ربه.. وسيتم تطويره بحسب ما نحصل عليه من ملفات العروض، سواء من شركة الوالد أو غيرها..
= لكنك لا تملك خبرة ودراستك لا علاقة لها بالمعمار أو البناء عموما. قلت له مقاطعة. فرد علي بسرعة:
= لا تقاطعيني أرجوك، سوف أبذل المستحيل لأوضح لك الأمور بتفصيل.. المهم، لقد أبديت لأمك نفس الملاحظة، لكنها طمأنتني قائلة، أن معرفتي ومستواي العلمي خاصة بالرياضيات والفيزياء سوف يساعدني على الإحاطة بكل الصعوبات والخاصيات، ثم إني لن أتحمل أي مسؤولية تتعلق بالأمور التقنية، حيث أن هذا الجانب سيتكلف به المهندسون.. المهم، أقنعتني فقبلت تحمل المسؤولية خاصة أنها وعدتني أن تقوم بزيارات أسبوعية للمكتب لمتابعة الإنجاز ريثما أهضم وأتبحر في المجال.. وقد خصصت لي بالمقابل أجرا ثابتا إضافة لنسبة من الأرباح..
أما الجانب الثاني للمشروع، فهو أنها حرصت على تخصيص نسبة مهمة من الأرباح للأعمال الخيرية والإنسانية، وقد كان هذا الجانب هو ما جعلها تلجأ لي، كما أنه ساهم في اقتناعي كذلك.. لكن.. ثم صمت عن مواصلة الكلام، وعاد يركز نظره بطريقة غريبة على وجهي. مرت لحظة وهو مثبت نظراته في عيني قبل أن يقول:
= لا أدري كيف أحكي لك البقية، فقد كان لأمك وجهة نظر أخرى مرتبطة بالمشروع.. سأعترف لك بها بعد أن أحكي لك ما دار بيننا من كلام كثير.. فقد فاجأتني بعد الانتهاء من تفاصيل المشروع، بأنها انخرطت في البكاء.. لم يكن هناك من داع لكي تجهش بهذا الشكل.. أصابتني المفاجأة باضطراب وحيرة، سألتها عن السبب. لكنها كانت تمسح دموعها وتشير لي بكفها كي أصمت وأكف عن السؤال.. بعد قليل بدأت تتحدث والتمست مني أن أستمع لحديثها صامتا بدون تدخل..
كفت عن البكاء، ونظرت إلي نظرة غريبة تمزج بين الحب والندم والاضطراب.. كانت الدموع تنحدر من عينيها بصمت.. حين تشجعت واصلت حديثها.
= إسمعني جيدا يا جمال.. أرجو أن تفهمني. أنت تعرف أني خسرت الحب بسبب إخلاصي وسذاجتي. لهذا باختصار، يجب أن أنجح بكل الطرق لربح جسدي.. تعلم أني عانيت جراء الغدر واستسلمت للبكاء مطيعة راضية بحظي المتعثر.. تزوجت بدون حب.. قدمت كل التضحيات المادية والمعنوية لزوجي وحياتي.. لكن نتيجة الصبر والمعاناة أشعلت نيران الجسد وأغرقتني في حب الحياة بشهية نادرة.. لم أعد قادرة على كبت رغباتي أو الحيلولة دون تنفيذها.. لم يعد عمري كافيا لمزيد من الصبر وتحمل أخطاء لم أرتكبها.. الجميع يعلم تفاصيل قصتي مع المحامي.. هذا الذي عشقته في فترة صعبة من حياتي.. لقد كنا حبيبين عاشقين بمباركة العائلتين.. بحيث تربى صغيرا معنا في بيت والدي.. كان غاية في اللطف والاحترام والحشمة والوقار.. مثل أي ولد من أبناء الأسرة.. الجميع علم بقصة حبنا، وإلى حدود أيام قليلة قبل تخرجه من كلية الحقوق والقانون، كانت إجراءات زواجنا تتم على قدم وساق.. كل المدينة والأعيان، وكثير من أصدقائنا هنا وهناك كانوا يستعدون لحضور زفاف لم تعرف الجهة مثله من قبل.. لكن القدر كان يحضر لي مفاجأة لم تكن في الحسبان..
فقد اختفى العريس بغتة عن الأنظار، وانقطعت عنا أخباره.. كنا نعرف أنه أنهى الدراسة ولجأ لمكتب أحد المحامين المشهورين بالرباط ليمارس تدريبات المهنة.. لكن لا شيء أكثر من هذا.. لم يكلف نفسه حتى أن يخبرنا عن أسباب اختفائه أو تراجعه.. اضطر والدي للسفر بنفسه للرباط ليعلم حقيقة الخبر.. طلب رؤيته في مكتب المحامي فتهرب بكل الطرق من لقاء أبي.. وبعد إلحاح شديد، بعث له رسالة مع كاتبة المكتب. يعتذر فيها عما حصل ويتمنى لي ولأسرتي كامل التوفيق في الحياة.. كانت الصدمة قوية كاد والدي على إثرها يفقد صحته وصوابه.. عاد خائبا من سفره وكتم عنا الخبر حتى فهمنا بالفطرة حقيقة الأمر..
أما الحقيقة، فهي أن الأستاذ صاحب المكتب، تم تعيينه ليشغل منصبا ممتازا داخل القصر لدى أكبر سلطة بالبلاد.. فكان أن انتبه حضرة المحامي المبتدئ للفرصة كي يتقرب أكثر من أستاذه.. انفتحت له دون توقع مسبق، أبواب الشهرة والنجاح فأمسك بها دون تردد.. وكانت الضحية هي أنا وعائلتي وسمعة والدي وصحته..
دفعتني الصدمة للهروب من الحياة والناس.. أوقفت دراستي دون الحصول على شهادة الثانوية العامة.. عبثا حاول الجميع إقناعي بشتى الطرق أن أتحمل الصدمة وأقبل المصير العاثر.. لكن المأساة كانت أكبر وأقوى.. عزلت نفسي في غرفة ضيقة لا أغادرها لفترة طويلة.. تم عرضي على طبيب نفسي ليساعدني على تخطي الأزمة والخروج من الصدمة. كان يدفعني لاسترجاع الثقة في نفسي وجمالي وفي مكانتي الاجتماعية.. مع المدة بدأت أشفى وأنسى لكن نار الحب تخمد تحت الرماد ولا تموت أبدا..
سكتت قليلا لتسترجع أنفاسها وترتب ما تبقى لديها من الأفكار.. بدا أن ركام الذكريات الأليمة يدفعها للبكاء. ثم واصلت حديثها:
= هنا ظهر زوجي. كان شخصا مثابرا ونشيطا من أسرة غير معروفة قادما من جنوب البلاد.. كنا نراه باستمرار ولا نكاد ننتبه لوجوده.. إلا أن ذكاءه الفطري وقوته الجسدية قربته من صداقة أخي كمساعد موثوق وصادق.. وبسبب عمله وإخلاصه كسب ثقة أمي وأبي.. وحدث ذات مساء أن استعمل أخي كوسيط ليتقدم لخطبتي.. كنت صغيرة لا علاقة لي بالحياة. رأيت في المناسبة فرصة تغيثني وتعيد لي ثقتي بنفسي وكرامتي كفتاة ذات حظ من الجمال، لكنها بلا أدنى حظ من الحياة العملية.. كنت بالكاد أغادر مراهقتي، لم أبلغ الثمانية عشر من العمر بعد، فقبلت طلبه بلا تردد أو تفكير..
هنا أعترف بأن زوجي رجل حقيقي، ذو همة وطموح. لم أر منه غير اللطف والتفهم والحب الصادق. كل تصرفاتي المطعون فيها لا دخل له فيها ولا تأثير.. بل بالعكس، كان رجلا متفتحا لا مثيل له في كل الرجال الذين أعرفهم.. حرص من أول سفر لنا قمنا به لشمال البلاد، أن يعرفني على أماكن وفنادق لم أسمع بها.. أدخلني بسرعة للحياة بأوسع المعاني.. لم يكن غيورا ولا كثير الشك.. كنا نجالس رجالا لا نعرفهم ويدفعني للتدخل والمشاركة في الحوارات مهما كان الموضوع.. علمني كيف أضحك وأجمع النكت والمستملحات.. وعلمني أن أرقص وأستمتع بجمالي في كل السهرات والأسفار، وكيف أكون أنثى بلا خجل من نفسي، ومما تلقيته من تربية طيلة عمري.. علمني أن ألبس بشكل مغاير لما هو سائد من حولي، حتى أن أبي استغرب لتحولي ودفعني دفعا لمغادرة بيته إن لم أتراجع عن نوعية ما ألبسه، وعن الإكثار من السهر هنا وهناك، في مدينة صغيرة يعرفنا الناس فيها أكثر من معرفتنا بأنفسنا.. كان وما يزال من واجبي أن اشكره لأنه أنقدني من الضياع.. ويكفي أنه إلى اليوم يسهر علي وعلي ابنه وابنته بكل ما يلزم مما نحتاجه وما لا نحتاجه أيضا.. وفر لنا كل ما يشتاق له الناس في زمن الاستهلاك..
كان الفضل الوحيد لي عليه، أني حمسته وشجعته منذ البداية ليجتهد ويحسن حالتنا جميعا حتى لا نبقى عالة على أبي وأمي وخالي.. حاولت إقناع أمي التي لم أجد معها أي صعوبة كي تتوسط لنا عند أبي.. جمعنا أموالا كافية لإنشاء وكالة صغيرة مختصة في بناء البيوت.. بعدها استعملنا كافة الإغراءات، سياسية وتجارية وحفلات وإكراميات كي نحصل على نصيبنا من كعكة الإدارات ومشاريعها الكبرى.. ثم التحق بنا المحامي بدوره عندما ظهرت له أرباح الوكالة.. أصبحنا شركة ذات أبعاد وطنية ودولية، بفضل حماس زوجي واجتهاده وعلاقاته الجديدة..
عندما بلغت الأخبار للمحامي، عرض علينا بواسطة اتصال مباغت غير منتظر، خدمات لفائدة الوكالة.. انتقل زوجي للرباط لدراسة اقتراحات وعروض المحامي.. كان يعرف من قبل قصتي مع الرجل لكنه لم يعر الموضوع أهمية.. كان هدفه الوحيد هو مدى الاستفادة المرجوة من العلاقة، واختبار مصداقية المحامي وشروط التحاقه كشريك بنسبة مهمة في أرباح الشركة.. والحق يقال، ما لبثنا أن تأكدنا من صدقه بعد تهاطل العروض من خارج الوطن على الشركة. ولما كان النجاح والمال طعما لا يقاوم، فقد كان من السهل معانقة اليد الممدودة بغض النظر عما حصل في التاريخ.. أصبح ظهور المحامي كالريح العاصفة التي نفخت من جديد في رماد الحب، حتى أعادت للجمر حرارته ولهيبه القديم، وخلخلت أعماق الجثة الميتة في نفسي..
أصبحت من أول وأكثر المدافعين عن ربط المحامي بالشركة، لا كمحام فقط وإنما بموجب عقود أيضا. صارت الشركة تتوفر على أزيد من عشرين مهندسا متخصصا. بعضهم في الطرق، وبعضهم في بناء السدود، وأخرون في القناطر والأنفاق.. تضاعف رأسمالها أضعافا مضاعفة بفضل التحاق المحامي بها.. هكذا كسب عطف الجميع وحبهم حتى نسي الكل قصته القديمة، واعتبروها سقطة عادية لم يكن بوسعه تفاديها.. كنت أنا الوحيدة التي تحس بكرامتها الجريحة تتلوى وتتقلب وتعاني، وتحاول في كل الزوايا أن تنتقم. لم أكن أعرف بالضبط كيف أنتقم لكني حملت الضغينة في قلبي وانتظرت الفرصة تلو الفرصة. ثم سرعان ما اكتشفت أن الربح والعمل لهما جاذبية أقوى من الكرامة فبدأت أستسلم.
فجأة دخل الحزب للحكومة.. ودخل زوجي والمحامي للمكتب التنفيذي للحزب، كما أصبح له أغلبية نسبية داخل البرلمان. وظهرت دائما إشاعات تلحق المحامي بمنصب وزاري، أو هكذا كنا ننتظر ونتصور أنا وزوجي ومعنا الشركة..
ظل سيادة المحامي هادئا لا يبالي.. يتصرف بنفس الطريقة القديمة.. يكبر في نظر الناس ويصغر في نظري وحدي. كان متأكدا أن الوردة التي تتهادى أمام عينيه لا بد قريبا أن ينتهي بها الزهو إلى أصيص فوق مائدته. هكذا تعلم من الحياة أن الصبر يصب دائما كل الخيرات في مصلحته. بينما كنت أنا موزعة بين جمرتين، الحب والرغبة من جهة، والكره والانتقام من ناحية أخرى. هو وضع أحسد عليه طبعا، لكني لا أخفي أنه وضع أشعلني وأحياني. أصبحت حتى خلال معاشرة زوجي في الفراش أتخيل أن سعادته تحتي، تمكنت منه وسيطرت عليه وجعلته يندم على ما مضى، وبمجرد إفراغ شهوتي وإنهاء الممارسة أحس بالندم وأغتسل فورا كأني أتخلص من رائحته التي أحملها في خيالي..
من ناحيته، كان يتحرش بي في صمت.. كنت أحس به يتلوى ويعاني، خصوصا عندما نسكر معا وأغادر لغرفتي.. كان يشتهيني كعاشقة محرمة.. ذلك الإحساس الغريب الذي يرفع من شهوة الرجال حين يتعلق الأمر بالظفر بزوجة رجل آخر.. بدوري، كنت أستغل نفس الصورة لأزيد شهوته وأعري نواياه.. أحس بأنه سوف ينفجر، لكن هدوءه وصبره يتغلبان على حماسي..
لكن تجري الرياح دائما بما لا تشتهي السفن. فقد ظهر عامل جديد، كان بمثابة عامل جديد سيحطم ويخلخل كل الأوراق.
تعرض زوجي لحادث سير بسيارته في إحدى الليالي.. كان عائدا من الرباط وشرب مع العشاء بعض الكؤوس.. انتهت الحادثة برضوض وكسر في أضلعه ورضوض في مقدمة ومؤخرة الرأس، وكسور في ركبته اليمنى.. لم نصدق أنه سينجو.. تحمل عبء عدة عمليات جراحية في الصدر والركبة والرأس.. لم يخرج منها ناجيا إلى اليوم.. بالرغم من كونه استرجع صحة الصدر والركبة، لكن إصابة الرأس كانت لها آثار قوية لم يشف منها إلى اليوم.. بحيث أصيبت خلايا وأعصاب وشعيرات دموية في الحوض، كان من عواقبها انعدام القدرة على الانتصاب، وحتى على الإنجاب..
كان من عواقب الحادث أن الشركة تأثرت قليلا بفعل غياب صاحبها.. لكني عالجت الموقف بأن دخلت بنفسي الميدان. كانت عودتي بالطبع مصحوبة بمساندة حتمية من المحامي بحكم شراكته، وبطلب من زوجي كذلك.. ومعنى هذا، أني صرت مضطرة للسفر صحبة معاليه سواء داخل أو خارج الوطن. اشتريت شقة بمدينة الرباط أستريح فيها وأبتعد عن الأقوال والإشاعات، بدلا من الإقامة بالفنادق. حرماني من الجنس مع زوجي، جعلني أتشهى وأفقد تدريجيا سيطرتي على نفسي. كل العوامل صارت تعمل لصالح الرجل، وتضعفني كل يوم أمام سلطته..
هنا، نظرت إلي وابتسمت. لتقول بأنها فكرت في تلك الفترة أن تهرب إلي عسى أن تجد عندي الخلاص من الورطة. ارتفع معدل شهوتي إلى شبق عارم.. فكرت مرارا في اللجوء إليك بالذات، تقول لي مباشرة هذا، كنت أحتج بالتدليك وأتحرش بك، لكنك رفضت.
ساءت أحوالي وزادت معاناتي. وأمام رفض حضرة سي جمال، أصبح خلاصي في الكأس والشراب حتى ساءت حالتي الصحية، بدأت أعجز عن مواصلة تماريني الرياضية. تحول هدوئي إلى عنف حتى مع العاملين في الشركة، وأولهم المحامي نفسه.. بدأ حضرته يحس أني بغضبي ونرفزتي أقترب منه كل يوم أكثر فأكثر. بينما أنا أندفع تدريجيا نحوه أحس مسبقا بالندم وأهرب للبكاء والخمر كل مساء.. ساءت أحوالي مع زوجي بالذات.. خاصة أنه بدأ بدوره يدفعني في اتجاه الاستسلام للمحامي.. موقف زوجي زاد من غضبي وردودي العنيفة، كان زوجي في نظري هو الحاجز المنيع الذي يجعلني كل مرة أرفض تحرشات سيادته. فإذا بموقفه الجديد يعريني ويدفعني بسرعة خارقة لأحضان سعادته.. كم لعنتك يا جمال لأني تخيلت أنك منقدي وخلاصي من نفسي وشهوتي..
ساءت المعاملات بيني وبين زوجي إلى حد لا يوصف.. بدأنا نخاف انعكاس سوء التفاهم على مصير الشركة.. بدا أن المستفيد الأكبر سيكون هو المحامي في كل الأحوال..
لم يقبل زوجي أن نفترق بإحسان، لأن الشركة ستضعف بالتفريق وتهدد الأسرة بالتشتيت..
اضطررت عندما بلغت الأمور هذا القدر من الضعف، أن أعترف له بأني سألح على جمال كي يعاشرني، وهكذا تبقى أسرار العائلة مستورة، لأن من مصلحة جمال أن يقبل. هذا حل يساعدنا على الصبر بعيدا عن سلطة المحامي، في انتظار ما وعدنا الأطباء به حين قالوا بأن عودة الانتصاب مسألة وقت، لأن لا أحد بوسعه أن يتنبأ بما يحدث في خلايا الرأس والأعصاب، وانعكاسها على وظيفة الجهاز التناسلي للرجل.. لكن زوجي رفض هذا الاقتراح للأسف، وعوضه بتصريح فاضح. بدأ يدافع عن المحامي. زاعما أنه بدوره شريك ومعرفة وعاشق قديم وجديد.. وعالم بأسرار العائلة، وهو محل ثقة إذ ليس في صالحه أن يتكلم بالسوء عنا.. أما سفره ومصاحبته الدائمة لي فهي ليست محط شك من أحد بما أن الجميع يعرف أنه شريك ومحامي الشركة الأول. ومن حقه حضور لقاءات وتوقيعات العروض ومتابعة الأنشطة والمحاسبة المالية والأرباح وغير ذلك من التفاصيل.
استجبت لرأيه مرات عديدة دون اقتناع كبير.. كنت بعد كل لقاء وكل ممارسة أحتقر نفسي، إلى درجة أني قلما أحسست معه بالشبع وبتفريغ مشاعري.. أحرص على الدوام ألا أعاشره إلا بعد السكر، أستسلم بين يديه شبه نائمة أو ميتة بلا إحساس.. سعدت لأني لم أتزوجه.. كما يقال " رب ضارة نافعة" لأني اكتشفت أنه مجرد فقاقيع.. كان زوجي أكثر فحولة منه بألف درجة لولا الحادثة.. كنت معه أصعد كل مساء لأجرام السماء أتجول فيها وأعود مسحوبة بريش الجنة إلى الراحة والهدوء.. والويل لجمال الذي عافني وجعلني أسقط برفضه..
ومما يزيدني كراهية لنفسي اليوم، أن الوضع أصبح رسميا، إذ أن زوجي بارك زواجي العرفي من المحامي إبان رحلتنا الأخيرة بالباخرة، في الفترة التي اعتقل فيها جمال.. كانت الرحلة بمثابة عرس واحتفال وتصالح مع الذات.. نسيت تدريجيا كراهيتي وكرامتي.. وانتهى الوضع اليوم إلى إقامة زوجي الجديد معنا في مراكش، في كل مرة نختلق أسبابا لحضوره ومكوثه.. بل صار زوجي المريض يصر على البقاء بجانبنا حتى عندما نمارس.. حتى أني بدوري تعودت على الوضع فصرت أستحثه للقيام بأدوار تسهم في شفائه المرتقب. تارة أجعله يستمني ونحن نضحك.. وتارة أسمح له أن يقبلني أو يتلاعب بصدري كسابق عهده.. وتارة يكتفي بالفرجة وحساب عدد الرعشات التي يتفضل بها علي حضرة الزوج الجديد.. لست أدري هل أسعد وأفرح بوضعيتي الفريدة أم أحزن، فقد صرت زوجة لرجلين حتى لو كان أحدهما لا يستطيع الانتصاب..
بدأت أحتقر نفسي من جديد بعد أن تجاوزت مرحلة الاحتياج.. إنه لأمر مقرف حقا أن أمنح نفسي للمحامي مع أني لم أعد أميل لمعاشرته.. من جديد صرت أتخيل نفسي بين أحضانك يا جمال.. سواء رفضت هذا أم قبلته فإني أمتلكك وأنكحك كلما حشرني الرجلان بينهما أو تفرج أحدهما على الثاني وهو يفترشني ويرفع نصفي الأسفل إلى السقف كي يبلغ بداخلي أبعد نقطة.. أحس أني عاهرة بلا كرامة.. بحجة المرض يدفعني زوجي لحضن رجل يضمن له الربح واستمرار صعود الشركة إلى قمة القمم. صرت مجرد عملة غارقة في أبشع صورة للفساد.. أمثل خيانة بالموافقة والتراضي.. أحس أن كل النساء من حولي يفعلن مثلي. بعضهن برغبتها والبعض الآخر طلبا للفائدة.. هكذا قبيلة قوم يعبدون المال ويذبحون ما ورثوه من تقاليد وقيم وأخلاق وأعراف.. يرضون بالمصير الأسود ولا يبيعون أنفسهم للحفاظ على وجود لا معنى للكرامة فيه.. قوم نراهم محصنين وأصحاب منزلة عالية بينما الدود في الأرض أشرف منهم. والمصيبة أنهم لا يهتمون بما يجري لهم لأن همهم الأكبر هو السياسة والتجارة وما يفضي بهم للربح المضمون، تماما كزوجي..
كل هذا وأنت متمسك بالرفض، كأن خالك وزوجته وعائلته الصغيرة والكبيرة لا تعنيك.. لهذا، جئتك بهذا المشروع.. سيضمن لك مدخولا تنال به الرضى من السماء، ويمتعك بحياة تليق بشاب جميل ذي طموح وأنفة مثلك.. أفضل أن تتزوجني أنت في السر على أن ألعب دور العملة في بيت خالك.. أنت الوحيد الذي يستطيع تفريغ شحنة توتري وغضبي.. أريدك وحدك، ستقبلني كما أنا.. أقولها لك بكل صراحة، لست أريدك للحب لأنه لا وجود له في الواقع.. أريدك لشبقي وشهوتي وجسدي فقط.. والآن فكر في المشروع جيدا، لأنك إن رفضت سوف أنتحر أو أغادر الوطن بلا رجوع..
الجزء رقم 9
عندما انتهى جمال من حكايته الطويلة، أمسكت كفاه بحافتي الطاولة المربعة الشكل.. ثم عاد بظهره للوراء، مما جعل ذراعيه وكتفيه تبرزان، وبدا صدره الرياضي يتحدى كل العراقيل والأقدار.. من حق أمي أن تفكر في خلع أبي والاستغناء عن محاميه في سبيل الحصول على هذا الصدر.. فكرت في الأخبار الجديدة.. من حيث المسؤولية عما وقع، طفت كفة أبي وانخفضت كفة أمي.. لم أسمح لنفسي بالعودة لسكة التساؤلات. انتبهت لجمال الذي كان ما زال مركزا نظره في وجهي، كأنه يعرف أني لا بد أن أناقش ما سمعت قبل أن أسلم وأقتنع.. لاحظ سكوتي فقال:
= هيا بنا نعود إلى البيت الآن.
= متى أصبحت أنانيا يا جمال؟ قلت له، أنهيت كلامك لكنك لم تسمع بعد رأيي في موضوع مشروعك مع أمي..
= إن كان لديك رأي أو تساؤل في الموضوع، تفضلي
= نعم، لدي أسئلة عديدة.. أرجو أن تتقبلها بدون توتر
= اعتقدت أنك متضايقة من كثرة الجلوس بدون حركة... هيا تفضلي
= هناك في حديثك أمور كثيرة تستدعي التوضيح، سأبدأ من المشروع. أسعدني أن أمي وضعت ثقتها فيك، لأنها لن تجد أفضل منك، خاصة إذا كانت تحرص على إبقاء نشاط المكتب في السر.. كما أن فكرة تخصيص قسم من مداخيله للعمل الخيري يستحق التنويه.. لكن للأسف، يبدو أن أمي تضع شرطا شخصيا في غاية الحساسية، حين ربطت تحقيق المشروع بقبولك لرغبتها في ارتباط غرامي معك.. هو ارتباط جنسي أساسا بدون عواطف حقيقية.. وحسب معرفتي الدقيقة بك، فقد كنت دائما ترفض تلبية شهوتها. لست أدري بالضبط موقفك من هذا الشرط، هل ستقبله أم ترفضه كعادتك؟
حين تجيبني سوف أنتقل لجوانب أخرى في حديثك..
= صحيح.. أنت على حق. فقد سبب لي هذا الشرط حرجا كبيرا.. وبكل صراحة، فأنا لم أحدد إلى الآن أي موقف.. أفكر جيدا في المشروع بشكل محايد.. ثمة ظروف وضغوط تحتاج مني للتركيز كي أفكر بشكل شامل. ماذا سأربح، وماذا سأخسر؟ كيف سأنظر لنفسي في حالة قبولي لهذا الشرط؟ هل يمكنني إيجاد تبريرات ملموسة تبيح لي أن أنخرط في القبول؟ هناك إكراهات تحاصرني.. فأنا أشك، في ظل ظروفي المادية، هل سأتمكن من إكمال دراستي في المجال الطبي؟ كما أني مدين لجدك وجدتك ووالدتك كثيرا فيما وصلت لتحقيقه إلى الآن.. وأستحضر هنا، ما أحسست به من تأثر لما رايتها تبكي وتجهش وتنتحب.. وحين هددت بعصبية مفاجئة بأنها سوف تنتحر أو تغترب.. هذا المنظر يعكس مدى ما بلغته من اكتئاب وتوتر.. حالة نفسية مضطربة في أخطر المراحل.. وتساءلت مرارا كيف سيكون موقفي وإحساسي ونظرتي لنفسي لو نفذت تهديدها؟
أخيرا، لا تنسي أن المشروع قد انطلق تنفيذه فعلا.. المقر موجود، والموظفون أيضا، وتم اقتناء سيارتين رفيعتين، واحدة منهما مخصصة لي، بصفتي رئيسا للمكتب.. إضافة لإصلاح الشقة وتزويدها بكل الضروريات وتأثيث المطبخ وغرفة النوم والصالون، وتخصيص راتب سمين لي.. باختصار، أمك عملت على محاصرتي من كل الجهات، ولم يعد بيدي أي مبرر للرفض.
= يعني أنك تقبل أن تبيع نفسك في سوق الفساد بأرخص الأثمان؟ ما ذا تسمي سيدة متزوجة، تشتري لنفسها بالمال خدمات جنسية؟ أليس هذا أحد أشكال الدعارة؟
= اسمحي لي أن أنبهك أن ما ترينه أرخص الأثمان، هو بالنسبة لي فرصة للنجاح الدراسي، ولإنقاذ أمي وإخوتي من الفقر والضياع.. ألا يستحق مني هذا وحده أن أضحي بقبول الشرط الوحيد؟
= يمكنك أن تنجح بمواصلة الدراسة بنفس الشروط الحالية.. فأنت لا تدفع مقابلا ماديا للكلية، ولا للسكن.. وحتى للتنقل والأكل، أنت فقط طماع وتبحث عن تبريرات لتقبل.. أما أمك وإخوتك فيمكنهم انتظار تخرجك لتحسين أحوالهم..
= ولماذا لا أغتنم الفرصة اليوم؟ من يضمن لي أن المساعدات التي أتلقاها ستستمر؟ لا يغب عن تفكيرك أن أمك لو رفضت ستنتقم مني بقطع المساعدة.. ويبدو أيضا من العجيب أنك تتعمدين تجاهل الحالة العصبية السيئة التي تعاني منها أمك..
= أمي هي المسؤولة عن وضعيتها..
= هكذا يبدو لك، هل هي التي أوحت للمحامي حين كان طالبا أن يتزوج فتاة أخرى ويتركها وراءه مثل خروف أجرب؟ هل هي التي ارتمت في أحضانه حينما عاد؟ فكري بهدوء، ستجدين أن الحل المريح منعدم تماما.. ليس من حقي أن أتقاعس عن تقديم المساعدة المطلوبة.. صحيح أن ما عرض علي يغري، لكنك لا تعرفين كيف كانت حالتها، وهي تبكي وتنشج.. أول مرة أشاهدها عارية بلا كبرياء، انمحت صورة تلك السيدة المتعجرفة المتعالية دائما، وحلت مكانها صورة امرأة عادية تتسول الرحمة والعطف والحب المفقود من حياتها.. تصوري أنها لم تبلغ هذه الدرجة إلا بعد أن استنفدت كل الحلول الممكنة.. لقد حطمت وهددت وضربت رأسها بالجدار حتى غابت عن الوعي.. كانت تريد إلقاء نفسها من الشقة.. هددت بالقضاء على الشركة والأسرة بكاملها.. قالت إنها لن تسقط وحدها.. لا أخفي عنك أني شككت عندئذ في سلامة عقلها. كان واضحا أنها لا تكذب أو تمثل دورها بإتقان.. كان منظرها يوحي بأنها لا تشعر بخطورة ما تقول، كانت مستعدة بالفعل لأي مخاطرة.. حتى تعبيرها عن الحب كان غريبا.. قالت لي وهي تبكي بصوت مرتفع، إنها تخشى علي من القتل، وأنع إن لم يقتلني خالي فستفعل هي ذلك.. قالت إنها منذ صدمة الحب الأولى تعلمت ألا تتنازل وتسمح في أي شيء يميل قلبها إليه.. وأن تعلقها بي لا يختلف عن حرارة الصيف الخانقة.. مستعدة لإحراق الأخضر واليابس. حرارة هوجاء تفرض نفسها دون استشارة أحد، لا ترحم أحدا في طغيانها. لم تترك لي الاختيار إلا شكليا، فقد هددتني إن رفضت بالقتل أو بترحيلي من العائلة خارج الوطن، أو متابعتي قضائيا بحجج مزورة..
= لنفترض أن ما تقوله مقنع، كيف ستتم عملية الزواج هذه في الواقع؟
= قالت لي أنها تفضل بقاء الزواج في السر، لهذا فتحت ورش تحديث وتجميل الشقة. حتى المشروع تفضل إبقاءه طي الكتمان، مع تدبير الوقت ليناسب مواعيد التلاقي بيننا.. ومن المضحك حقا، أنها تفكر بعد تمرير عدد من القرارات وتنفيذ مخطط جهنمي في التخلص من المحامي وإرغام خالي على قبول هذا الزواج، خاصة إن خبت آماله وتعطل شفاؤه من مخلفات حادثة السير المعلومة.
= ألم تقل شيئا عن مخططها الجهنمي؟
= لا لم تقل، لكني حين تمعنت وفكرت جيدا في خليط ما سمعته منها، بدأت أستشف أمورا معينة، ربما تكون عازمة على تدبير صدمة للمحامي، ولوالدك أيضا.. لأنها بالتأكيد لن تقف عند مشروع مكتب الدراسات المعمارية.. اشارت بسرعة لعلاقات تحاول ربطها مع أساتذة ومهندسين في نفس التخصص، ولعلها تنوي تأسيس شركة أخرى..
= لا أظن أنها يمكن أن تفكر هكذا، لقد تعودت على الامتثال لكل ما يخطر ببال والدي، إنه مثل الخاتم في أصبعها فلماذا تستقل بشكرتها؟ أظن أنها في حالة البحث عن حيلة قوية لتبتعد عن ضغوط المحامي قبل أن تفاجئه بطرده من حياتها..
= ربما، لكنها أخبرتني أنها بدأت تربط الاتصالات مع قنوات مهمة تتحكم في دوائر القرار الاقتصادي والسياسي بالبلاد..
= ألم تذكر لك بعض الأسماء؟
= لا، لأن الكلام ورد في سياق غضبها وتعصبها، لم تكن الظروف مواتية لأسألها عن تفاصيل ما تفكر فيه.
= أعرف أمي جيدا، لن تبوح لأحد بما تسره في نفسها، فقدت الثقة فيمن حولها تماما.. لكن أظنها ستتغير وتعود لمزاجها السابق لو قبلت شرطها.. دعنا الآن منها، أريد أن أعود بك إلى قصة الحديث، كيف تصدق ما قالته لك عن أبي؟ ما هي حجتها على ما تقول؟ ألا يمكن الشك ولو بنسبة قليلة في كلامها؟ يمكن أن تكون كاذبة أو مزورة في حالة وجود وثائق، رغبتها يمكن أن تدفعها لكل الطرق التي توصلها إليك.. كيف يمرض والدي ويفقد رجولته ولا يبلغني أي خبر عنه؟ لعلها اخترعت حكاية غياب الانتصاب لتبرر بها خيانتها فقط.. هل نسيت، أنت نفسك إلى أي قدر بلغت شهوانيتها؟ ألم تكن شاهدا على تحرشاتها؟ كل ما في الأمر، أنها مصابة بمرض الهوس الجنسي، أو الهوس القهري لا غير، وهو ما يدفعها للهلوسات والادعاء والوعود والتهديدات، يجعلها مستعدة للكذب والتزوير لتحقيق رغباتها فقط.. كيف تصدق أنها ستتخلص حقيقة من عاشق مضمون، لا يهينها ولا يجعلها تتوسل أو تتسول منه لقاء لإطفاء نار الشهوة كما تفعل معك؟
= لم أكن قادرا على طرح أسئلة عميقة مثلك، غلفت الغشاوة بصري، لقد فوجئت بمنظرها البئيس غير المعهود.. كما لا أخفي أن المشروع احتكر طاقتي وتفكيري..